يعتبر الأدبُ (مؤسسةً اجتماعيةً) تستعمل اللغةَ كـ(وسيلةٍ اجتماعيةٍ) للتفكير والتعبير، والتواصل والتفاعل . ومن هذه النقطةِ بالذات، يصبح العملُ الأدبيُّ (قصة، رواية، مسرحية…) انعكاسًا (إبداعيًّا) للواقع الاجتماعي، وللعالم والحياةِ بصفةٍ عامةٍ . ولا يمكن فصلُهُ عن الأديب، لأنه قطعةٌ من ذاته، المستجابةٌ للحياة الاجتماعية، التي تعيش في قلبها، وترتبط بحـبلها السُّرِّي، وتمتزج معها كليا أو جزئيا، كذاتِ أيِّ إنسانٍ آخرَ، يتأثر بقناعات أهـلِها الثقافية، ورؤاهم الفكرية، وآمالهم وطموحاتِهمُ المشروعة…!
لكنْ، ليس معنى ذلك، أنَّ هذا الأديبَ يساير الظروفَ الاجتماعيةَ، كما هي، فيمكن أنْ تـتكونَ لديهِ رؤى غيرها، تدنو منها، أو تنأى عنها، توافقها أو تخالفها. إذ يكون مرغَمًا بتأثيرها الفعلي فيه، أنْ يُشَكِّل لنفسِهِ أفكارا وآراءً وسلوكاتٍ تجاهها، تظهرُ جَليةً في أعمالِهِ الأدبيةِ. ولهذ يرى نقاد أنَّهُ يستحيلُ فصلُ الأديبِ عن كتاباتِهِ، التي تــبلــور، بشكلٍ أو بآخرَ، مواقــفَــهُ من مجــتــمعِــهِ، سواء كانتْ موافقةً أو معارضةً!
وتكاد كلُّ الاتجاهاتِ الأدبيةِ، تُجْمِعُ على أنَّ هناك تفاعلا، طافحا أو خفيا، بين الأديب ومجتمعه ((الإنسانُ ابنُ بيئتِهِ)) وحتى الذين حاولوا أن يتنكروا لهذه الرؤيةِ، ويُديروا لها ظَهْرَ الْــمِـجَـــنِّ، عادوا ليؤكدوا عليها في دراساتٍ أخرى، ومنهم رولان بارث في كتابته عن (موت المؤلف) ويكفي أن (البنيوية الجينية) التي تُرَكِّز على بنية العمل الأدبي، لا تـتعامى عن الرؤيةِ الاجتماعية له . فهي تـنطـلـق من العلاقة التفاعلية بين الشخصيات الرئيسية والثانوية في مجتمعها، أي بالتركيبة الجينية، يربط الأديبُ هذه الشخصياتِ بوضعها الاجتماعي!
والبنيويةُ الجينيةُ، إذا جاز لي هذا التعبير، تـتوخَّى في دراستِها وتحليلِها مصدرَ العمل الأدبي، كالمزج بين الإنسان ومجتمعه، ودور الأديب وما يعكسُهُ من أفكارٍ وأحاسيسَ وأحلامٍ وآمالٍ وخُـطـطٍ…وهذا سيقودنا، حتْما، إلى (علم اجتماع الأدب) الذي يُـفسر ما إذا كان العمل الأدبي يتماثل مع الواقع في الحياة الاجتماعية أم لا؟!..لكنْ، ما هي العوامل التي تحدد رؤيةَ الأديب؟!..وكيف يتفاعل مع مجتمعِهِ؟!..أو كيف يحكم عليه، ما إذا كان صالحا أو طالحا..اِجـتماعيا، ثـقافيا، سياسيا، فـكريا، روحيا، سلوكيا…؟!
في البداية، يرى العلماءُ مثل (آلان سوينجوود، وماكس ويبر) وآخرون، أنَّ علم الاجتماع (مؤسسة) تــتــعلَّق بالأدب، أكــثــرَ من العلوم الأخرى، لأنها تهتم بكل جوانب الحياة الاجتماعية للإنسان . ويقسمونها إلى:
1 ـ علم اجتماع يرتبط بـ(الأديب) أي يمارس الكتابةَ، كمواطنٍ، له خلفيةٌ اجتماعيةٌ يستـنـد عليها، ولا يُـفْصَل عن مجتمعه، في علاقة ثنائية جدلية . وغالبا ما يتميز عن المواطن العادي، وحتى عن السياسي، بحساسيةٍ عاليةٍ، وبشعور حادٍّ، ويُمَيِّز الأمورَ بمنظور أكثرَ دقةً ووُضوحا…!
2 ـ علم اجتماع (النص الأدبي) يخضع للدراسةِ، كوثيقةٍ ورؤيةٍ للواقع الاجتماعي، وحركة تاريخية، تحمل عاداتٍ وتقاليدَ وأعرافًا، وقيما أخلاقية ودينية وثقافية، وأفكارا..وبإيجازٍ، هو مرآة العصر، في تقدمه الحضاري أو تخلفه!
3 ـ علم اجتماع (الأدب) الذي يهم المـتلقي والمجتمع، فعبر الصور الفنية التي ينسجها الأديبُ لموضوعاته، يؤثر فيهما، فلا يقلد الحياةَ الاجتماعيةَ فقط، إنما يؤطِّرُها في أشكالٍ فنيةٍ، يتبناها الفردُ والمجتمعُ معًا، ليطورا وضْعَـهُما . إذ لا يوجد في هذا الكونِ (أدبٌ) يأتي من فراغ، أو يولد في مجتمع (عاقرٍ) إنما من قِـــبَـــلِ أديب (إنسان) هو عنصر محوري في المجتمع . يرصد أحداثه، فيحولها إلى نص أدبي، ذي دلالاتٍ وأبعادٍ متنوعةٍ…وهكذا، توجد علاقةٌ جدليةٌ بين الأدب والمجتمع، كلاهما يؤثر في الآخر!
لنأخذْ مثالا على ذلك!..في المجتمع العربي، لم يكنْ هناك اعتراف بهوية المرأة، وربما ما زال في بعض بلدانه . ففي رواية آسيا جبار (ظلُّ سلطانٍ) ترى الكاتبةُ أنَّ المجتمع ينظر بدونيةٍ مقيتةٍ للمرأة . ولتغـيـير هذا النظر القاصر، تُحضر شخصيةَ (حجيلة) فــتجعــلها امرأةً متعلِّمةً، تدافع عن حقوقِها، بل لتنشر التعليمَ والوعي بين النساء، ليحققن هويةً اجتماعيةً متساوية مع الرجل، بدل البقاء عالةً في هامش المجتمع . وهذه الرؤيةُ التحرريةُ في الأدب لآسيا جبار، التي يُسمُّونها بـ(شقيقة شهــرزاد) ساهـــمــتْ بــدورها في تغــيــيــر الــرأي الذكــوري العام نحو المرأة في المجتمع الجزائري!
وقياسًا على ذلك، نلحظ أن أثـرَ الأدب محسوسٌ في المجتمع بشكل تلقائي أو غير تلقائي، فروايةُ (كُوخ الْعَـمِّ تُـومْ) للكاتبة (هيريت بيتشر تشاو) لعبتْ دورا كبيرا في الحركة ضد الرِّقِّ والعبودية في الأدب، والحياة الاجتماعية القاسية في القرنِ التاسعَ عشرَ بالعالم الجديدِ . كما كان لروايات تشارلز ديكنز تأثيرٌ تلقائيٌّ في خلق شعور في المجتمع البريطاني لتجاوز أخطاء فادحةٍ، وإقرار إصلاحات ناجحة!
وبالنسبة للشعر، كان ألكسندر بوشكين في روسيا، معارضا للأرستـقـراطـيـيـن، الذين جنحوا للرومانسية والخيال، ونأَوْا بأنفسهم عن مجتمعهم . فكانتْ كتاباتُ بوشكين صوتا قويا يقرِنُ الفنَّ بالمجتمع، ليجد صدى لدى قرائه . بل إنَّ صديقَهُ نيكولاي غوغول، عندما شعر بأنه لا يستطيع أنْ يعبِّر عن آلام مجتمعِهِ بالأدب (نشير إلى مسرحيته ـ المفتش العام ـ التي تتناول تفشي الرَّشاوى والنفوذ في المجتمع الروسي) لجأ إلى الترشيد التربوي والأخلاقي، كما فعل الروائي ليو تولستوي، عندما أرسل نداءاتِهِ لترميم مجتمعِهِ، في ظروفٍ اجتماعيةٍ رهيبةٍ، عاشها الروسُ…!
< بقلم: العربي بنجلون