الذين يعتقدون أن الإذاعة سيتراجع حضورها في الساحة الإعلامية تاركة المجال للوسائط الرقمية التفاعلية، لا شك أنهم يجانبون الصواب، بدليل الكم المسترسل من الاتصالات التي تتقاطر على المحطات الإذاعية على امتداد ساعات اليوم، سواء في شكل مكالمات هاتفية أو رسائل نصية، بل نجد بعض هذه المحطات – بصفة أساسية المحطات الخاصة- تحقق توازنها المالي بفضل عائدات الرسائل النصية.
مما لا شك فيه أن عدد محطاتنا الإذاعية يعد ضئيل جدا، بصورة لا تتصور، بالرغم من أن تحرير القطاع السمعي مر عليه حتى الآن أكثر من عقدين من الزمن. هل مرد ذلك إلى عدم جرأة المستثمرين على الخوض في هذا الميدان اعتقادا منهم أن مردوديته المادية غير مضمونة أو غير مستقرة؟ قد يكون هذا سبب من بين أسباب أخرى، منها على الخصوص التشدد الذي لا يزال قائما في ما يخص ترخيص الدولة لإنشاء قنوات إذاعية وتلفزية على حد سواء.
هناك فراغ كبير في ما يتعلق باستغلال الأمواج الإذاعية، مع أن هناك أكثر من سبب لإنشاء محطة إذاعية جديدة، مضمونة النجاح، حيث هناك الكثير من القضايا لا يتم التطرق إليها في المحطات القائمة، أو أنه يتم المرور عليها بشكل سريع مقتضب، في الوقت الذي تحتاج فيه إلى مساحة زمنية كبيرة لمتابعتها ومحاولة الإحاطة بها.
بل يمكن التفكير في إنشاء محطات إذاعية تتناول قضايا موضوعاتية، وهذه المشاريع غالبا ما يكون النجاح حليفها، يمكن أن نضرب مثلا بإذاعة مارس المتخصصة في الرياضة، وإن كانت لهذه الإذاعة نقائصها، في ما يخص معالجتها لشؤون الرياضة، فضلا عن أنها تركز اهتمامها أكثر على نوع رياضي بعينه، مع ذلك فهي تحظى بإقبال من طرف شريحة واسعة من المستمعين.
ولا نغفل الإشارة إلى إذاعة أخرى ذات توجه موضوعاتي، هي إذاعة محمد السادس للقرآن الكريم، حيث نجدها تحتل الصدارة كل سنة في ما يخص قياس نسبة الاستماع إليها.
يمكن أن نأتي بعدة أمثلة للقضايا التي يمكن أن تدفعنا لكي ننشئ محطة إذاعية خاصة بها: علم الفلك، التمثيل الإذاعي، عالم الطبيعة.. إلى غير ذلك من القضايا والمواضيع الجديرة بالاهتمام، والتي مع الأسف يتم إغفالها من طرف المسؤولين عن البرمجة في مختلف الإذاعات القائمة.
من الملاحظ أن كل محطة إذاعية تسعى إلى الاجتهاد في أوقات ذروة الاستماع، من قبيل الفترة الصباحية وكذا فترة محددة من الليل. هناك تفاوت في قيمة تنشيط المساحة الزمنية المشار إليها، ففي الوقت الذي تعتمد إذاعة واحدة أو إذاعتان على الإخبار وتلقين المعرفة الجادة والرصينة، نجد أغلب الإذاعات الأخرى تلجأ إلى التهريج إيمانا من مسؤوليها بأن هناك فترات معينة من اليوم تفرض معالجة المواضيع الخفيفة والطريفة والمضحكة.
من المثير للإعجاب أن العديد من إذاعاتنا إن لم أقل كلها، تحرص على ضبط أوقات برامجها، إذ من النادر أن يحدث لبرنامج ما أن يلتهم من توقيت البرنامج الموالي له، هناك حضور دائم لتلك العبارة المتوارثة جيلا بعد جيل: “نظرا لضيق الوقت.. وقت البرنامج انتهى، نعتذر لمستمعينا الكرام”. هذا شيء رائع، وكان سيكون أروع لو تم استثمار مدة البرنامج بشكل جيد، إذ كيف يعقل أن تتخلله مختارات غنائية، وفي النهاية يتم توقيف الحديث حول تفصيل هام بحجة أن الوقت يداهمنا.
من المستجدات التي طرأت على بعض إذاعاتنا، هو استغلالها للتواصل الرقمي، من خلال الاعتماد على التصوير المباشر، وبالتالي لن يعود هناك مجال للحديث عن الإعلام السمعي بحصر المعنى.
يحدث لي في كثير من المرات أن أبحث عن موضوع يجري النقاش حوله، أو محاضرة تلقى، أتقلب من موجة إلى أخرى، فأجد كافة الإذاعات مفتوحة على الأغاني، وهذا يدفع إلى التساؤل حول ما إذا لم يكن ضروريا التنسيق بين هذه المحطات الإذاعية.
أختم بالإشارة إلى الإذاعات التي تعتمد في الغالب على البرامج الحوارية المرتكزة على الإجابة عن أسئلة المستمعين، هناك الكثير من المتصلين الذين يطرحون أسئلة ساذجة، أستمع في بعض الأحيان إلى برنامج “يسألونك” بالإذاعة الخاصة بالدين، وكم أشفق على الدكاترة المتخصصين في الفكر الإسلامي الذين يستضيفهم البرنامج، حين يتصل أحد المستمعين ويسألهم بجدية عن اسم الكلب الذي كان بصحبة أهل الكهف.
< عبد العالي بركات