خلد الشعـب المغربـي ومعه أسرة الحركة الوطنية والمقاومـة وجيش التحرير يوم الجمعة 7 غشت 2020، الذكرى 66 للانتفاضة الشعبية التي شهدتهـا مدينة القنيطرة أيام 7 و8 و9 غشت 1954، والتي تعتبر محطة مفصلية وحدثا تاريخيا بارزا في ملحمة كفاح العرش والشعب من أجل الحرية والاستقلال وتحقيق الوحدة الوطنية والترابية.
إن نشأة الحركة الوطنية بإقليم القنيطرة وبمنطقة الغرب الشراردة بني احسن، تعود إلى الفترة التي اندلعت فيها الحركات الاحتجاجية ضد ما سمي بالظهير البربري في 16ماي 1930، واجتاحت أغلب المدن المغربية من ضمنها مدينة القنيطرة.
لقد فطن قادة الحركة الوطنية في كل من فاس والرباط وسلا، وتنبهوا منذ الوهلة الأولى لمخطط نظام الحماية الفرنسية في جعل مدينة القنيطرة قاعدة لها، لذا عملوا على مناهضته حيث وضعوا استراتيجية تستهدف جلب جماهير المدينة إلى صفوفها بشتى الطرق من خلال التعليم الذي لعب دورا أساسيا في تأطير الشباب ونشر مبادئ الحركة الوطنية وتكوين جيل من المثقفين لمواجهة المستعمر، وتعزيز حركة المدارس الحرة و فتحها في مختلف أنحاء المغرب، وذلك استعدادا لمواجهة سياسة الحماية.
كما اتجهوا للقيام بمهمة الوعظ والإرشاد من خلال إلقاء دروس التوجيه وتلقين القيم الوطنية التي تحث على التصدي للمستعمر، علاوة على تعبئة الجمعيات الرياضية والتربوية والثقافية.
ومن الصفحات الخالدة التي سجلها التاريخ للمنطقة مساهمتها الوازنة في حدث تقديم وثيقة المطالبة بالاستقلال في 11 يناير 1944، فقد كان لمنطقة الغرب الشراردة بني احسن قصب السبق في المبادرة لتنظيم هذه الوقفة التاريخية التي سبقتها أعمال نضالية مهدت لها، وتم إعدادها واختيار توقيت انطلاقها، وتحديد مضامينها بتشاور وتوافق مع أب الوطنية ورمز المقاومة جلالة المغفور له محمد الخامس قدس الله روحه.
ومن الشخصيات الوطنية المنتمية لهذه الحاضــرة المناضلة والموقعــة على هذه الوثيقة التاريخية نذكر محمد الديوري والجيلالي بناني وبوشتى الجامعي ومحمد بناني وحسن الورزازي وأحمد بن عثمان بندلة.
وقبل نفي جلالة المغفور له محمد الخامس، كانت العلاقة وطيدة بينه وبين سكان مدينة القنيطرة، وتأكدت في أبهى صورها بعد نفيه في 20 غشت 1953. فالدارس لتاريخ المغرب الحديث يلاحظ الحضور المتميز لمدينة القنيطرة في جل المحطات النضالية من أجل نيل الحرية والاستقلال حتى يوم 16 نونبر 1955، تاريخ عودة الملك الشرعي إلى عرشه وإعلانه عن انتهاء عهد الحجر والحماية وإشراقة شمس الحرية والاستقلال.
لقد استرخص أبناء القنيطرة حياتهم وسقوا بدمائهم المعارك النضالية التي خاضوها في مواجهة المستعمر بالمدينة وضواحيها، ولم يثنهم عن ذلك العدد الكبير من الشهداء والجرحى والمنفيين والمعتقلين؛ حتى التلاميذ والأطفال تركوا مدارسهم وكتاتيبهم القرآنية للمساهمة القوية في انتفاضة 7 و8 و9 غشت 1954. وظل سكان القنيطرة على الدوام يثمنون، وبالملموس، علاقة القصر الملكي بالمدينة وعطف جلالته على رجالات الحركة الوطنية بها وعلى نقابييها وأبنائها في الكشفية والنوادي الرياضية وعلى صناعها التقليديين وعلى تجارها وفلاحيها ونسائها الفاعلات في صفوف الحركة النسائية تحت إشراف الأميرة لالة عائشة.
ويسجل التاريخ أنه في 20 غشت 1953 انطلقت حافلات “كليمان” من مدينة القنيطرة، وكانت وجهتها الرباط لنقل الأسرة الملكية من القصر الملكي إلى المطار، وشركة “كليمان” للنقل كانت معروفة آنذاك، وكان يعمل بها مغاربة وفرنسيون واسبان كسائقين. وقد تم إخبار سائقين مغربيين من أبناء القنيطرة وتكليفهم بمهمة قيادة الحافلات والتوجه إلى القصر الملكي بالرباط صباح يوم 20 غشت 1953 باكرا. إلا أنه في آخر لحظة أبعدتهما إدارة الشركة عن المهمة اعتبارا لعلاقتهما المعروفة بالوطنيين والخلايا الحزبية بالمدينة. وهكذا، تم تعويضهما بسائقين غير مغاربة للقيام بالمهمة.
ومن الجدير الإشارة إلى عملية حرق معمل الفلين، وهي أول عملية فدائية بعد مرور أقل من 28 ساعة على نفي جلالة المغفور له محمد الخامس والعائلة الملكية الشريفة عن أرض الوطن، بالإضافة إلى نسف القطار القادم من الدار البيضاء إلى وهران بالجزائر، وهي العملية التي أربكت وأذهلت وهزت أركان القوات الاستعمارية الفرنسية.
وبذلك جرى الإعلان عن الشروع في العمل المسلح، فتأسست الخلايا الفدائية وتم اقتناء الأسلحة (مسدسات، رصاص، وبارود لصنع القنابل المحلية) بدعم وتمويل من الوطنيين وأعضاء الخلايا آنذاك ومن بعض المحسنين.
ولقد قال المحامي الفرنسي “جان شارل لوكران” في كتابه: “أيتها العدالة يا موطن الإنســـان”: “إن الملك محمد الخامس لم يرجع إلى عرشه من قصور أو مكاتب أو قاعات استقبال، لقد رجع الملك محمد الخامس إلى عرشه من محمل مصرع الشهداء”.
وفعلا، كان الارتباط القوي بالقصر الملكي وبشخص جلالة المغفور له محمد الخامس من العوامل الأساسية، إن لم يكن العامل الرئيسي الأول الذي ساهم في تحقيق التجاوب والتلاحم بين أهل دكالة وأهل فاس وأهل عبدة وأهل الشياضمة وأهل الغرب الشراردة بني احسن وأهل الحوز وأهل مراكش وأهل سوس وأهل طنجة وجميع أبناء الوطن.
وهكذا، كانت الانطلاقة لمسلسل نضالي حضاري وقيمي طافح بأمجاد وروائع الكفاح الوطني، حق للناشئة والأجيال الجديدة الاعتزاز به.
وتجدر الإشارة إلى أن نظام الحماية جعل من مدينة القنيطرة واجهة لعرض أطروحاته وأكاذيبه القائلة بأنه جاء للمغرب ليس للهيمنة والسيطرة وإذلال الإنسان واستغلال سكان البلاد ونهب خيراتها، وإنما جاء لنشر الحضارة وإرساء التمدن وللقيام بالبناء والتشييد، أي لإقامة الصرح الحضاري كما كان يحلو لدهاقنة الاستعمار قوله والتبجح به. لذلك، كان نظام الحماية واعتبارا لدواعي ايديولوجية استعمارية توسعية محضة يروج للأطروحة القائلة إن القنيطرة لم تكن موجودة وإنما هي من صنع الحماية الفرنسية من لا شيء، ولهذا الغرض عمل نظام الحماية على استبدال إسم القنيطرة باسم ميناء ليوطي PORT LYAUTEY سنة 1932. ولم تكن مفاجأة ومدعاة للاستغراب أن يتأسس أول حزب يميني متطرف (صليب النار) بالقنيطرة التي كانت ركحا لمعارك بين المتطرفين والليبراليين أكثر من أي مدينة أخرى من الوطن.
كل هذه التحديات والتداعيات لم تستطع إخفاء الأهمية التاريخية الثابتة للقنيطرة الوطنية والمجاهدة والشعبية في تاريخ المغرب منذ السنوات الأولى للاستعمار بالبلاد. لقد ظل إسمها حاضرا وبامتياز في مختلف الأحداث والمواقف والقرارات التي صهرت تاريخ المغرب الحديث. ففي واقع الأمر، تفطنت الحركة الوطنية مبكّرا للمكيدة الاستعمارية الهادفة إلى تحويل مدينة القنيطرة إلى مرتع للايديولوجية الاستعمارية وللمعمرين المتطرفين، لذلك شجعت الهجرة المكثفة إليها. وللتصدي لهذا المخطط، عملت على تحفيز المغاربة في مختلف مدن وجهات المغرب للهجرة إلى القنيطرة. وفعلا تمت الاستجابة لدعوة الحركة الوطنية، حيث توافد على المدينة وطنيون من كل أرجاء البلاد، وتآلفوا فيما بينهم عبر الزاوية والمسجد والمدرسة والجمعيات والنوادي الرياضية وغيرها.
وشكلت هذه الإستراتيجية خطوة جوهرية على درب إفشال مخططات نظام الحماية ليس بمنطقة الغرب الشراردة بني احسن وعاصمتها القنيطرة فحسب، وإنما بالمغرب كله. وهذا ما يفسر تجدر الحركة الوطنية مبكرا بالقنيطرة.
وبذلك ظلت القنيطرة حاضرة بامتياز في تاريخ المغرب الحديث، وطنيا ونضاليا منذ 1915، وشكلت أرضية صلبة لانطلاق النضالات وتفجير المظاهرات الشعبية إلى أن اضطر أبناء “حلاّلة”، لاسيما شباب ديور صنياك والمدينة القديمة والدوار والبوشتيين وديور المخزن وغيرها من الأحياء الشعبية إلى المساهمة المكثفة في الكفاح المسلح والمواجهة المباشرة والعلنية مع القوات الاستعمارية رغم قوّة عتادها وجيوشها ومخبريها والمتعاملين معها.
وإلى جانب الانتفاضات الشعبية والكفاح المسلح، لعب النضال الاقتصادي دورا مهما. فقد حرص الوطنيون والمقاومون المغاربة على تطبيق مقاطعة البضائع الفرنسية، ولم يتوانوا لحظة في إنجاح المقاطعة بجميع الوسائل وعيا منهم بأنها تشكل ضربة قاسية للمستعمر عبر شل الاقتصاد كأسلوب من الأساليب النضالية الراقية التي لها جدواها الأكيدة والمباشرة، وذلك بإقفال الدكاكين واعتبار استهلاك الدخان من المحرمات في حق الوطن، وتمكنوا بذلك من ضرب مصالح الرأسماليين الفرنسيين في الصميم. وأصبح هؤلاء يضغطون على الإقامة العامة والحكومة الفرنسية للقضاء على المقاومة ولوضع حد للأعمال الفدائية. لكن كلما اشتد القمع والتنكيل، كلما تقوت روح المقاومة والكفاح، وهذا ما أرهبهم بعد أن أيقنوا أن المقاومة أضحت حاضرة في كل مكان وفي كل حين. والواقع أن شل الاقتصاد الاستعماري وتحريك الجماهير في الشوارع وتعبئتها يعتبران من العوامل الأساسية والمؤثرة، مع المقاومة المسلحة التي ساهمت وبشكل كبير، في تغيير مجرى الأحداث.
هذا، وحلت هذه الذكـرى في ظروف دقيقة وحرجة تجتازها بلادنا كسائر بلدان المعمور مع جائحة كورونا كوفيد19. ومع ذلك، فإننا أشد ما نكون حرصا على الاحتفاء بهذه الذكرى المجيدة كسائر الذكريات الوطنية الغراء في موعدها ومن خلال التواصل الرقمي.
وبهذه المناسبة الغالية، نظمت النيابة الإقليمية للمندوبية السامية لقدماء المقاومين وأعضاء جيش التحرير بمدينة القنيطرة، عن بعد وبواسطة التواصل الرقمي، ندوة فكرية تحت عنوان:” انتفاضة القنيطرة ضد المستعمر في سنة 1954: محطة تاريخية مضيئة بمنطقة الغرب”، يوم الجمعة الماضي، ابتداء من الساعة الحادية عشرا صباحا، بثت على الصفحة الرئيسية للمندوبية السامية لقدماء المقاومين وأعضاء جيش التحرير وعلى موقع “فايسبوك”، شارك فيها صفوة من الأساتذة الجامعيين الباحثين وتعدادهم خمسة بالإضافة إلى كلمة المندوبية السامية لقدماء المقاومين وأعضاء جيش التحرير.