ذكريات طنجة

انطلاقا  من الجزء الثاني من الألفية الثالثة ظهر في المغرب نوع جديد من المخرجين من الذين ظلوا لسنوات طويلة متأكدين من أنهم سيتفوقون ويتألقون ما أن تتاح لهم الفرصة. ينطلقون من فكرة خاطئة مفادها أن السينما مسألة مبارزة  تنتهي بانتصار مخرج على آخر أو تفوق جيل على آخر، ومنطلقين أيضا من خلط بين القدرة على الحكي والتعبير السينمائيين وبين امتلاك الأبجديات الأولية للغة السينمائية.
بالضبط مع انطلاق تفعيل القانون الذي يفرض على شركات تنفيذ الإنتاج إنجاز ثلاث أشرطة قصيرة  أو شريط طويل على حسابها لتشجيع الإنتاج الوطني، جاء الكل ليثبت تفوقه السابق الوجود على  العمل وسنوات الانتظار ويؤكد مرة أخرى بالفعل أن السينما المغربية ستنطلق ساعة صفرها منذ صدور فيلمه وأن التأريخ للانطلاقة الحقيقية للسينما أصبحت منذ الآن فصاعدا ممكنة معه. انطلق عدد من التقنيين والمنتجين والممثلين وكل من له علاقة بالميدان أو لا علاقته له به في إخراج أشرطة قصيرة بتقنية الوجبات السريعة. انتقلت المنافسة من مجال الإبداع ومدى عمق وصدق الرؤية الفنية إلى المنافسة على من الأسرع في صنع التفاهة، ثلاث أشرطة قصيرة في ثلاث أيام كتابة وتصويرا… أصبح السينمائي الحقيقي في هذه الأجواء الجديدة  يحس بنوع من الغربة  واللاجدوى.  
وصلت الأعمال من الرداءة إلى درجة أن الإنسان كان يحار في تصنيفها أو صياغة موقف عنها وكأنه أمام عمل تجريبي انقلابي يخالف كل القواعد والأعراف ويحار أكثر إلى درجة الانبهار عند حضور مناقشة هذه الأعمال ليقف على البؤس الفكري لمخرجيها وضحالة فنية وفي نفس الآن على ثقة في النفس تصل إلى حد الوقاحة.
في هذه الغربة، أصبح الواحد منا يتساءل ما معنى أن تكون سينيفيليا؟ ما معنى أن تكون مثقفا؟ وما معنى أن تأخذ الأمور بجدية، لأنك تجد نفسك تتحدث مع أناس وكأنهم قادمون من كواكب بعيدة  يتحدثون لغة غريبة غير المعتادة… في وقت وجيز أفقدت هذه الكائنات الشريط القصير هويته كتمرين أسلوبي وتجريب سينمائي ليصبح نسخة مختصرة  لتمثيلية تلفزيونية أو استعادة  لنكتة أو أي شيء آخر غير الشريط القصير الذي تعودنا عليه أو كنا نطمح لإنجازه أو التمتع بمشاهدته.  في غياب لأي أثر نفسي قد يتركه الفيلم لديك من غير الضجر والإحباط أو حتى الرغبة في الانتحار، في الأخير تتساءل ما جدوى إنجازه. كنت بصدق أتمنى أن يكون صانع العمل يطمح للربح المادي، لأنه في هذه الحالة، ستكون النتيجة مقبولة إلى حد ما لأن العمل سيكون له على الأقل سبب واحد للوجود.   
أمام غياب آليات نقدية لم تكتشف بعد لمقاربة هذه الظاهرة اللا سينمائية، كان البعض منا يبدع في تسمية الحصة البانورامية الليلية في المهرجان المتوسطي بطنجة التي كان يعرض خلالها هذا الكم اللامتناهي  من الأشرطة القصيرة في حصة تحس بأن مدتها قرن من الزمن، حيث أتذكر أننا كنا نسميها سوق الجملة للأشرطة القصيرة أو سوق الملابس المستعملة، أو “الخردة” أو كنا نتخيل أن هذه الحصة  الليلية يمكن أن تصلح كعقاب قد يعوض عن عقوبة  الاعتقال أو ما يشبه  الأشغال الشاقة. في المقابل وفي حالة شبه غيبوبة، كان أغلب مخرجي البانوراما يحتجون على عدم  اختيار أفلامهم في المسابقة الرسمية ويعدك البعض منهم أنك عندما ستشاهد فلمه ستفكر حتما في الانقلاب على مسؤولي المركز السينمائي والمطالبة بتقديم أعضاء لجنة الاختيار للعدالة بتهمة خيانة الوطن ويضيف بقلة حياء وبلغة مشفرة أن هناك نوعا من “الخواض” ويعدك أنه في الوقت المناسب سيفضح الكل.
بعد هذه البداية الموفقة اختص بعض المخرجين في استخراج وثيقة “لكريمة” لشركات الإنتاج الراغبة في ذلك أو استخراج بطائق الهوية المهنية في أقرب الآجال بتصوير ثلاث أفلام قصيرة في ثلاث أيام أو أقل وبالتالي أصبح لدينا مخرجون أنجزوا فيلموغرافيات لا متناهية  لا مثيل لها في العالم لأنها في وضع عادي تتطلب عمرا بأكمله، لكنها فيلموغرافية غير مرئية لا ترى خارج مهرجان طنجة.
بعد سنوات قليلة اندثر أو اختفى عدد كبير من هذه الكائنات الما وراء سينمائية وكأنها لم يسبق لها أن وجدت وعاد إلى مهرجان طنجة المتوسطي نوع من الهدوء والنضج . عاد البعض إلى عمله الذي  يتقنه وأصر البعض الآخر في الاستمرار في صناعة النسيان وصنع موقع قدم إما بطيبوبته أو سخائه أو بدهائه في نسج شبكة من العلاقات تمتد إلى أقصى المهرجانات الميكروسكوبية. المهم أن هذه الظاهرة أسست لمشاوير فنية تتقدم بدون أي مشروع جمالي أو فكر نقدي ولو متواضع أو حتى رغبة في الاجتهاد، ظواهر يجد مخرجوها في كل الحالات مبررات تعفيهم من الاعتراف بأنهم أخطئوا الطريق أو الاختيار…
يقول كودار إنه على الأقل في كرة القدم لا نستطيع أن نكذب، فعندما يسجل لاعب هدفا ويعتبر كذلك من طرف الحكام يصبح فعلا لا يحتمل قراءتنن. السينما مسألة وجهة نظر ورؤية للعالم  ولا يتم تقييم العمل بنفس أدوات تقييم مقابلة كرة قدم، وأن التألق لا علاقة له بعدد الإصابات. المسألة هنا تقيم بنسبية أخرى لا تتأسس على المقارنة والمواجهة لأنه لكل مخرج شخصيته وأجواؤه واهتماماته.
 باختصار إن معرفة أبجديات اللغة السينمائية ليست إلا جزء بسيط من القدرات التي يتطلبها إنجاز فيلم.

بقلم: محمد الشريف الطريبق

الوسوم ,

Related posts

Top