اليسار في فرنسا يحقق انتصارا في الانتخابات البرلمانية ويؤكد استعداده لحكم البلاد

بعد الجولة الأولى من الانتخابات التشريعية التي أقيمت يوم 30 يونيو الماضي، والتي تميزت بتقدم غير مسبوق للتجمع الوطني، وقبل الجولة الثانية حيث كانت كل التوقعات تشير إلى تفوق هذا الحزب الممثل لأقصى اليمين، جاء حكم صناديق الاقتراع يوم الأحد الماضي بنتائج أذهلت الجميع. فقد تفوق اليسار وتصدر الاقتراع، تلاه التحالف الرئاسي، ثم التجمع الوطني.
وبعد فترة وجيزة من نشوة المعسكرين اللذين استبعدا أقصى اليمين، دخلت فرنسا بسرعة في حالة من عدم اليقين بعد إعلان النتائج النهائية. فلم تتمكن أي كتلة سياسية من الحصول على الأغلبية المطلقة.
هكذا، حصل تحالف اليسار، المجتمع تحت راية الجبهة الشعبية الجديدة، على 182 مقعدا في الجمعية الوطنية، تلاه المعسكر الرئاسي تحت راية “أونسومبل” مع 168 مقعدا، ثم التجمع الوطني وحلفاؤه بـ 143 مقعدا، مما يشكل غرفة سفلى قد تكون غير قابلة للحكم، إلا إذا دخل القادة السياسيون في منطق التوافق من أجل تحالف قادر على دعم حكومة جديدة.
ومن وجهة نظر الخبير في الجيوسياسية، رئيس معهد الاستشراف والأمن بأوروبا والأستاذ في جامعة باريس-سود، إيمانويل دوبوي: “ظهرت مخاطر عدم القدرة على الحكم في فرنسا منذ حل الجمعية الوطنية، لكنها تعززت اليوم مع تحالفات سياسية لم تنجح في إخراج أغلبية واضحة ولم تتمكن من إرسال رئيس وزراء إلى ماتينيون”.

ويرى محللون أن أحزاب الجبهة اليسارية الجديدة أمام اختبار حسن إدارة خلافاتها العميقة وتضارب تصوراتها للحكم إذ جمعها التصدي لوصول اليمين المتطرف إلى السلطة لكن قد تفرقهم الحسابات الحكومية. ومع عدم حصول أي حزب على الأغلبية المطلقة في البرلمان، وفي غياب أي طريق واضح للمضي قدما بالنسبة إلى الكتل السياسية الثلاث الكبرى (اليسار، الوسط، اليمين المتطرف)، تواجه فرنسا احتمالا حقيقيا للغاية يتمثل في سنوات من الجمود السياسي.

ماكرون يرفض الاستقالة

ورفض الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون طلب الاستقالة التي تقدم بها رئيس الوزراء غابريال أتال، طالبا  منه تسيير الأمور الجارية، غداة الانتخابات التشريعية التي شهدت فوز تحالف اليسار أمام القوى السياسية في البلاد دون إحراز الغالبية المطلقة.
ووصل أتال إلى الإليزيه عند الظهر لتقديم استقالته، عملا  بالتقاليد الجمهورية. لكن ماكرون طلب منه البقاء في منصبه “من أجل استقرار البلاد”، بحسب الإليزيه، قبل ثلاثة أسابيع من استضافة باريس لدورة الألعاب الأولمبية.
بعد المفاجأة التي أحدثتها نتائج الانتخابات التشريعية وحدت من تصاعد اليمين المتطرف، تبدأ الطبقة السياسية الفرنسية المداولات لبناء غالبية وتعيين رئيس للوزراء.
لكن ثمة معضلة، إذ لم تتمكن الجبهة الشعبية الجديدة (اليسار، نحو 190 مقعدا) ولا المعسكر الرئاسي (حوالى 160 مقعدا) ولا حزب الجبهة الوطنية وحلفائه (اليمين المتطرف، أكثر من 140 مقعدا) على حدة من تحقيق الأغلبية المطلقة ( 289 مقعدا ).
وحذر وزير الاقتصاد والمال الفرنسي برونو لومير من خطر “أزمة مالية” و”تراجع اقتصادي”، لكن مع استبعاد طيف اليمين المتطرف، كان رد فعل بورصة باريس غير محسوس. انخفض مؤشر سوق الأوراق المالية الفرنسي كاك-40 عند الافتتاح بنسبة 0,49%، لكنه عاد وارتفع بعد ساعات قليلة.
وقام اليسار، من جانبه، بإطلاق مناورات واسعة. وقال رئيس الحزب الاشتراكي أوليفييه فور”يتعين علينا خلال أسبوع تقديم مرشح” لرئاسة الحكومة، متحدثا عن توافق أو تصويت.
واعتبرت زعيمة الخضر مارين تونديلييه العضو في الجبهة الشعبية الجديدة، من جانبها، أن الرئيس “يجب أن يدعو اليوم” الجبهة لترشيح اسم إليه.
إلا أن التحالف اليساري الذي تم تأسيسه على عجل غداة قيام ماكرون بحل الجمعية الوطنية، يضم تكتلات تختلف حول العديد من النقاط، اليسار الراديكالي في فرنسا الأبية والاشتراكيين والشيوعيين والخضر.
ومنذ أسابيع، يثير اليسارالراديكالي توترات كثيرة، وبشكل خاص زعيمه جان-لوك ميلانشون الاستفزازي لكن المتمتع بكاريسما معينة، الذي ينفر منه البعض حتى في صفوف معسكره.
ودعت النائبة عن فرنسا الأبية يوم الأحد كليمانتين أوتان نواب الجبهة الشعبية الجديدة إلى الاجتماع الاثنين “في جلسة عامة” من أجل اقتراح مرشح لرئاسة الوزراء على ماكرون على ألا يكون الرئيس السابق فرنسوا هولاند الذي انتخب نائبا ولا جان لوك ميلانشون.
لكن ماتيلد بانو، المسؤولة في فرنسا الأبية، اعتبرت يوم الاثنين أن ميلانشون البالغ 72 عاما ، “ليس مستبعدا على الإطلاق”، مشيرة إلى أنه “الشخص الذي علم اليسار الفوز من جديد” وأنه أعطى الأمل لملايين الأشخاص بحصوله على 22% من الأصوات في الانتخابات الرئاسية” التي جرت في 2022.
في الوقت نفسه، يشتد النقاش كذلك داخل الأغلبية الرئاسية التي احتلت المرتبة الثانية في انتخابات يوم الأحد بفضل صمود لم يتوقعه أحد بعد الجولة الأولى.
وقال فرنسوا بايرو، زعيم الوسط المتحالف مع ماكرون، “إن الاقتراع لم يحسم أمر توزيع القوى والمشهد ليس واضحا بعد”.
وأضاف “دعونا ننتظر ثلاثة أيام لنرى من الذي سيحتل أكبر عدد من المقاعد في البرلمان” معتبرا أنه من الممكن تحقيق الغالبية بدون فرنسا الأبية.
أما التجمع الوطني، فقد حقق تقدما في البرلمان إلا أنه تخلف كثيرا عن الغالبية النسبية أو المطلقة التي كان يحلم بها.
وأعلنت مارين لوبن زعيمة اليمين المتطرف الفرنسي “نصرنا مؤجل فحسب”، أما رئيس التجمع الوطني جوردان بارديلا فقد حمل على “تحالف العار” الذي شكلته الجبهة الجمهورية في وجه معسكره.

وقال أوليفييه فور رئيس الحزب الاشتراكي المنضوي في الجبهة الشعبية الجديدة التي تشكلت لخوض الدورة الثانية للانتخابات التشريعية التي جرت الأحد، في تصريح إذاعي الاثنين “ينبغي أن نتمكن خلال الأسبوع الراهن من تقديم مرشح” لمنصب رئيس الوزراء.

وفي معسكر المدافعين عن البيئة الأعضاء في هذه الجبهة اليسارية أيضا، قالت زعيمتهم مارين توندولييه في تصريح إذاعي أيضا إن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون “يجب أن يدعو اليوم” اليسار إلى اقتراح اسم شخصية لتولي رئاسة الحكومة.

وفي حديث خص به وكالة المغرب العربي للأنباء حول نتائج الجولة الثانية من الانتخابات التشريعية الفرنسية، قلل دوبوي من “النصر” أو “الفشل” لكل من الكتل السياسية التي تنافست خلال هذا الاقتراع.
وقال الخبير الفرنسي: “نحن اليوم أمام تشكيل متنوع للجمعية الوطنية، حيث أن تحالف اليسار سيكون لديه ثلاث أو ربما أربع مجموعات برلمانية، والكتلة المركزية التي تشكلت حول المعسكر الرئاسي نجحت في البقاء في اللعبة وجاءت في المرتبة الثانية، ثم التجمع الوطني، الذي رغم أنه جاء في المرتبة الثالثة، تمكن من مضاعفة عدد نوابه في المجلس. لذا فلنقلل من أهمية النصر أو الفشل لكل منهم”.
وعند معرض رده على سؤال حول السيناريوهات المحتملة للحصول على رئيس وزراء وأغلبية في الجمعية الوطنية، اعتبر دوبوي أنه “لا يوجد أي إمكانية للحكم في الوقت الحالي، خاصة أن أيا من الكتل لم تظهر إشارة إيجابية حول تحالفات محتملة”، مشيرا إلى أن “تحالف الوسط قد يتعاون مع قوى سياسية أخرى، قليلا من اليمين، قليلا من اليسار، لتشكيل تحالف كبير”.
وأضاف “سنكون في هذه الحالة أمام تحالف ثلاثي مشابه قليلا للنظام الألماني بين الكتلة المركزية مع مقاعدها الـ 168، والحزب الاشتراكي أو الجمهوريين، وهو الخيار الأكثر احتمالا”.
واستبعد رئيس معهد الاستشراف والأمن بأوروبا سيناريو حكومة تقنية، الذي يدافع عنه بعض المحللين، لأنه سيكون “غير شرعي ولا يعكس إرادة الفرنسيين الذين صوتوا لأجل ثلاث كتل مختلفة”.
وأردف قائلا إن “حكومة تقنية سيكون لديها مهمة واحدة فقط، وهي تصريف الأعمال الجارية وانتظار الحل القادم للجمعية الوطنية. إلا أنه لاحظنا أن حل الجمعية الوطنية لم يخدم شيئا مطلقا، بل عقد الوضع القائم”.
وكما تقتضي التقاليد الجمهورية، قدم رئيس الوزراء غابرييل أتال أمس الاثنين استقالة حكومته إلى رئيس الجمهورية، الذي في سياق دورة الألعاب الأولمبية، طلب منه البقاء في المنصب.
وأكد المقربون من الرئيس، في تصريحات لوسائل الإعلام المحلية، أن الأخير يدعو إلى التوازن ولا يرغب في اتخاذ أي قرار قبل رؤية التكوين النهائي للجمعية الوطنية.
ومن جانب الجبهة الشعبية الجديدة، تتصاعد التوترات. ويطالب قادة الجبهة رئيس الجمهورية بتعيين رئيس وزارء جديد من معسكرهم بسرعة.
وفي انتظار ذلك، ستستأنف الحياة البرلمانية في الجمعية الوطنية يوم 18 يوليوز الجاري، مع انتخاب رئيسها الجديد. كما سيتم توزيع المناصب بين المجموعات المختلفة الممثلة علاوة على إعداد الجدول الزمني البرلماني، بما في ذلك مناقشة الميزانية المقبلة، المرتقبة بشدة.

ارتياح دولي لنتائج الانتخابات

وشكل الفوز المفاجئ لتحالف اليسار في انتخابات فرنسا التشريعية متقدما على المعسكر الرئاسي واليمين المتطرف (التجمع الوطني) الذي حل  ثالثا ارتياحا في الخارج بشكل عام، وفي حين أشادت موسكو بتراجع إيمانويل ماكرون، التزمت روما الصمت.
فقد قال المتحدث باسم الرئاسة الروسية دميتري بيسكوف للصحافيين “بالنسبة لروسيا، فإن الأفضل هو انتصار قوى سياسية مستعدة لبذل جهود لاستعادة علاقاتنا الثنائية”.
وأضاف “لكن في الوقت الحالي، لا نرى إرادة سياسية مماثلة معلنة بوضوح لدى أي طرف”.
وأشاد رئيس مجلس الدوما (الغرفة السفلى في البرلمان) فياتشيسلاف فولودين بكون الفرنسيين “عبروا عن رفضهم لماكرون”.
وبين دورتي الانتخابات الفرنسية الأولى والثانية، انتقد وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف الانسحابات العديدة التي قللت من فرص اليمين المتطرف في الحصول على الغالبية.
وقال الرئيس الأميركي جو بايدن الاثنين أن فرنسا “رفضت التطرف” خلال الانتخابات التشريعية وأن الديموقراطيين “سيرفضونه أيضا” في الولايات المتحدة خلال الانتخابات الرئاسية.
وأبدى أنصار بايدن حماسة كبيرة على شبكات التواصل الاجتماعي يوم الأحد إثر نتائج الانتخابات الفرنسية. وقالوا إنهم يرون فيها سببا وجيها لتجاهل استطلاعات الرأي التي تظهر تراجع شعبية بايدن.
وفي ألمانيا، حيث سجل حزب البديل من أجل ألمانيا اليميني المتطرف أفضل نتيجة في تاريخه في الانتخابات الأوروبية في يونيو وبلغت 15,9 بالمئة، قال المستشار الألماني أولاف شولتس “أنا والحكومة الألمانية بأكملها نشعر بالارتياح. كان اضطرار الرئيس الفرنسي إلى قبول التعايش مع حزب شعبوي يميني سيشكل تحديا كبيرا”.
وأضاف شولتس للصحافيين “لقد تم تجنب ذلك والآن نأمل أن ينجح الرئيس وكذلك النواب المنتخبون في تشكيل حكومة بناءة”.
من ناحية أخرى التزمت الحكومة الإيطالية بقيادة جورجيا ميلوني رئيسة حزب فراتيلي ديتاليا اليميني المتطرف، الصمت.
الإثنين الماضي، غداة النتيجة التاريخية التي حققها اليمين المتطرف في فرنسا، قالت ميلوني “أرسل تحياتي إلى حزب التجمع الوطني وحلفائه على النتائج التي أحرزوها في الجولة الأولى”.
وفي صفوف اليسار، رحبت زعيمة الحزب الديموقراطي (حزب المعارضة الرئيسي) إيلي شلاين “النتيجة الاستثنائية لليسار الموحد”.
وأعلن رئيس الوزراء البولندي دونالد توسك الذي يرأس ائتلافا واسعا من الوسطيين والمؤيدين لأوروبا أنه “سعيد” لأن اليمين المتطرف الفرنسي خرج مهزوما نسبيا وتفوقت عليه الكتل الأخرى، على الرغم من أنه زاد عدد مقاعده.
وكتب رئيس المجلس الأوروبي السابق على موقع “اكس”، “في باريس هناك حماس، وفي موسكو هناك خيبة أمل، وفي كييف هناك ارتياح… هذا كاف لنشعر بالسعادة في وارسو”.
ورحب رئيس الوزراء الإسباني الاشتراكي بيدرو سانشيز باختيار فرنسا والمملكة المتحدة “رفض اليمين المتطرف والالتزام الصارم باليسار الاشتراكي”.
وكتب سانشيز على منصة إكس “هذا الأسبوع، اختارت اثنتان من أكبر الدول في أوروبا المسار نفسه الذي اتبعته إسبانيا قبل عام”.
وهنأ الرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو، “الجبهة الشعبية الجديدة التي حققت فوزا تاريخيا كبيرا في الانتخابات التشريعية في فرنسا”.
وكتب على موقع “اكس” “كل التحية للشعب الفرنسي، وللحركات الاجتماعية والقوى الشعبية، في يوم المواطنين المهم هذا الذي يعزز الوحدة والسلام”.
وأشاد الرئيس البرازيلي لويس إيناسيو لولا دا سيلفا بالانتصار “ضد التطرف” و”بنضج القوى السياسية” في فرنسا. وقال الزعيم اليساري على إكس “سعيد جدا بما أظهرته القوى السياسية في فرنسا من سمو ونضج بعد أن اتحدت ضد التطرف”.

Top