درس في الصحافة

“المعنى الحقيقي للحرية هو الحق في إخبار الناس بما لا يريدون سماعه”،

المقولة أعلاه هي لجون رايخ مؤسس هيئة الإذاعة البريطانية (bbc) سنة 1922 كهيئة عمومية، مستقلة عن الحكومة، وهو شعار يتصدر المدخل الرئيسي لمقرها بالعاصمة البريطانية لندن. وخلال مسارها الطويل، اضطلعت البي بي سي، على مدى أزيد من 100 سنة، بأدوار إعلامية طلائعية على مستوى الأخبار السياسية والثقافية والفنية.

كما تمكنت الإذاعة من مواكبة أبرز أحداث الشأن الداخلي البريطاني والدولي، وظلت هذه الإذاعة التي يبلغ عدد العاملين بها أزيد من 20 ألف مستخدما، تحتفظ بشعارها الأول، ووفية له، وتذكر به، بالرغم من التحولات المتسارعة التي يعرفها المشهد السياسي والإعلامي محليا وعالميا..

تمثال جون رايخ المثبت عند المدخل الرئيسي للإذاعة البريطانية، ومعه اسمه وشعار “المعنى الحقيقي للحرية هو الحق في إخبار الناس بما لا يريدون سماعه”، باللغة الإنجليزية، وكأنه على ما يبدو يدعو صباح مساء الصحفيين، ومعهم بقية المستخدمين، إلى الالتزام بهذا الشعار، خلال مرورهم من أمامه قبل الالتحاق بعملهم.

لقد انتبه أصحاب فيلم سنيمائي حديث ليس فقط إلى التوقف عند الرمزية التاريخية للبي بي سي، ولكن طرح نموذج لبرامج إعلامية مهنية تتميز بالجرأة والجدة، وتلبى حاجيات الجمهور، في الإخبار والتثقيف والترفيه. وفي هذا الصدد يؤكد فيلم  SCOOP (السبق)، من خلال القصة التي اعتمدها على أن وسائل الإعلام مطالبة، إن هي أرادت تصدر اهتمامات الرأي العام، بالانطلاق من “ما لا يريد الناس سماعه”، وهي الفكرة الرئيسة التي يحاول الشريط طرحها ومعالجتها سينمائيا.

الفيلم عبر برنامج إخباري تلفزيوني أسبوعي، بعنوان “نيوز نايت” (أخبار الليلة) يثير الانتباه إلى ما يتعين أن تركز عليه الصحافة اليوم، ولو كانت وسيلة إعلام تقليدية، هنا التلفزيون، لكن ينبغي أن تبادر إلي التقصي والبحث عوض الاكتفاء بتقديم الأخبار التي لم تعد، في زمن الثورة الرقمية، اختصاصا خالصا للصحافة والصحفيين.

تبدأ المشاهد الأولى للفيلم من إعلان مسؤولة بإدارة الإذاعة عن خطط للاستغناء عما يقارب 450 وظيفة، حتى تتمكن المؤسسة من خفض نفقاتها والرفع في نفس الوقت من كفاءتها المهنية. هذا القرار سيشمل كافة الأقسام الإخبارية وأيضا على جميع البرامج بالإذاعة. بعد ذلك تنتقل الكاميرا إلى فضاء هيئة تحرير برامج (نيوز نايت)، حيث يعلق صحفي بذات البرنامج على قرار الإدارة بالقول: “ها قد بدأت الكارثة”. غير أن زميلا له يرى أن ذلك يفرض على طاقم البرنامج البحث عن أفضل السبل لتحسين انتاجنا وتطوير مهاراتنا في تقدم أفضل الأخبار والمعلومات، وهذا هو الطريق الأفضل الذي يتعين أن نسلكه، حتى نحافظ على وظيفتنا، خاصة وأن المسؤولة عن الإدارة، وإن كان خطابها بصفة عامة خطابا قاتما، لم تقل شيئا عن برنامجنا الاخباري الذي نقدمه”.

وبحكم أن العالم تغير، فقد أجمع طاقم البرنامج على القول “يجب أن نتغير معه”، خاصة وأن كل عام تواجه البي بي سي المزيد من المنافسة في مجال الأخبار، وهو يحتم بذل مزيد من الجهود حتى نظل مواكبين للأحداث، للمحافظة على وظائفنا. .

وفي ظل هذه الوضعية الجديدة، وباعتبار أنه لم يتبق إلا تسع ساعات على بث البرنامج التلفزيوني، دار نقاش حول الموضوع الذي سيتم تقديمه، وبعد تقديم عدد المواضيع في اجتماع هيئة تحرير البرنامج، منها بيع الأسلحة البريطانية وتفاعلات خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي. بيد أن رأي هيئة التحرير، استقر على إجراء حوار يتضمن موضوعا يحظى باهتمام الرأي العام، وتطرح فيه الأسئلة بجرأة وحرية واستقلالية، حيث وقع الاختيار على البدء بالتواصل مع مساعدة الأمير أندرو الإبن الذكر الثاني للملكة إليزابيت، بهدف استضافته في البرنامج، وهو ما تطلب جهودا مضنية لإقناعه وذلك ما تحقق في الأخير بعد الاتفاق على ترتيبات كان يقتضيها البرتوكول وفق ما تقتضيه الأعراف والتقاليد البريطانية في هذا الشأن.

وفي هذا الصدد، يسلط فيلم (Scoop) الضوء على الإجراءات والتدابير التي رافقت الاتصال بمساعدي الأمير، قبل موافقته على إجراء اللقاء مع برنامج إذاعة البي بي سي، وعلى موضوعه، الذي تحدد في قضية واحدة تتعلق بصورة له ومقال نشرته إحدى الجرائد الصادرة بنيويورك منذ تسع سنوات، تحدثت فيه عن علاقته وصداقته مع ملياردير أمريكي أدين بجرائم جنسية.

وعلى الرغم من أن الأمير شكك في صحة الصورة الشهيرة، ولم يبد ندما على صداقته مع الثري الأمريكي، بالقول: “الأشخاص الذين قابلتهم، والفرص التي أتيحت لي للتعلم كانت في الواقع مفيدة للغاية”.. إلا أنه بعد أيام من الحوار، أعلن قصر باكنغهام أن الدوق سيستقيل من جميع مهامه الملكية، وسيتوقف، فعليا، عن كونه عضوا عاملا في العائلة المالكة، في الوقت الذي نجح البرنامج الإخباري في تحقيق أعلى نسب مشاهدة عرفها التلفزيون.  

وإن كان فيلم “سكوب” جديرا بالمشاهدة، فإنه يشكل بالمقابل، درسا بليغا في مجال الصحافة، وتوقفا عند  أهمية البرامج الإخبارية التلفزيونية بالخصوص، لكن إذا ما هي تمكنت طواقمها من معالجة القضايا الحيوية والتزمت بإعلام الحقيقة الذى يقطع مع التضليل والتعتيم، والكسل المهني، لأن “المعنى الحقيقي للحرية هو الحق في إخبار الناس بما لا يريدون سماعه”، وبأن الحاجة اليوم – في زمن الثورة الرقمية – إلى استعادة أفكار مارشال ماكلوهان، (1911 – 1980) الفيلسوف والباحث الكندى، صاحب نظرية الحتمية التكنولوجية، ومقولة الوسيلة هي الرسالة، التي تعني بالخصوص أن طبيعة كل وسيلة وليس مضمونها هو الأساس في تشكيل المجتمعات، على اعتبار أن كل وسيلة لها جمهورها الخاص.

بقلم: جمال المحافظ

Top