> زهرة مرعي
ختامها مسك في رواق جانين ربيز. حليم جرداق رائد الكولاج في لبنان يرفل في معرض استعادي. في الافتتاح تنقل بين زملائه من الفنانين الجدد وجلهم من طلابه في معهد الفنون في الجامعة اللبنانية، وبين الحضور مزهواً بمداميك خاصة خطها في فن التشكيل واللون. سنواته البعيدة بعامين عن التسعين لا تزال تزخر برؤى فنية صاخبة وحداثية ليست للشباب من الفنانين في حاضرنا. أوليس حليم جرداق رائد التجريب؟
معرض حمل عنوان «أعمال مميزة» شكلت نموذجاً من الحقل الاختباري الطويل الذي مارسه حليم جرداق الفنان بقلمه وريشته ومطرقته اللطيفة، مانحاً خياله كل سبل التجديد والتجريب. شملت الاستعادة أعمالاً مؤرخة في بدايات الخمسينيات، وهو التاريخ الذي بدأ معه جرداق شق خطواته الأولى في عالم الكولاج. عاش معه بسخاء زمني بدون وضع نقطة نهاية عليه كمرحلة وفن. واصل الغوص والتجديد، وأبدع ما يمكن وصفه بالمدرسة الخاصة به. لم يهجر الفنون الأخرى، وظلّ مثابراً في رسم الزيتيات، وأثمرت أعمالاً دافئة جداً. وفي هذا المعرض الاستعادي عُرضت مختارات من نتاجه الباريسي تعود لمرحلة دراسته وإقامته الطويلة في العاصمة الفرنسية.
إبحار جرداق في عالم الكولاج يحمل العين في رحلة بعيدة تتكثف خلالها الابتكارات الفنية. من تركيب يدخل إلى تركيب سبقه إلى اللوحة. برزت في العديد من لوحات الكولاج ألوان البدايات وأقلام الطفولة البكر تخترق عالماً من خطوط الرصاص المكثف أو الخفيف، إلى وجوه تحتل لوحة من عائلة الكولاج، وفي أحيان يتجاور الباستيل مع الفحم بإلفة ورقي. في لوحة تعود لسنة 2001 بالكولاج ثمة أهزوجة تخترق خطوطها لتبلغنا كم هو جرداق معني بالحياة، بالإنسان وبالفرح.
وفي أخرى يضفي الفنان على عمله عبقاً من ورق معتق يحمل خربشات هادفة، وكأنه من خلال تداخل خطوطه السوداء مع اصفرار الورق الذي استعان به يعلن حتمية خلود اللحظة والفكرة التي ينتجها الفنان.
كتب حليم جرداق على عدد من لوحاته التي تعود للسبعينيات وما سبقها بأنها «اختبار للفنان»، وهو يخوض فيها جميعها أعمال التركيب بأفكار تستدعي التبصر فيها، خاصة منمنمات الوجوه. في عمل موقع سنة 1967 قدّم وعبر الكولاج ما يشبه الحمار. هي أقدام أربع، إنما فاق عدد الآذان المنتصبة على رأسه قدرة الإحصاء. لا يتوقف خيال الفنان عند حدود مع لون الرصاص والتركيب، فهو يخوض في منمنمات لطيفة ودقيقة للغاية، يضفي عليها اللون الأول الذي اختبرناه في الصغر خلال ساعة الرسم، مما يمنحها رغم عمقها مسحة معرفة بكر، مستندة إلى رؤية واسعة. ليس لتجارب جرداق مع الكولاج من حدود، إذا تقرأ في عمل عتيق أبعاداً ثلاثية للوحته.
فيها تتداخل الأجساد وتنفصل في آن. هو كولاج ثلاثي الأبعاد وقديم العهد.
الركن الدافئ من استعادات حليم جرداق في باحة قصية. في هذا الركن تبدأ الألوان بالبوح بلغتها الصامتة والصارخة معاً.
لوحات تعود ولادتها لتاريخ إقامته الباريسية بين خمسينيات وستينيات القرن الماضي، حيث أكمل دراسته الفنية وأبحاثه. في هذا الركن طبيعة أوروبية ذات ألوان ناضجة وثابتة ومتعارف عليها في اللوحة الغربية الهوى. حتى في رحلته مع العاريات التي رسمها في المرحلة عينها، بقي اللون الأوروبي مسيطراً على اختيارات ريشته، إنما عارياته شرقيات التقاسيم والمقاييس، رسمهن وجهاً لوجه بدون أدنى مواربة في وضعية الجلوس، فلا حياء في الفن ربما. وبين تلك اللوحات كانت نساء عاريات ومتأملات أضفت عليهن تقنية الزيت أبعاداً إنسانية حنونة جداً.
وكما أن جرداق من المبادرين والرواد في الكولاج بعد رحلة مديدة مع التكعيبية، فهو كذلك مبدع ومبادر بالعمل على النحاس. ثمة أفكار صعبة ومعقدة تختزنها تلك القطع النحاسية الصغيرة الحجم. في تعرجاتها ألف فكرة وفكرة.
وحين أعطى نفسه فرصة التعامل بدقة مع الخيط النحاسي، قدم أشكالاً تحمل لغة الارتقاء، الرفعة، الحرية والتحليق.
حليم جرداق رائد فن «الكولاج»

الوسوم