اليوم الوطني للإعلام

حل أمس الثلاثاء اليوم الوطني للإعلام، الذي يصادف الخامس عشر من نونبر من كل عام، ويجسد مناسبة للتفكير في واقع قطاع الصحافة والإعلام في بلادنا، واستعراض ما يواجهه من تحديات، كما يجري التذكير بالمطالب والانتظارات ذات الصلة.
من دون شك، يشهد القطاع اليوم عديد تحولات هيكلية، وتتخلله ممارسات مرفوضة، وتواجهه مخاطر تكاد تكون وجودية في بعض تجلياتها، ومن المؤكد أن اقتراحات وأفكار تم طرحها في السنوات الأخيرة لصياغة حلول أو مداخل من أجل النهوض بالقطاع وتأهيله، أو على الأقل التخفيف من حدة معاناته.
ليس الأوان اليوم لتكرار البديهي، وإعادة استعراض كل المناقشات السابقة، والتي بات يحفظها الجميع، ولكن السؤال الرئيسي الواجب طرحه اليوم، هو مدى توفر حكومتنا والسلطات العمومية على مخطط وطني لهذا القطاع، اعتبارا لمسؤوليتها في وضع وإعمال سياسة عمومية تعنى بالإعلام والصحافة والاتصال، وتحرص على تقديم خدمة عمومية لشعبنا بهذا الشأن.
ليس الأمر محصورا في الدعم المالي العمومي الموجه للصحافة أو تقديم تصريحات عامة بلا أي امتداد في الواقع، ولكن يتعلق الأمر ببرنامج حكومي متكامل ومحكم وواضح في الصياغات والأهداف وأفق الإنجاز.
كيف ترى الحكومة مستقبل الإعلام السمعي البصري مثلا؟ وما هو مصير» الهولدينغ» الذي سبق أن أعلن عنه؟
كيف ترى الحكومة واقع توزيع الصحف ببلادنا؟ ووجود شركة واحدة محتكرة للخدمة وتعاني من عديد مشاكل واختلالات؟
كيف ترى الحكومة العلاقة مع محركات البحث الدولية وعمالقة الويب وصلة ذلك بسوق الإشهار؟
وأساليب تعامل عدد من المؤسسات العمومية الكبرى والوزارات مع توزيع الإشهار والإعلانات أو مع تسديد الفواتير المترتبة عن علاقتها بالصحف؟
هذه أوراش إصلاح وتأهيل كبرى تقتضي انخراط الحكومة والدولة من أجل بلورة وتفعيل مخططات لإنجازها وإنجاحها، وهي قضايا مهيكلة للقطاع، ومحورية في بناء مستقبله.
من جهة أخرى، عندما نستحضر الجهد المهني والتأطيري الذي بذل لسنوات في الأقاليم الجنوبية مثلا، وما تحقق اليوم من نتائج هناك، وانحسار الأبواق الانفصالية في الميدان، فإنه من المستغرب فعلا تفهم من يفكر في القضاء على الإعلام الجهوي هناك في هذه الظرفية الدقيقة، وذلك بدل مضاعفة دعمه وإسناده بالتعاون مع المنظمات المهنية ذات الخبرة والمصداقية.
وعندما نعاين وجود مقاولات صحفية جادة ومكافحة في الجهات الأخرى، ونعرف ضعف ما يشملها من دعم ومساندة، جهويا ووطنيا، بل ونجد من يعتبر ألا حاجة إليها أصلا، فهذا غريب حقا، ويعكس ضعف الوعي بأهمية أدوارها المهنية والديموقراطية، ويجسد أعطاب الرؤية المتعلقة بالجهوية وإعلام القرب.
مسؤولية الحكومة تكمن في ضرورة حرصها على التعددية في الإعلام، سواء عبر الإعلام العمومي الوطني أو من خلال تحفيز الصحافة الجهوية والمقاولات الصحفية الصغرى والمتوسطة.
وهذا بالذات هو ما يجدر أن يتوجه إليه الدعم العمومي من طرف الدولة، أي دعم التعددية والديموقراطية، وتمويل الخدمة التي يقدمها الإعلام للمجتمع والجمهور.
ويعني هذا، أن الدولة، في كل العالم، لا تدعم الرأسمال أو أحجام المعاملات المالية، ولكنها تدعم الخدمة المجتمعية والمعنى الديموقراطي من الصحافة.
إن اليوم الوطني للإعلام نفسه هو إحالة واضحة على المضمون الديموقراطي والتعددي، وتخليده هو التزام بصيانة هذه التعددية بالذات، والتصدي لأي توجيه للقطاع أو لبلادنا نحو الصوت الواحد ونحو الانغلاق ونحو تسيد المال أو اللوبيات الاقتصادية والإدارية، وهنا توجد مسؤولية الحكومة بامتياز، وخاصة إذا كانت تدعي أنها سياسية، وتتشكل من أحزاب، ولديها رؤية للمستقبل، وتحرص على التحديث والديموقراطية والتعددية والانفتاح.
لا بد أن نذكر هنا، أنه في السنوات القليلة الأخيرة تفاقم مشكل الحوار داخل القطاع وحواليه، والجهة التي يفترض أن تنسق الحوار المهني وترعاه، تفتقد، بصراحة، إلى النظر البعيد والشمولي، وأحيانا إلى الحياد، فضلا عن غياب الشخصية الكاريزمية الجامعة وضعف الحس السياسي.
ولهذا انشغلنا بتفاصيل ثانوية وتافهة، ووجد من يشجع على الإغراق فيها والتيه بداخلها.
بدل إعمال منهجية حوار عقلانية ومسؤولة، هناك من بذل جهودا لإضعاف القطاع وتمثيليته المهنية، وهناك من أوقف عقله على التفكير فقط في أشكال الاستحواذ على الدعم العمومي، وبعد مرور الوقت يكتشف هؤلاء أن رهانات كبرى جرى تضييعها، وأن الاختلالات تفاقمت بسبب أخطاء في الرؤية وفي التقدير وفي السلوك.
وأحيانا العمى وصل حد السعي لتجميد التقيد بأحكام قانونية واضحة، والتعدي على ممارسة ديموقراطية ومقتضيات مؤسساتية صريحة…
لم يكن مأمولا استقبال مناسبة اليوم الوطني للإعلام بمثل هذا الكلام، ولكن الصراحة تفرض اليوم توجيه الكلام إلى مقصده.
البلاد في حاجة إلى سياسة عمومية في الصحافة والإعلام، وهذه مسؤولية الحكومة أولا.
القطاع في حاجة إلى حوار عقلاني، وإلى الجدية والمسؤولية في تدبير كل تفاصيله، وتوجد هنا أيضا مسؤولية الحكومة، سواء في إعمال هذا الحوار بحيادية ونزاهة وجدية، أو في تفادي الضياع في لعبة إضعاف القطاع وتمثيليات المهنيين.
وما على الحكومة اليوم سوى التمعن في كامل المسار الذي عاشته العلاقة بينها وبين ممثلي القطاع طيلة سنوات عديدة من قبل، والحرص على الاستفادة، وأيضا البناء على ما تحقق من إيجابيات، والسعي للتطوير وصياغة مداخل مناسبة للمستقبل.
أما أبناء قبيلتنا المهنية، فلدينا مسؤولياتنا في كل هذا الذي يلفنا، ونحن في حاجة إلى الحوار فيما بيننا طبعا، وإلى بعض الترفع، وبعض التواضع، وتفادي الأنانيات التافهة، وبدل كل هذا التركيز على مخاطر الوجود التي تتربص بنا جميعا.
شعبنا في حاجة إلى صحافة تحوز ثقته…
شعبنا ليس في حاجة إلى صحافة تلعب على عاهاته الاجتماعية..
شعبنا في حاجة إلى إعلام وطني مهني وجاد وذي مصداقية…
بلادنا أيضا في حاجة إلى صحافتها الوطنية لتواكب مسيراتها التنموية والديموقراطية، وللترافع من أجل قضاياها الوطنية ومصالحها الإستراتيجية…
نحن كلنا مطالبون بالإسهام في التصدي للأخبار الزائفة وصحافة الدجل والتفاهة، والانخراط في التربية على الإعلام وتشجيع القراءة وسط شعبنا وشبابنا، والحث على الانخراط في الشأن العام، وتطوير التعبئة الوطنية…
لربح كل هذه الرهانات، لا بد من تمتين التعاون والتنسيق بين الحكومة والمهنيين ومؤسسات التكوين، ولكن ضمن رؤية عامة تنتصر للجدية والاحترام، وتمتلك بعد النظر والتقدير السياسي الوطني، وأن تترفع عن… الصغائر.

<محتات‭ ‬الرقاص

[email protected]

Related posts

Top