لو نظر بعض الكهول منا إلى عضده فسيشاهد آثار ندبة شفيت منذ زمن بعيد.
هذه الندبة هي ما تبقى من لقاح الجدري، ولو نظر هؤلاء الكهول إلى عضد أحفادهم فسيلاحظون خلوهم من آثار ندبة كتلك، وسبب ذلك بسيط وهو أن اكتشاف لقاح الجدري استطاع استئصال المرض تماما، ولذلك لا يلقح الأطفال في بعض الدول اليوم ضد وباء الجدري.
هذه الحقيقة يعلمها معظم الناس، لكن الذي لا يعلمه الكثيرون هو أن لقاح الجدري عمره أكثر من 200 عام وأن الوصول للقاح تطلب العمل بجد على الصعيد العلمي ثم الاجتماعي والسياسي ليصبح اللقاح معتمدا من قبل الهيئات المنتخبة والجمعيات الطبية لتلقيح الناس.
ولعل مرورا سريعا على تاريخ الجدري ولقاحه سيضيء لنا بعض الأنفاق المظلمة التي دخلت بها البشرية عام 2020 باجتياح وباء كورونا للعالم، وما رافق ذلك من جدل استمر حتى بعد اكتشاف اللقاح والبدء بحملات التطعيم ضد الفيروس.
الجدري مرض فيروسي معروف منذ مئات السنين كان إذا اجتاح منطقة أودى بحياة الكثير من أهلها. وقد انتبه بعض الهنود والصينيين قبل 1000 عام إلى أن طحن بثرات الجدري الجافة ثم تنشيقها في الأنف للإنسان يؤدي إلى إصابة خفيفة لا تلبث أن تحمي صاحبها من المرض الشديد.
ورغم ذلك بقيت الوقاية من المرض أنجع طريق لتجنب الإصابة والموت. ففي عام 1676 نشرت في بوسطن أول ورقة طبية تتحدث عن كيفية تنظيم أهالي نيو إنغلاند لأنفسهم خلال وباء الجدري والحصبة.
ثم بحلول القرن الثامن عشر بدأت تنتشر حالات تلقيح الجدري بالتشطيب وهو تشطيب الجلد بمخلفات البثرات الجدرية عبر سحجات سطحية تؤدي إلى تشكيل حالة مخففة من المرض لكنها واقية منه. أدت عمليات التشطيب هذه إلى خفض نسبة الوفيات من 20-30% من المصابين بالجدري إلى 3-4% من المشطبين.
ثم في عام 1749 وُلِد إدوارد جينر في بريطانيا (توفي في 1823) والذي سيكون له الدور الأكبر في اكتشاف لقاح الجدري عبر ملاحظته أن الخادمات اللواتي كن يحلبن الأبقار لم يكن يصبن بجدري الماء إذا ما أُصبن بجدري البقر أثناء حلب الضرع المصابة للأبقار.
وفي عام 1896 أجرى جينير تجربته الشهيرة بأن لقح طفلا بمخلفات بثرة من امرأة أصيبت بجدري البقر فأصيب الطفل بجدري البقر ثم ما لبث أن تعافى منه. ثم عمد جينير إلى تشطيب هذا الطفل بمخلفات من بثرات جدري الماء الذي يصيب البشر فبقي الطفل سليما معافى دون أن يصاب بجدري الماء.
بعد ذلك عمد جينير إلى نقل جدري البقر من إنسان إلى آخر ما أظهر مناعة الإنسان ضد جدري الماء عند أولئك الذين تلقحوا بجدري البقر.
رغم هذا الاكتشاف الهائل فإن الجمعية الملكية رفضت تقرير جينير الذي سطر فيه نتائج أبحاثه، فما كان منه إلا أن نشره نشرا ذاتيا بعنوان: “التحري في أسباب وتأثيرات التجدير البقري” An Inquiry into the causes and effects of variolae vaccinae.
ومن هنا بدأ استخدام كلمة (vaccinae) التي تعني البقر والتي ما لبثت أن تحورت إلى (vaccine) حيث أصبحت تعني اليوم اللقاح.
ومن بريطانيا نقل ووترهاوس اللقاح إلى أمريكا فلقح أولاده. ثم ما لبث أن راسل الرئيس جون آدامز في محاولة للحث على نشر اللقاح بين العامة. لكن آدامز لم يستجب الاستجابة المرجوة فأرسل ووترهاوس رسالة إلى نائب الرئيس توماس جيفرسون فتلقى منه ردا مشجعا جدا ذيله بتوقيعه: “خادمكم المطيع المتواضع توماس جيفرسون”.
وبحلول عام 1806 كان توماس جيفرسون قد أصبح الرئيس الثالث لأمريكا بعد جورج واشنطن وجون آدامز وتبنى بقوة لقاح الجدري وحض عليه، كما أظهرت رسالته لابن شقيق جينير.
هذا الدعم الرئاسي الرسمي أسفر عام 1813 عن تأسيس هيئة تلقيح الولايات المتحدة.
ثم استمر تطور اللقاح إلى أن تمكنت البشرية من القضاء على المرض تماما بل استئصاله قبل عدة عقود إلى درجة أن اللقاح لم يعد لازما.
هذا الزمن الطويل الذي استغرقه إنتاج اللقاح وتطبيقه سببه أن الطب كان بدائي الأدوات، رغم أن ثقة الناس بالأطباء كانت عالية.
وبالعودة إلى زمننا الحاضر فإن ما حصل خلال العام الماضي من انتشار وباء كورونا في كل أنحاء العالم والسباق المحموم الذي واكب ذلك الانتشار في محاولة لإيجاد علاج ثم لقاح للفيروس كشف عن فارق التفكير الكبير عند الناس خلال 200 عام.
فرغم أن وسائل الطب اليوم أصبحت متقدمة بشكل مذهل فإن ثقة الناس بالطب والأطباء قد اهتزت. وسبب ذلك هو انتشار ظاهرة الأخبار الزائفة بسبب تقدم وسائل التواصل الاجتماعي من جهة وتخلف الناس عن التحقق ما يسمعونه ويشاهدونه من جهة أخرى. فأصبح من السهل جدا نشر أي خبر كاذب بعد تغليفه بغلاف براق يضفي عليه نوعا من الوثوقية والمصداقية كطبيب يلبس رداءه الأبيض أو الأزرق ويتحدث بشكل واثق أن اللقاح مؤامرة لأنه لا يمكن إنتاج لقاح إلا بعد عشرات السنين ناسيا أو متناسيا عن قصد أو غير قصد أن الطب في القرن الحادي والعشرين ليس مثله في القرن الثامن عشر، وأن أدوات الطب اليوم قطعت أشواطا متقدمة في طرق التعرف على المرض والوصول إلى أساسياته كما حصل مع فيروس كورونا الذي سهل علم الجينات الحديث اكتشاف خريطته الوراثية ونشرها خلال أسابيع من المرض، الأمر الذي سهل على العلماء تطوير اللقاح ليس ضد الفيروس بحد ذاته بل ضد إحدى أدواته المساعدة التي تمكنه من دخول الخلية الإنسانية وهو الشوكات الملتصقة على سطحه.
فكان لقاح فايزر بيونتيك ولقاح مودرنا الذي هو عبارة عن الرمز الجيني الذي يمكن الجسم من تصنيع الشوكات وبالتالي تشكيل أضداد ضدها حتى إذا ما تعرض الإنسان للفيروس هاجمت تلك الأضداد شوكات الفيروس ومنعته بالتالي من اختراق ودخول الخلية الإنسانية ما أسفر عن وقاية وصلت إلى 95% ضد المرض.
هذا التقدم المذهل في لقاح كورونا يبدو وكأنه خارج من فيلم خيال علمي لكنه حقيقة مؤكدة جعلت الكثير من الأطباء يصطفون بالدور دون تردد لتلقي اللقاح فور توفره رغم محاولات التشويش التي أطلقها سدنة معبد المؤامرة، هؤلاء السدنة الذين ظهر أنهم ينتمون لكل الحضارات والأديان دون تمييز.
ولكن بالمقابل فإن كثيرا من الأطباء الذين ساهموا بمكافحة المرض واكتشاف لقاحه ينتمون إلى مختلف الملل والنحل بما في ذلك المسلمين الذين تربعوا على قمة هرم تلك الاكتشافات مع نظرائهم.
إن قضية نشر الأخبار الزائفة ليست مقتصرة على فئة دون أخرى كما أن مكافحتها لا تقتصر هي أيضا على مجموعة بشرية دون أخرى. هذه القضية أصبحت اليوم أخطر قضية يواجهها الجنس البشري ولابد من محاربتها بنشر أسس التفكير السليم لقطع دابر المزورين. (عربي بوست)
بين مرض الجدري وفيروس كورونا 2020.. قصة اللقاحات عبر 200 عام
الوسوم