رمال الوهم

ترى، أين يخبئ الحلم قتلاه يا زمن؟

ترى أين؟

وليس لنا، غير ما في الروح من لحظة ود قليلة، تصلح هذه الليالي المزرقة من شدة البرد، نمسكها من أطرافها، لنلغي مسافات الهجر، حتى وإن نسينا الطريق لنمحو مساحات تتمدد بيننا، فننام ونصحو على ذكر المصابين، بالحب والحلم.

أولئك الذين رحلوا عنا، حاملين صدق محبتهم بين الضلوع، وعلى ياقاتهم الجميلة تختنق الشكوى والأرق، والشكوى لغير المحب مذلة، ولغير قلب صادق ألم وحسرة، وروح تسامت عن طين الأرض وغبار الطمع، محاولة فاشلة، وخيبة تعود بالحيرة والخسران.

وما أنا سوى تلك الجائحة الملقاة على كتف الأيام، تحتد بها الفراشات فأحصي مكحلة أحتراقها، أغفو ملئ الجسد لأتحاشى التعب، وأسيح في دوامة الحلم.

عندما تندثر الحواس بكامل ذبذباتها مع الأحلام، أجدني في انتظاري أينما وليت قلبي.

أين خبأنا الأحلام المتدفقة بأعمارنا؟

بدمائنا، بسجلات الأمال النازفين والنازحين والحائزين على الجوائز؟

أين نجد أقرب سماء لا تمطر خوفنا؟

أين نجد الشبابيك العالية فوق الدخان والنار؟

وأنا أتنقل عبر كواليس العمر، وأنا أتقاطع مع دروبها صادفت الكثير من الوجوه، الكثير من الناس، الكثير من القصص والروايات والحكايات، وأنا أقرأ الكتب وأعيش تفاصيلها العميقة، كنت أبحر بنفسي وأغوص، لأكتشف أعماق الذوات.

فما أوجعنا، ونحن نتناوب معاً على الذاكرة، نفصح عما باغتنا من المراثي، وداهم حصافة ماءنا، عن عميق اليباس، وقساوة الوقت حين تهنا عبر سرد إشكاليات التوقع على رمال الوهم…

وبعد كل تجربة…

أقرأ كل ليلة، ليتسع صدري أكثر لأعانق الأبرياء بكل سطر، أزدري الحروف المتقاطعة،

فأخرج منها منتصرة حتى تجربة الكآبة، كل حزن أعطيه شيئا مني ليعطيني كله، هكذا علاقاتنا تعودناها، أخذ وعطاء متواصل، يكبر وينقص حسب ظروف تحيطنا، إلا علاقة مع من شاء القدر لنا أن نكون فيها طرفها الحاضر، وطرف آخر منها في مجاهيل الغيب، مثلما هي علاقتي معك يا أنا، أيتها الحاضرة الغائبة، علاقة لا أنتظر منها صورة تقابلني في المرآة، أو ظلا يطابقني تحت الشمس، فقط صورة في المطلق الذي لا يحد، المطلق الذي لا نستطيع اللحاق به مهما هرولنا خلفه، قد يتصور أحد ما، أن الأمر فيه جنون أو خروج عن طبيعة الأشياء التي تخضع لنا، تجبرنا في الحياة، على البحث عن ذات ملموسة، ولكن قد لا يفهمني من هم تعلقوا بالمكان، وحشروا في أفق من زمن ضيق، يختزل حيلتهم وحياتهم في ساعات مكررة، تعيد اجترارهم بسماجة كل يوم، الأزمنة شيء يتمدد ويتسع، والروح مادة سائلة، ولا احتواء لها غير هذا الجسد المهدد بالفناء.

لكنها الروح ترفض أن تعتقل، وهي سر الموجود من العدم.

وبدلاً عن الثرثرة ستكتب نصك عن الوردة أو الشوكة حتى لا تنغرز هذه الرآء في الخاصرة.

ستكتب عن اللوحة عن الأنامل التي حركت الريشة ستتخيل النبض في مزج الألوان والأحلام في العدم.

وما أنا سوى ركن يتيم، في زاوية مقصية، أمكث بعناية الصدفة، كمحطة مهجورة تنام على تلويحات أكف العابرين، تركت على زجاجها المهمش بقع من الحنين، ممسكة بعصاي، أطرق بها بوابات الأرصفة، علّني أتبين ممشاي وسخط الآخرين.

ليمتلىء بي فراغ جسدي، فلا فاصلة لي في العناق، ولا هامش لي في الأرق.

فعلا، 

لاشيء في الحياة ثابت، الفرحة تائهة، والحزن سنة الكون، والحياة والموت حركتان تدبان في مفاصل المخلوقات، إلى أن يغزوها ذاك السكون، الذي يتحرك ليسلبها طاقتها بحلم، ينقض عليها ليسكن فيها ويشلها ويميت أعضاءها، مع كل صباح استيقظ على رموش فجر ناعس، يكسر ذاك الصمت القاحل، ذاك الظلام المندس بين ثنايا الرحيل، الصباح يشرق كفعل دائم فينا، لا نستطيع أن نلغيه أو نمحوه من صفحة الكون، حتى ولو استمر النوم جاثما على صدورنا، باقي الأحلام لا تأبه بما نحن عليه من غيبوبة النوم، مثل ما تتجاهله الشمس وهي تبسط ضوءها على الأرض ولا تعنيها نومة أهل القبور، هي توقظ النهار فقط لتستولي على الليل، عند ارتعاشة الغروب في  لعبة دائمة أبدية.

هكذا يا أنا،

نكتب لنحيا حياة قادمة، حياة نريدها أبدية فوق هذه الأرض، رغم شرور أهلها نواصل السير إلى الأمام، إلى نور نتمزق ونبكي ونتألم حتى نبلغ سحره.

لتبدو الحياة  ناعمة، رغم أنها مخادعة ولا أمان لها، مرهقة كثيرا يا أنا في الفقد، بمجرد الالتفاف تنقض الخيبات بمخالبها لتنهش القلب، الحب فخها الذي تنصبه لنا، حبها الذي يزينها ويحليها، ويجيز لنا ابتلاع مرارتها، رغم كل شيء فيها قاس وعنيد، نحاول أن نكسرها ونمضي.

رغم أنها تترك لنا فجوات، وفجوات برحيل الأمنيات، ولكن نحاول سد الثقوب المتناسلة فينا، نبتسم، نحلي فنجان قهوة بسعادة انتصارنا على المرار، نلاعب طفلا لنعيد تأثيث ذاك الفراغ، نمشي مسافة متهورة نحو الحب لنشعر بالأمان، نتوهم الحب لنتوازن، نعيد ترتيب الخراب لتنمو الورود فينا.

ما أغبطني حين تضمد القلب يد حانية وتربت على كتفه، تمنحه شغف البداية وتفرد لخطوه الإيحاءات. نمد أيدينا نحو الآخرين لنسعد، كل فعل نحوله إلى وجود قائم، كرمزية للبناء حتى لا ننهار نحن من الداخل.

أين خبأتنا أرحام الزمن يا أنا!

هل تذكرين؟

حين كانت نفوسنا العارية تشف ضوء الأرض !

حين كانت أقمارنا تفيض شهوة كل غيض !

حتى لا ننهار.

ووحدها يدي طويلة حتى حدود الشمس، ومغامرة لا أخشى الغرق في بحر اللهب.

ما أغبطني بذاتي وهي على مقربة مني، نتحاور معاً، ونعلق إلى صدر المكان حديثاً، قد نتوه عنه ذات عودة، وعلى أعقابنا سيمتلئ المكان بالوجوه، ويتناوبوا على فناجيننا الممهورة بالإيحاءات، سيمررون الإيماءات فيما بينهم وسيشير كل منهم بسبابته إلى غلاظة الوشاية ويستشري خاصرة غيابنا.

ترى، أين يخبئ الليل جسده حين تنتهي الأحلام؟

وكيف يسحب كل حين كوابيس قتلاه تحت أنف النهار!

هل يحمل نايه النجمي، فتنسلّ خلفه أعشاش الفجر وعيون الرعيان..

وأين نخبئ أبجديات العمر يا أنا؟

والحياة ترشي الأيام بأحلام، بفتنة الرؤى كلما حاولنا التحقق من حدة الصوت والموت والشغف!

كلما ناقشنا خلف الأبواب فرضيات الأمان والزمن، وكانت الأوقات نيام!

وكلما ناقشنا خططنا وخطط العدو، خط الحراثة ونكسة الريح في الأماني المبعثرة!

وكأن الموتى يتقلبون في نومهم.

أقفلنا خط الرجعة وخط البقاء، بكت الأحلام وسننها وفرائضها وسبحت بشبه أصابع كافرة تخربش صلاتها.

بقلم: هند بومديان

الوسوم
Top