“بغيت نرجع نقرا”.. عن الهدر المدرسي دائما وأبدا

هناك بعض المواضيع أصيبت بتخمة في التشخيص، فقد أهدرنا كثيرا من الوقت مثلا في الحديث عن الهدر المدرسي، إشكالية قديمة جديدة لم تعد تستأثر بالاهتمام الكاف للأسف، كثرت البرامج والمخططات وتعاقبت الحكومات والحالة هي نفسها، إن لم تزدد سوءا، لكن الإشكالات الكبرى لا تسقط بالتقادم ولا تفقد راهنيتها ولا ينبغي التطبيع معها والركون إلى الخلف. الإشكالات الكبرى يلزمها تضحيات أكبر. ففي الوقت الذي أصبحت فيه الدول المتقدمة تتحدث عن برامج “التعليم مدى الحياة”، لازلنا نحن نأمل في توفير الحد الأدنى من برامج “التعليم في بداية الحياة”، حيث يغادر 331 ألف تلميذ وتلميذة مقاعد الدراسة سنويا حسب أرقام رسمية.

في العرائش، التقيت بمجموعة من الفاعلين المدنيين، خليط بين الوعي بالمسؤولية وتذمر من الواقع وكثير من الأمل في التغيير، ذلك الأمل الذي فقدنا كثيرا منه مع توالي تكرار نفس الأسباب التي نتعامل معها بنفس الآليات ونخلص إلى نفس النتائج، لكن ما أثارني هذه المرة هو وجود عمل ميداني كبير، لا يمكن إلا أن نثمنه ونشجعه على الاستمرار.

كان الأمر يتعلق بتقديم مذكرة ترافعية تقدمت بها فدرالية رابطة حقوق النساء تحت شعار “من أجل ضمان جودة التعليم ومحاربة الهدر المدرسي”. بالتنسيق مع فعاليات مدنية وبحضور كل الأطراف؛ الفدرالية والمجالس المنتخبة وجمعية الآباء والأمهات وأولياء التلاميذ، حضرت كل الأطراف وغابت الوزارة الوصية.

المذكرة هي وسيلة للترافع من أجل الاستجابة لاستعجال وطني يعتبر الحد من الهدر المدرسي أولوية تنموية واضحة في السياسات العمومية، وينطلق من كون تعميم التعليم بفرص متكافئة  وتحقيق الإنصاف على المستوى المجالي والاجتماعي، وعلى أساس النوع، والقضاء على التفاوتات بمختلف أنواعها، رهانا سياسيا ومجتمعيا.

وبالرغم من الجهود المبذولة غير أن هناك خصاصا كبيرا تشهده مجموعة من الجماعات الترابية بالإقليم على مستوى النقل والإيواء والإقامة والدعم التربوي والظروف الاجتماعية والاقتصادية للأسر.

خلصت المذكرة الترافعية إلى عدد مهم من التوصيات التي وجهتها لكل الأطراف المتدخلة في القطاع، كل من موقعه؛ لكن كل ذلك يظل رهينا بتوفر الإرادة السياسـية الحقيقية للنهوض بالتعليم واعتباره كقطاع منتج قصد الاستجابة لمتطلبات المشروع المجتمعي التنموي المواطن والديمقراطي وإصلاح وتطوير وتجديد المنظومة التربوية عبر معالجة الأعطاب البنيوية المرتبطة بالاختيارات الاستراتيجية في التعليم دون الاقتصار على التعاطي مع مظاهر الأزمة.

تقديم المذكرة عرف أيضا عرض فيلم في الموضوع. “بغيت نرجع نقرا” عنوان فيلم وثائقي لمخرجه مصطفى اللويزي، تضمن شهادات لتلاميذ انقطعوا عن الدراسة وأمهات وآباء يعانون من أوضاع اجتماعية واقتصادية مؤلمة. استطاع الفيلم برؤيته النقدية الإنسانية أن يجعلك تقارب الموضوع بعيدا عن تلك المقاربة “العددية” و”الإحصائية الجافة” التي تكررت حتى فقدت معانيها، لينقلك عبر الصورة والصوت والكلمة إلى تفاصيل وزوايا أبلغ، فليس من سمع كمن رأى، حيث الصورة لها سلطتها والعيون تقول ما لا تستطيع الدراسات إيصاله. لقد أضفى الفيلم على الظاهرة جانبا إنسانيا أعاد المعاني للأرقام وأعاد للإحصائيات قيمتها.

ربما حتى تشخيص الأوضاع ينبغي أن يجدد نفسه، وهذا ما تفطن إليه المنظمون من خلال إنتاج هذا الفيلم، إشكالات كالنقل المدرسي بالعالم القروي وسوء حالة المسالك والوضعية الاجتماعية والاقتصادية للأسر التي لا تستطيع مواكبة تمدرس أطفالهم، وإشكاليات كالبطالة واشتغال الأطفال في سن مبكرة، وظواهر كالتحرش واستفحال المخدرات والهجرة غير النظامية، كل هذه الظواهر والإشكالات ستأخذ أبعادا أخرى حينما يتم تناولها وفق رؤية نقدية تجمع بين حقيقة الواقع وواقع الصورة.

استطاع الفيلم أن يقدم للحاضرين فرصة عيش التجربة، أن يجعلك تغادر المدرسة وتعيش حياة المنقطعين ولو لنصف ساعة من الزمن، بطموحاتهم، برغبتهم في الهجرة، بصعوبة العيش. يجعلك تعيش حياة الأسر الذين لا يريدون أن يكرروا تجربة آباءهم معم. شهادات مؤثرة وشخصيات تجعلك تختار واحدة منها لتصاحبها أو تعيش مقامها، أن تفكر من منطقها هي وأن تتحدث عوضها.

لا يمكن مثلا أن أنسى تلك الفتاة الباكية الضاحكة، التي تخلت عن طفولتها وتقمصت دور الأم بوجهها الصغير ومسؤولياتها الكبيرة، فتيات كبرن قبل الوقت لتقمن مقام الأمهات. كما لا يمكنني أن أنسى ذلك التلميذ التائه الذي يجوب المدينة كلها قبل أن يقف أمام البحر، كأنه وجد ضالته ما وراء البحار بعدما لم يجدها في المدرسة التي انقطع عنها.. أو انقطعت عنه، قصص كثيرة لأشخاص قدمها الفيلم وقصص أكثر لأشخاص يعانون نفس هذه المعاناة في العرائش وفي كل أنحاء المغرب من أقصاه إلى أقصاه. أمنيتهم الكبرى أن يعودوا إلى مقاعدهم الدراسية.

انتهى الفيلم الذي أدى مهمته كما ينبغي، لكن مهمات أخرى لازالت تنتظر الجميع، وكما قالت إحدى الفاعلات، لا ينبغي أن يقف العمل هنا، نحن فقط وضعنا أصبعنا على الجرح، فالعمل بدأ للتو.

وليد اتباتو

Related posts

Top