الموسيقى والأبوّة والحب في عالم يتغيـّر

>  نور الدين محقق*
يقدّم المخرج المغربي محمد مفتكر، أفلاماً سينمائية مغربية قوية تغوص في تربة الميتولوجيا العالمية، كما تغوص في التربة المغربية المحلية بالعمق ذاته والقدرة ذاتها على المعرفة العميقة بالكتابة السينمائية، إن على مستوى تشكيل البناء السيناريستي باعتباره كاتباً للسيناريو السينمائي بإبداعية متميزة واحترافية كبيرة، أو على مستوى الإخراج السينمائي باعتباره أحد المخــرجين المغاربة البارعين في تقديم أفلام سينمائية انطلاقاً من تحكّم فني قوي يتّسم بالرؤية الفنية الموغلة في التجريد، كما هو الشأن مع فيلمه السينمائي الطويل الأول «البراق»، أو في التشخيص الاجتماعي القريب من الوجدان الشعبي مع الحفاظ على كل الأبعاد الجمالية التي عرف كيف يستعملها بنجاح سينمائي بهي، كما هو الشأن مع فيلمه الطويل الثاني «جوق العميين» الذي استطاع فيه الجمع بين الإبداع السينمائي الفني المتميز والاقتراب من عموم المشاهدين وتصوير قصة قريبة من عوالمهم الاجتماعية في الآن نفسه.
وإذا كان الفيلم السينمائي الأول «البراق» قد استطاع الحصول على العديد من الجوائز السينمائية المهمة، سواء داخل المغرب أو خارجه، فإن الفيلم الثاني «جوق العميين» استطاع هو الآخر نيل جوائز سينمائية عديدة. وما هذا سوى مؤشر مهم الى أهمية السينما ونوعية الأفلام السينمائية التي يقدّمها المخرج مفتكر، ويراهن من خلالها على تقديم سينما مغربية قوية سواء من حيث المعنى الفكري الذي تقوم بتشييده أو من حيث المبنى السينمائي الذي يتحكّم بعملية بنائها السينمائي الكلي.
 
بدءاً من الموسيقى
يحكي «جوق العميين» حكاية فرقة موسيقية شعبية تمتهن الغناء الشعبي في المناسبات العائلية، التي توجّه الدعوة إليها لإحيائها في شكل يلهب المدعوين ويشعرهم بالفرح. وتتكون هذه الفرقة من موسيقيين رجال كما من بعض المغنيات الشعبيات اللواتي يطلق عليهن لقب «الشيخات» في المغرب، دليلاً على قدرتهن الغنائية وتحكّمهن فيها، ويمارسن غناء شعبياً يطلق عليه اسم «العيطة» بمعنى «النداء».
هكذا يغوص هذا الفيلم السينمائي في العلاقات الاجتماعية المتشابكة بين أفراد هذه الفرقة، بحيث يتعرف المتلقّي المشاهد عليها شيئاً فشيئاً. فيعرف أن المشرف على هذه الفرقة هو الموسيقي الشعبي العازف على الكمنجة الحسين بيدرا، الذي لعب دوره باقتدار الفنان يونس ميكري، وأنه يسعى من خلال عمله هذا الى إعالة أسرته الصغيرة التي تتكون، إضافة إلى زوجته حليمة التي قامت بدورها الممثلة المتألقة منى فتو، من كل من ابنه الصغير ميمو الذي جسد دوره ببراعة الطفل إلياس الجيهاني، ومن أخيه عبدالله الشاب المتعلم ذي الانتماء اليساري والمنشغل بالمجال السياسي، والذي تقمّص شخصيته الممثل فهد بنشمسي، كما تتشكّل أيضاً من مصطفى، المحب للموسيقى والمنشغل بها سراً حفاظاً على منصبه الوظيفي الرسمي (قام بتجسيده الممثل محمد بسطاوي)، وذلك إضافة الى باقي أعضاء الفرقة الموسيقية التي كونت أسرة كبيرة في ما بينها، وتوحدت من أجل تحقيق متطلباتها البسيطة في الحياة.
ينبني هذا الفيلم على الموسيقى، بحيث تحوّلت فيه إلى مهنة ورؤية للحياة في الآن نفسه، ذلك أن الفنان الشعبي الحسين بيدرا وهو يؤسس فرقته الموسيقية الشعبية حاول أن يجعلها تهتم بالفن وتحافظ على سمعته، وقد تجلى ذلك في غضبه على إحدى المغنيات الشعبيات المشتغلات معه حين لم تنضبط لأخلاقيات هذه المهنة، كما منحها من وقته الشيء الكثير وسعى الى العمل على تقديمها في شكل شعبي بديع. لقد سعت الفرقة بقيادته، الى إحياء حفلات في الأعراس، حيث كانت تُستدعى على أساس أن أفرادها الرجال هم من العميان – المزيفين طبعاً -، وذلك حتى لا يتسنى لهم رؤية النساء وهن يرقصن ويتبخترن زاهيات. وسيبقى الأمر غير معروف إلى أن يتم اكتشاف أحد أفراد هذه الفرقة وهو يتابع بشهوة ملحوظة إحدى النساء. فيتم القبض عليهم بعد البلبلة التي حدثت في العرس، ولولا تدخل مصطفى، وهو رجل أمن، إذ يسعى إلى إنقاذهم من هذه الورطة، لما تمكنوا من الخروج من المعتقل.
 
حفاظاً على الأبناء
إضافة إلى انبناء عالم الفيلم على الموسيقى، انبنى بعمق كذلك على علاقة الأبوة والاهتمام المبالغ بالأبناء، وهو اهتمام تجسّد هنا في اهتمام الأب الحسين بيدرا بابنه ميمو (محمد) ورغبته في جعله يتعلم ويحصل على أعلى درجات العلم، بعيداً من أي اهتمام سياسي قد يورطه في ما لا تحمد عقباه. علماً أن الفيلم يتكلم عن فترة السبعينات. هكذا كان الأب يراقب باستمرار نتائج الابن مطالباً إياه بالحصول دائماً على النقطة الأولى. وهو ما دفع الابن بمساعدة عمه عبدالله، إلى تزوير نتائجه.
وحين سيكتشف الأب ذلك، سينال الابن عقاباً شديداً على يديه. بيد أن علاقة الأبوة والبنوة هنا، لا تتجلى فقط في عملية الحرص هاته على الدراسة، وإنما أيضاً ستشمل رغبة الأب في الاقتراب من عالم ابنه واصطحابه إلى بعض الحفلات أو الذهاب به حتى إلى الحانة لاكتشافها. إنها علاقة متوترة على رغم الحب الأبوي الكبير لكن القاسي الذي يُغلفها. الابن يشعر بالفعل بمحبة أبيه له، ومن هنا فإنه سيجتهد في الأخير للحصول على النقط الجيدة، لكن في المقابل سيتابع خطى عمه في الاهتمام بالمجال العام.
فـــي موازاة هذه العلاقة الإنسانيـــة المتوترة بين الأب والابن، سيــــتم الحديث في الفيلم عن علاقات إنسانية أخرى مثل الصداقة القوية التــي ربطت بين كل من الحسين بيدرا وصديقه مصطفى، والتي ستنتهي حين سيكتشف مصطفى أن المرأة التي كان يرغب في الزواج بها على علاقــــة بصديقه الحسين، ما سيشكل فضـــيحة أسرية ينجــــم عنها صراع بين زوجة الحسين وهـــذه المرأة التي كانت تقطن معهم في العمارة ذاتها وتشتغل في الفرقة الموسيقية. كما سيتم الحديث أيضاً، عن علاقة الحب القوي التي ستجمع بين كل من عبدالله وإحدى «الشيخات»، وعن الحب الذي تولد في نفس الطفل ميمو تجاه الطفلة التي جاءت تعمل كخادمة في العمارة.
لقد تم صوغ ذلك كله في إطار سينمائي قوي ومحكم يعتمد على التأطير البنائي للمتواليات السينمائية من جهة، وعلى عملية التركيب المتناسق بينها خدمة للتوالي السردي المؤسس لمعاني الفيلم في كليته من جهة أخرى. وهو ما منح هذا الفيلم قوة تعبيرية سينمائية غنية بالدلالات الإنسانية العميقة، وجعل منه فيلماً سينمائياً ناجحاً سواء من حيث القدرة على التحكم في قصة الفيلم أو من حيث التعبير عنها بأدوات سينمائية محكمة الصنع.

*ناقد فني

Related posts

Top