سفر جديد ترسم مسالكه الشاعرة أسماء خيدر من خلال مسارات قصيدة “كلام في الحب”*، ومنذ البداية يظهر أن هذا السفر يشوبه نوع من الحذر والتوجس، وهذا ما تشير إليه معاني المقدمة “يا عابرا من دروب البداية… لا تسرع في خطاك”، وأعتقد أن هذا الحذر من ركوب هذا السفر الذي ينطلق من عتبة الماضي البعيد من “دروب البداية” ينبع من إدراك الشاعرة ووعيها أولا بصعوبة المسالك الموغلة في متاهات الذاكرة السحيقة، وثانيا وعيها بدلالات السفر ومفاجآته، فالسفر ينطوي على دلالتين هما: دلالة الغربة، ودلالة الحنين، فكل مسافر تجتاحه مشاعر متداخلة من الاغتراب والحنين، ولعل الشاعرة واعية بحدة هذه المشاعر، لذا فهي تعلن الحذر منذ البداية من ركوب هذا السفر، لأنه سفر لا يشبه الأسفار، لأنه سفر إلى الحياة، مشدود إلى كل الأزمنة، الماضي والحاضر والمستقبل، ومسالكه متشعبة، بل مستحيلة المخارج، لأنها تروم أهدافا مستحيلة “وآنت تلاحق نجمة زاغت عن سريرها” وكأن الشاعرة هنا تستلهم روح الشاعر المتنبي الذي قال “فلا تقنع بما دون النجوم”، فسفرها يروم حلما قديما بعيد المنال لأنه “حلق بعيدا”.
ومع توالي محطات النص تستوقفنا أسباب الحذر والتوجس المسيطرين على الشاعرة، ومنها خوفها من كل الكائنات، وقد يعود هذا الخوف إلى ما راكمته من تجارب في علاقاتها بدنيا البشر، وقد يعود إلى مخزونها العقائدي أيضا “استعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان”، وهذا ما نستشفه من ثنايا هذه الأبيات” ثم ازرع أمانيك في حديقتك السرية… قبل طلوع الفجر… ولا تخبر أحدا…” وتؤكد الشاعرة على أهمية هذا الكتمان، خصوصا وهي تعتمد الحكمة والخبرة كمرجعية لها “هذا ما قاله حكيم القبيلة” .
وتعود الشاعرة مؤكدة على صعوبة هذا السفر”هو السفر المتعب” حيث تستجمع من حقل دلالة الصعوبة كل دلالاتها مثل “يكسر، يعكر، أنين، الجرح، حرائق…الخ”، وبتفحصنا أسباب هذه الصعوبة، نعثر على أهمها وأقواها، وهي “الفكر” حين باحت الشاعرة “وعرف أني محكوم علي بحمى التفكير”….
وطبعا، وبما أن دلالة السفر تحيلنا على رحلة الحياة، فإن من يعش هذه الحياة انطلاقا من فكره، فإنه حتما سيعيش حياة شاقة ومتعبة، والعكس صحيح، وقد أشار الشاعر المتنبي قديما إلى هذا المعنى “ذو العقل يشقى في النعيم بعقله…. وأخو الجهالة في الشقاوة ينعم”. وتسترسل الشاعرة على إيقاع “هو السفر المتعب” تستعرض كل تجليات التعب التي تعترض عابر سبيل هذه الحياة، فسفر الحياة “يكسر كأس العمر” و”يعكر صفوتك” .
ويبقى أصعب ما في السفر، حين ترتد الشاعرة إلى الوراء، وتصر على أن تكون الذاكرة هي محطة الانطلاق، فحينها “يكبر الجرح ويتسع كالمدى”، وتتوقف رحلة السفر/ العمر، عندها، رغم إحساسها بأنها تطوي المسافات، لأنه سفر عبر الخيال “مسافر في خيالك”.
ولكن السؤال الضمني الذي يؤرق الشاعرة هو: هل السفر عبر الخيال/الذاكرة سيحقق النبوءة…؟ طبعا لن تتحقق، لأن الفعل “تنتظر” الذي اعتمدته الشاعرة بذكاء، حسم الجواب بالنفي، “تنتظر… أن تتحقق النبوءة” فالانتظار في دلالته زمن ممتد، بدون أفق، وهذه حقيقة ينطوي عليها الوعي الشعري عند الشاعرة، لأنها تدرك أن السفر عبر الخيال هو تيه وضياع “ضائع في ليلك، في شكك ويقينك” وحين يتأرجح الوعي بين الشك واليقين، هنا تضيع الحقيقة، ويهيمن الضياع الصعب..
وفي الأخير، تأبى الشاعرة وهي تعبر مسالك الحياة في رحلة العمر، إلا أن تستوقف نفسها عند محطة “الوطن” بكل رموزه (الأم… الحبيب… البيت… الحقول) لتعود بنا إلى الواقع، وتصرح بانتمائها إليه ولو عبر لحظة حلم عابرة، لأنها ستستفيق على ذلك الحب/ الانتماء، لتشهد على تلاشيه مع ضوء الشفق “ودعته وقت الشفق حين بكى البحر وأزبد”، ولكنها رغم كل الألم والإحباط، ستظل متعلقة بخيط الأمل، لأن الحب “في الوجدان سكن” ولا بد له من أن يعود مع عودة الربيع “انتظر الربيع لعله يزهر العمر”.
وفي الختام، فهذا النص جسد سفرا عبر الذاكرة، بكل تداعياتها الزمنية ومشاعرها البشرية، وأكدت فيه الشاعرة على أن محطة المستقبل في انتظارها ما دامت مقترنة بالربيع، ولذلك قررت الاستمرار، ومن هنا تؤكد الشاعرة على أن سفرها هذا له دلالة الحنين إلى ذلك الحب المفقود والوطن المنهوك .
وتبقى الإشارة إلى الصور الفنية، التي طغت على النص، وهي صور تتراوح بين التشبيه البليغ، والاستعارة المكنية، وكمثال (كأس العمر… أصابع الحياة… صهيل الحقول… زرع الأماني…. بكى البحر…. جوع الحجارة… الخ) أما التشبيه الصريح فهو وارد بكثرة مثل: كالمدى… كدخان… كشقائق… الخ
* قصيدة “كلام عن الحب” للشاعرة أسماء خيدر
منشورة بالملحق الثقافي الأسبوعي
لجريدة بيان اليوم عدد 9611 ( 30 شتنبر/2اكتوبر)
بقلم: الطاهر جوال