النقاد خالد بلقاسم وجليلة الخليع وسعيد العوادي يقاربون ذاكرة شاعر الحمراء محمد بن ابراهيم

نوه المشاركون في الدورة الثالثة لندوة “مقيمون في الذاكرة”، بضرورة مواصلة الحفريات في ذاكرة الشعر المغربي التاريخية برؤية نقدية استقصائية وتفكيكية، تسهم في إماطة اللثام على الكثير من التجارب الشعرية المغربية المؤسسة والرائدة في شجرة الشعر المغربي الوارفة.
واختار المتدخلون في ندوة “ذاكرة شاعر الحمراء محمد بن ابراهيم”، وهي الندوة الوطنية السنوية التي تنظمها دار الشعر بمراكش تحت إشراف وزارة الشباب والثقافة والتواصل، قطاع الثقافة، وبتنسيق مع كلية اللغة العربية بمراكش وبيت الشعر في المغرب، ضمن فقرة “مقيمون في الذاكرة”، أن يتوقفوا عند أحد أهم التجارب الشعرية المغربية والتي لازالت إلى اليوم تنفتح على الكثير من الأسئلة المرتبطة بالشعر المغربي والقضايا المتعلقة بالتدوين وتجميع لمنجزها الشعري.
وقد اختارت دار الشعر بمراكش أن تخصص فقرتها الجديدة، هذه السنة2022، لـ”ذاكرة شاعر الحمراء الشعرية.. الشاعر محمد بن ابراهيم” بمشاركة النقاد والباحثين: الناقد الدكتور خالد بلقاسم والباحثة الدكتورة جليلة الخليع والناقد الدكتور سعيد العوادي.
واحتضن مقر دار الشعر بمراكش (بالمركز الثقافي الداوديات)، يوم الجمعة 28 يناير فعالياتها ضمن البرمجة الخاصة بالموسم الخامس. ندوة “مقيمون في الذاكرة”، هي سلسلة من الندوات المحورية السنوية، تخصص لمقاربة واستقراء ذاكرة الشعر المغربي، وتستقصي بعض التجارب الشعرية المؤسسة والرائدة، والتي شكلت أفق القصيدة المغربية الحديثة ورسخت خصوصيتها، وأيضا الى إثارة القضايا الجوهرية والمركزية التي تهم الخطاب الشعري بالمغرب.
وإذا كانت الدورات السابقة قد حفرت في تجربتي المعتمد بن عباد شاعرا والشاعر والناقد أحمد المجاطي، فقد اختارت هذه المرة، أن تفتح “ذاكرة شعرية متقدة لشاعر الحمراء” والتي لازالت إلى اليوم تفتح مزيدا من الأسئلة في الخطاب الشعري المغربي. ثمانية وستون سنة مرت على رحيل شاعر الحمراء، محمد بن ابراهيم، والذي لقب بشاعر المغرب بل وشاعر افريقيا في ترسيخ لتميز تجربته الشعرية وفرادتها. يذكرنا الباحث الدكتور أحمد شوقي بنبين، في تقديمه ل”روض الزيتون” ديوان شاعر الحمراء، بمكانة الشاعر بن ابراهيم ضمن معاصريه من الشعراء والأدباء حيث ذاع صيته، من مسقط رأسه مراكش، إلى أن فاقت شهرته مدن المغرب ودول المشرق. وطيلة ثلاثة عقود، عاش الشاعر الراحل مرحلة غنية بالأحداث السياسية والاجتماعية والثقافية، وهو ما جعله يشغل الناس بشعره وأخباره.  ويتذكر أحمد شوقي بنبين حين أمر الملك الراحل الحسن الثاني، بجمع ديوان شاعر الحمراء (1968)، من خلال لجنة علمية تشكلت من علماء مراكش وأصدقاء الشاعر، وبعد جهد كبير استطاعت اللجنة جمع ما بقي من شعر الشاعر عند الخاصة، وما كان منشوراً في الصحف والمجلات، وقدم ديواناً مخطوطا لجلالة الملك في أبريل 1969 وحفظ بالخزانة المولوية. وبعد مرور نحو ثلاثين سنة ارتأى جلالته أن يطبع الديوان، فأنيطت بشوقي بنبين مهمة إعادة قراءته، وتخريج مضامينه، والقيام بكل ما تدعو إليه عملية الضبط والتنسيق والتعليق من جهد علمي مضن يعرفه ذوو التجربة في هذا المجال.
خلف شاعر الحمراء منجزا شعريا غنيا بمضامينه وتيماته، حيث يلتقي الحس الوطني بالقومي إلى قصائد المدح والهجاء. وقد احتفظ بأسلوبه الشعري الخاص، والذي أعطاه ميسما مغربيا يميزه عن باقي معاصريه. لذلك أطلقت عليه بعض المنابر الإعلامية، شاعر المغرب الأول أو شاعر أفريقيا، إلى جانب ما أحدثته تجربته الإبداعية والحياتية من “ضجة” في الأوساط الأدبية، جعلته حديث الناس. ولد الشاعر محمد بن إبراهيم، الملقب بشاعر الحمراء، في مدينة مراكش وتوفي فيها، قضى حياته في المغرب، وأثناء زيارته للبقاع المقدسة في الحجاز (1937) أنشد في مدح عبد العزيز آل سعود، وأثناء عودته مر بمصر وكرمه النادي المصري السوداني فارتجل مطولة في مديح مصر وأهلها، كما قدم محاضرة عن ابن عباد ويوسف بن تاشفين وانتقد فيها بعض ما جاء في كتابات بعض المؤرخين، كما عاب على أحمد شوقي ما جاء في “أميرة الأندلس” وألقى قصيدة في هذا السياق.
تلقى شاعر الحمراء (أحمد بن ابراهيم ابن السراج المراكشي) علومه الأولى في الكتّاب القرآني، ثم انكب على حفظ المتون الفقهية والنحوية، التحق بكلية ابن يوسف المراكشي فدرس على علمائها ثم انتقل إلى جامعة القرويين بمدينة فاس، لكنه توقف عن الدراسة إثر وفاة والده، وتوفر على المطالعة وثقف نفسه ذاتيًا، فظهر تميزه في الشعر مبكرًا. كما اشتغل بالتدريس في بداية حياته العملية؛ فعمل معلمًا في بعض المؤسسات الحرة، ثم بكلية ابن يوسف. عرف عنه حبه للعمل الخيري والوطني، فهو يقف يوم تأسيس الجمعية الخيرية بمراكش (1934) يدعو الناس إلى التبرع، وكان ينشد قصائده في تمجيد العمل الخيري والوطني وفي مناهضة الاحتلال الفرنسي للمغرب ويحرض الناس ضده، له “ديوان شاعر الحمراء محمد إبراهيم المراكشي” (ضبط وتعليق أحمد شوقي بنبين) 2000، وله قصائد مفردة منشورة في جريدة السعادة (في الثلاثينيات) وكذا في مجلة الثريا التونسية في نفس الفترة، وفي جريدة التقدم التي كانت تصدر بمدينة سلا ثلاثة أعداد بدءً من شهر نوفمبر 1940. وهناك جانبًا مختلفًا يظهر في شعره، يعكس وعيه الوطني واهتمامه بالقضايا القومية في مناهضة الاستعمار، ومن ذلك قصيدة تعبر عن سعادته بموت (بلفور) صاحب الوعد المشؤوم، في شعره مسحة من الحزن، تظهر في وجدانياته، كذلك الذي عبر فيه عن إحساسه العميق بالحزن واليتم لوفاة والده.
في لقاء “مقيمون في الذاكرة”، اختار الناقد الدكتور خالد بلقاسم أن يتناول “الزمن الشعري في قصائد محمد بن ابراهيم”، في محاولة لرصد أزمنة تجربة شاعر الحمراء وصيرورتها الزمنية، من خلال ما يطرحه منجزه الشعري من أسئلة والى أي حد استطاع أن يبلور تجربة غنية وخصوصية بسمات محددة. وقد قدم الباحث مداخلته بطرح كرونولوجي للسياق الذي تشكلت فيه تجربة شاعر الحمراء، ضمن زمن شهد أوج الحراك الثقافي والأدبي في المشرق، وما واكبه من أثر حينها على هذه “التقليدانية” التي مست المنجز الشعري المغربي. وفي محاولة لاستقصاء تجربته من الداخل، توقف الباحث بلقاسم عند المنجز الشعري لشاعر الحمراء، من خلال بعض القصائد الدالة، حيث يبتعد السياق الدلالي عن الأغراض الشعرية المعروفة، ويتوجه الى أسئلة الذات والتعبير عن هذا القلق الوجودي وأيضا الحزن الذي تملك الراحل في مرحلة أساسية من عمره.
وقاربت الباحثة الدكتورة جليلة الخليع “الطرفة المراكشية في قصائد شاعر الحمراء”، ولاحظت منذ البداية أن الطرفة تحضر عند شاعر الحمراء، إما تأتي متسللة لبعض قصائده أو تكون القصيدة هزلية من ألفها إلى يائها، ونجد في بعض منجزه الشعري كيف يصف حين تطرق النكتة أبواب شعره في قصيدته صنعة الشعر. إن النكتة والطرافة عند شاعر الحمراء، تؤكد الباحثة الخليع، نابعة من روح شاعر الحمراء المراكشية المرحة وخياله المبدع، لشاعر متمكن من أدواته الشعرية الإبداعية. وهذا الأسلوب الهزلي استغله الشاعر للتخفيف من ثقل الواقع عليه، فهي من الناحية النفسية مفيدة جدا، ألنها تراوغ الواقع في المواجهة ومن الناحية الأدبية فقد أحسن توظيفها وكان بارعا في صياغتها .
واستقصى الناقد الدكتور سعيد العوادي “إنسانية شاعر الحمراء” من خلال قراءة نصية في قصيدة “اللهَ في البؤساء”. منوها، منذ البداية، إلى أن الشاعر المراكشي محمد بن إبراهيم (1897م-1955م)، الذي سمّى نفسه “شاعر الحمراء” في مختتم قصيدته الرائقة التي ألقاها أمام ملك السعودية المرحوم عبد العزيز آل سعود.
لم يكن شاعر مراكش فحسب، بل كان شاعر المغرب كلّه يمتدّ صوته إلى ربوع الوطن العربي. يقول عباس الجراري في هذا الصدد: «هذا الشاعر الذي ارتبط اسمه بمسقط رأسه مراكش الحمراء، وإن تعدى صداه مختلف حواضر المغرب وأقطار أخرى غيره؛ في تألق دام نحوا من ثلاثة عقود، على مدى سنوات الثلاثين والأربعين والخمسين، ملأ خلالها حيزا من ساحة الشعر وشغل الناس؛ وأظنه مازال يعتلي هذا الموقع، وإن مضى على وفاته زهاء نصف قرن». وقد نظم شاعر الحمراء في مختلف الأغراض الشعرية من مدح ورثاء وغزل وهجاء، وتسللت إلى شعره روح الفكاهة والظرف، كما عالج جملة من القضايا الفردية والاجتماعية والسياسية. فكان شعره وثيقة حضارية تسجلّ نبض المجتمع المغربي زمن تكالب المصالح الاستعمارية عليه. وللاقتراب من التجربة الشعرية الاجتماعية لشاعر الحمراء، عمد الناقد العوادي إلى تحليل قصيدته الذائعة “اللهَ في البؤساء”، للكشف عن مضامينها، وما توسلت به من أساليب فنية وبنائية. القصيدة التي ألقاها الشاعر محمد بن إبراهيم سنة 1934 بمناسبة تأسيس الجمعية الخيرية بمدينة مراكش.
لقد أُريد لشاعر الحمراء أن يكون شاعرا لاهيا من الطراز الأول، ونسجت حول ذلك حكايات ومواقف أضاف إليها المخيال الشعبي إضافات مشوِّهة، مما كان له دوره البارز في عدم الالتفات إلى ممكنات شعرية أخرى برع فيها هذا الشاعر الاستثنائي، ومنها الممكن الإنساني الذي ظل مرافقا لتجربته الشعرية يجهر بصوته حينا ويجمجم أحيانا؛ وهو ما حاولت مداخلة الناقد سعيد العوادي التركيز عليه من خلال تحليل نصي متكامل لقصيدته المعروفة “اللهَ في البؤساء” التي أبانت عن رقة ونبل إنسانيين يملآن قلب الشاعر المراكشي محمد بن إبراهيم.
فقرة “مقيمون في الذاكرة”، لحظة معرفية حاول من خلالها النقاد استقصاء تجربة هذا الشاعر الألمعي، وإضاءة الكثير من عوالم تجربته الشعرية والإنسانية، والتي لازالت حاضرة إلى اليوم، في ندوة تسعى لتقريب الأجيال الصاعدة ومجموع الباحثين والطلبة، من تجارب مغربية رائدة وأجيال شعرية أعطت الكثير للشعر والأدب المغربي، وتندرج ضمن سلسلة الندوات التي تنظمها الدار لاستقصاء أسئلة وقضايا الشعر المغربي اليوم، وهو ما يفضي إلى محاولة تبني خطاب جديد، يلامس عمق القضايا وحلحلة الأسئلة والتفكير في راهن الممارسة الشعرية. وأيضا مواصلة سلسلة النقاشات التي فتحتها دار الشعر بمراكش، منذ تأسيسها إلى اليوم، مركزة على عمق القضايا الجوهرية التي تهم القصيدة المغربية المعاصرة وأسئلة النقد الشعري.

Related posts

Top