زهور رحيحيل: الحفاظ على التراث العبري بعد رحيل اليهود مسؤوليتنا جميعا كمغاربة

منذ صغرها كانت تحب التاريخ والآثار، ارتبط اسمها بالاشتغال على التراث العبري المغربي، وقد زاوجت في دراستها بين التراث في المعهد الوطني لعلوم الآثار، والتراث والصحافة في المعهد العالي للإعلام والاتصال. هي أول مسلمة اقتحمت الجماعة اليهودية، واستطاعت أن تصير مقربة من الراحل شمعون ليفي. هي اليوم محافظة لمتحف التراث المغربي اليهودي بالدار البيضاء. في هذا الحوار، تفتح لنا الباحثة الأنثروبولوجية زهور رحيحيل أبواب المتحف، وتستقبل جريدة «بيان اليوم» للحديث عن تجربة غنية وفريدة من نوعها، اتبعتها المملكة، بتعليمات من صاحب الجلالة الملك محمد السادس، في الحفاظ على التراث المغربي اليهودي عن طريق ترميم وصيانة المعالم التاريخية اليهودية بالمغرب. كما أقر الدستور، أيضا، على أن الرافد العبري هو مكون رئيس وأساس في الهوية الثقافية المتعددة لجميع المغاربة. بالنسبة لرحيحيل، فاليهود والمسلمون يتداخلون مع بعضهم البعض في إطار ثقافة مغربية، ومن واجب المغاربة جميعا الحفاظ على هاته الذاكرة المشتركة.. كثير من تفاصيل أخرى مثيرة، تكشفها الأنثروبولوجية زهور رحيحيل في هذا الحوار حول علاقة المغاربة اليهود ببلدهم الأم ومحاولتهم الحفاظ على تراث أجدادهم.

حدثونا عن نشأتكم، وكيف زاوجتم في دراستكم بين التراث (المعهد الوطني لعلوم الآثار والتراث) والصحافة (المعهد العالي للإعلام والاتصال)؟

مع سيرج بيرديغو وجاك طوليدانو

حبي للتاريخ والإعلام والآثار رافقني منذ الصغر. لكن، في تلك الفترة لم يكن هناك توجيه، وحينما حصلت على البكالوريا عام 1987 من مدرسة عمومية مغربية، لم تكن هناك آفاق كبيرة بالنسبة لتخصصي: آداب عصرية، لكني كنت أفكر جديا في دراسة التاريخ في الجامعة. بالصدفة، قرأت ذات يوم إعلانا في الجرائد عن إحداث معهد جديد للآثار، فقررت اجتياز المباراة في دفعة 1987/1988، وبالفعل، نجحت في اجتياز مباراة الولوج لمعهد الآثار وبعد حصولي على الإجازة منه، قررت دراسة الإعلام في المعهد العالي للصحافة والاتصال بالرباط، وتخصصت في الصحافة السمعية البصرية، في بحث تخرجي، اشتغلت على برنامج وثائقي حول يهود الدار البيضاء: تقليد هيلولة في مدينة بن أحمد، كنت أول من اشتغل على هذا الموضوع الذي عرفني على الراحل شمعون ليفي، لأن الأساتذة قالوا لي بأنهم لا يعرفون الكثير حول الموضوع، فكان يجب أن أحضر لهم أهل التخصص في المناقشة، ومن هنا وقع اختياري على شمعون ليفي، وأذكر أني ذهبت لأبحث عنه في جامعة محمد الخامس بالرباط، أين كان يدرس، فاستقبلني، ووافق على طلبي. وقد تنقلت إلى بن أحمد لتصوير الوثائقي، وهو موجود حاليا في خزانة المعهد العالي للصحافة. حينما أنهيت دراستي، اشتغلت في وزارة الثقافة، بالضبط في مديرية التراث الثقافي. لكن حينما قررت الجماعة اليهودية تأسيس متحف التراث المغربي اليهودي، اتصل بي شمعون ليفي، وقال لي: «ابنتي زهور، هل تقبلين الاشتغال معنا؟» فأجبته بأنني موافقة، لكن كان عليه أن يتحدث مع وزير الثقافة، وبعد موافقة هذا الأخير، صرت محافظة لمتحف التراث المغربي اليهودي.

تهتم الأنثروبولوجيا بدراسة الآخر، وقد كان هذا هو تخصصكم في معهد الآثار. لماذا اخترتم أن يكون هذا الآخر هو المغربي اليهودي؟

سؤال مهم (تبتسم)، بالفعل، في الأنثروبولوجيا دائما هناك اهتمام بالآخر، ومحاولة دراسته لفهم ما يجري، لأنه من خلال فهم الآخر، يمكنك أن تفهم ثقافتك الخاصة وتعطيها قيمتها التي تستحق، كما أن دراسة الآخر تجعلك تقارن بين ثقافتك والثقافة الأخرى، وعليه، فإنك تعرف ثقافتك وأهميتها، ثم تقف على الأشياء الإيجابية في شخصيتك. أنا اليوم محافظة لمتحف التراث المغربي اليهودي. لكن، في أيام دراستي بحكم تكويني في الأنثروبولوجيا والتاريخ، اهتممت بدراسة الآخر، الذي كان في المجتمع المغربي، وبما أنني أنتمي لجماعة المسلمين، اخترت دراسة الآخر الموجود في مجتمعي وهو اليهودي. اخترت اليهودي، أيضا، لأنني أنتمي لجيل تأثر كثيرا بالقضية الفلسطينية، وكنا دائما نتابع هذا الصراع الفلسطيني/العربي الإسرائيلي. لكن وسط هذا الصراع، لدى كل أسرة مغربية ذاكرة يهودية حاضرة بقوة، فمثلا والدي كان يشتغل في البنك مع عدد كبير من اليهود، بالتالي كان لديه أصدقاء يهود، وأيضا أعمامي الذين كانوا يمارسون التجارة، احتكوا كثيرا باليهود، وربطوا معهم علاقات صداقة. فبدأت أتساءل، ما الفرق بين اليهود الذين يشتغل معهم والدي وبين اليهود الذين يتقاتلون مع الفلسطينيين، وقد منحني تكويني فرصة للإجابة على أسئلة من قبيل لماذا رحل اليهود، ولماذا هناك صراع، ولماذا كان والدي يشتغل مع هؤلاء اليهود. هاته هي العوامل الذاتية والشخصية التي أثرت في كباحثة أنثروبولوجية ودفعتني للتخصص في هذا الموضوع. وأذكر أنني حينما ذهبت عند شمعون ليفي أول مرة، سألني: هل أنت ابنة المدينة القديمة؟ فأجبته بأنني ابنة المدينة الجديدة (درب السلطان)، لم أفهم حينها لماذا طرح علي هذا السؤال، لكني فهمت لاحقا المغزى من سؤاله، لأن الناس في المدينة القديمة عاشوا مع اليهود واحتكوا بهم. أعتبر نفسي محظوظة، لأني كنت الإطار المسلم الوحيد الموجود داخل الجماعة اليهودية، وهو ما أعطاني مسؤولية للحفاظ على التراث العبري في إطاره المغربي. فمثلما نحافظ على التراث العربي الإسلامي والأمازيغي أو الحساني الصحراوي أو التراث الأندلسي، يجب علينا أن نحافظ على التراث العبري، لأن الدين اليهودي يعد من أول الديانات التوحيدية التي اعتنقتها القبائل الأمازيغية في المغرب وفي شمال إفريقيا، وبعد رحيل اليهود، أصبحت هاته مسؤوليتنا جميعا كمغاربة.

حدثونا عن دور الراحل شمعون ليفي في تأسيس متحف التراث المغربي اليهودي؟ ومن هي الأسماء الأخرى التي أسهمت في ولادة هذا المشروع؟

صورة بمنزل شمعون ليفي للاحتفال بالميمونة وتظهر معهما في الصورة أخته ماري ليفي

 المتحف هو مبادرة خاصة من الجماعة اليهودية التي أسسته سنة 1997. فبالإضافة إلى شمعون ليفي، الزعيم في حزب التقدم والاشتراكية، كانت هناك أسماء أخرى، أسهمت في ولادة هذا المتحف: سيرج بيرديغو، وجاك طوليدانو، وبوريس طوليدانو. وقد فكرت الجماعة اليهودية حينذاك في هذا المشروع بعدما رأت بأن هذا التراث يضيع. وأحب أن أشير هنا، إلى أن هؤلاء الناس الذين لهم وزنهم وثقلهم في الجماعة اليهودية المغربية، لم يطلب منهم شيئا، وأتمنى لو أن جميع المغاربة يأخذوهم كنموذج يحتذى به، فهم شخصيات تحترم لأنهم رفضوا الرحيل، واختاروا البقاء في البلاد، كانوا ثابتين على مواقفهم ومبادئهم في مرحلة حرجة وحساسة من تاريخ المغرب. نحن فخورون، أيضا، ببيت الذاكرة في الصويرة الذي تأسس بمجهودات من السيد أندريه أزولاي، وهناك متحف آخر أحدثته أيضا الجماعة اليهودية المغربية بمدينة طنجة، ويسمى متحف يهودا الصياغ، ويخص المغاربة اليهود في شمال المغرب. ونشتغل حاليا، بتعليمات ملكية، على افتتاح متحف جديد يخص الثقافة اليهودية في مدينة فاس مع المؤسسة الوطنية للمتاحف. وعلى جميع المغاربة أن يأخذوا مثل هاته المبادرات في مجال الثقافة، ولو أن المؤسسة الوطنية للمتاحف تقوم بعمل جبار في إحداث المتاحف وأحييها على ذلك، لكن يلزمنا متاحف أكثر.

هل المتحف يزوره أكثر المغاربة اليهود، أم هناك اهتمام أيضا من طرف المسلمين الذين لديهم رغبة في اكتشاف التراث الثقافي المغربي اليهودي، الذي يعتبر من مكونات هويتنا المغربية؟

صورة جماعية مع تلاميذ أثناء زيارتهم للمتحف

أنا أحيي كثيرا المغاربة المسلمين والمغاربة اليهود خارج المغرب، الذين يزورن المتحف أكثر من المغاربة اليهود الذين يعيشون في المغرب. وهنا أحب أن أشير إلى أن الدخول إلى بيعة (كنيس) أو كنيسة لا يعني أنك ستتجرد من دينك الإسلامي، يمكنك أن تدخل لهاته الفضاءات وأنت مسلم وتخرج منها وأنت مسلم، فحينما تكون لديك ثقة في نفسك، وتعرف جيدا ما تقوم به، لن يكون هناك مشكل ما أو زعزعة في عقيدتك لأن أساسك صلب. وأعتقد أن الجيل القديم، جيل الأجداد الذي عاش مع اليهود، كان أكثر انفتاحا، وهذا يجعلنا نطرح العديد من الأسئلة، هل مشكل الجيل الجديد في التربية؟ أم في المناهج المدرسية؟…

سبق وصرحتم أن المتحف يولي أهمية كبرى لاستقطاب التلاميذ، وبأنه يكمل المدرسة. ما هي عوامل الجذب التي يقدمها المتحف لتهتم الناشئة بزيارته؟

حينما ترغب مدرسة (ابتدائية أو إعدادية) في تنظيم زيارة لمتحفنا، أطلب من الأساتذة زيارتي بشكل خاص، لأشرح لهم أهمية التراث الثقافي المغربي اليهودي، وماذا يجب أن يشرحوا للتلاميذ.. وهم لديهم وسائلهم التي يستعملونها في الأقسام، لتمرير المعلومة كما يجب. في بعض الأحيان، أكون موجودة لمراقبة ما يجري خلال هاته الزيارة ليكون هناك نوع من التواصل. أما الطلبة الجامعيون، فأحدد معهم مواعيد خاصة لاستقبالهم لكي ألتقي بهم بشكل شخصي، وهو أمر تعلمته من شمعون ليفي رحمه الله، الذي كان يهتم كثيرا باستقبال الطلبة. فكان ينصحني دائما باستقبالهم وإعطائهم الوقت الكافي، ولا يجب أن ننسى أنه كان رجل تعليم ويعرف التقنيات البيداغوجية لتمرير الخطاب. أحب أن أشير في هذا الصدد، إلى أن المتحف عازم على إصدار بيبليوغرافيا جديدة، من أجل إبراز مميزات أخرى للتراث المغربي اليهودي عن طريق عرض مجموعة من اللقى والتحف التي لم تعرض من قبل. وهو مشروع نشتغل عليه بإدخال وسائل تقنية حديثة ووسائل بيداغوجية خاصة بأطفال المدارس الإبتدائية والإعدادية لكيفية التعرف على المكون العبري في ثقافتنا المغربية.

ما الدور الذي يلعبه متحف التراث المغربي اليهودي في حفظ وتثمين الذاكرة الجميعة للمغاربة (يهودا ومسلمين)؟

هو دور مهم جدا، يجب أن يعرف الجميع أن متحف التراث المغربي اليهودي هو الوحيد في الدار البيضاء، لأنها مدينة تفتقد مع الأسف للمتاحف، بل، هو أيضا، أول متحف خاص بالإرث العبري في العالم العربي والإسلامي. نحن نقوم هنا، أيضا، بتنظيم مجموعة من الأنشطة الثقافية عن طريق تنظيم معارض إثنوغرافية وتاريخية، ومحاضرات حول تاريخ المغاربة اليهود، وتوقيع روايات وكتب تهتم بالتراث الثقافي ليهود المغرب، كما نعرض أفلاما وثائقية تليها مناقشات.. والمتحف، يرجع له الفضل، في إعادة إحياء مجموعة من التقاليد والعادات المشتركة بين المغاربة المسلمين واليهود. فمثلا، نقوم بمبادرة إحياء حفل الميمونة، وهو تقليد بدأه شمعون ليفي بحضور يهود ومسلمي الدار البيضاء. وقد توقفت هاته الأنشطة في الوقت الحالي لأننا بصدد تأهيل المتحف ثم سنستأنف أنشطتنا من جديد. ويمكن القول إن هذا المتحف يرجع له الفضل الكبير في إحياء الذاكرة اليهودية، وفي نشر ثقافة الاهتمام من خلال مواكبة إعلامية لجميع أنشطتنا الثقافية التي أعادت إحياء هاته الذاكرة المشتركة. هناك أيضا الإرادة الملكية لصاحب الجلالة للحفاظ على التراث اليهودي، وهي أمور أطرت الاهتمام باليهودية المغربية، حتى أصبح المغرب البلد العربي الوحيد الذي يهتم بذاكرته وهويته العبرية. كما يشجع مواطنيه (يهودا ومسلمين) للاشتغال على هاته الذاكرة المشتركة.

كيف تحصلون على المجموعات المتحفية؟

في الأول كان الأمر صعبا، لأن كل التحف اليهودية موجودة في أكبر متاحف العالم، لكن، حينما بدأنا عملية جمع التحف مع شمعون ليفي، قمنا باتصالات مع مجموعة من الأسر اليهودية التي تعيش في المغرب، وأيضا، كانت هناك مبادرة من بعض الأسر المسلمة التي أعطتنا بعض التحف، ومجموعة من الأشخاص من هواة جمع التحف، وأحب أن أشير في هذا الصدد، إلى الراحل عمر أقلعي، القيادي بحزب التقدم والاشتراكية، الذي أهدانا هو وزوجته مجموعة من الحلي التي ترجع لفترة الخمسينات، كانت من صناعة الصاغة المغاربة اليهود.. وبرخصة من الجماعة اليهودية المغربية، استطعنا فتح مجموعة من البيع المغلقة، وأخذنا بعض التحف التي كانت فيها. وهناك قسم آخر اشتريناه من البازارات من أجل إغناء مجموعاتنا المتحفية. أهدانا، أيضا، مجموعة من اليهود الذين يعيشون خارج المغرب بعض التحف، لكن منهم من يفضل إعطاء التحف لأولاده، الذين بدورهم يعطونها لمتاحف أخرى. أفضل، أن تعطى هاته التحف للمتحف المغربي، فهو أولى بها. ومن هذا المنبر، أوجه ندائي لليهود الذين يعيشون في المغرب أو في جميع دول العالم، ليهدوننا هاته التحف كمساهمة منهم للحفاظ على التراث المغربي اليهودي داخل المغرب، لهذا يجب وضع الثقة في المتاحف المغربية، لأنها الضامنة لصيانة مغربية التحفة التي نعد لها بيبيلوغرافيا ودراسة تعريفية في ورقة تقنية. وكل هذا يدخل في إطار تثمينها.

هل المتحف يقوم بتبادل مجموعاته المتحفية في إطار معارض مع مؤسسة بيت الذاكرة في الصويرة مثلا، أو مع متاحف أخرى؟

نعم، حدث أن قمنا بتبادل مجموعاتنا المتحفية لكن مع متاحف داخل المغرب فقط. خصوصا وأن التحف المغربية اليهودية موجودة في الخارج، والتحف التي في متحفنا استطعنا تجميعها بمشقة الأنفس، إذن لا فائدة من إخراج هذا التراث، لأننا نريد الحفاظ عليه داخل المغرب. لكن المتحف يستقبل التحف على شكل هبات. وبالإضافة لهذا السبب، هناك أيضا صعوبة مادية، لأن إخراج تحفة، ليس بهاته السهولة، بل يجب دفع مبالغ باهظة من أجل التأمين.

قدمتم، أيضا، برنامج «ناس الملاح» في الإذاعة، حدثونا عن هاته التجربة وكيف كانت مكملة للمتحف في التعريف بثقافة المغاربة اليهود؟

رفقة سوزان هاروش وفرانسواز أطلان

أحب أن أشكر الناس الذين وضعوا الثقة بي، أي إذاعة ميد راديو، التي كانت مهتمة بطرح فكرة التعددية الثقافية، وأنا وجدت الصيغة التي قدمت بها البرنامج. المبادرة كانت جريئة وشجاعة من طرف إذاعة مغربية خصصت حيزا من برمجتها للثقافة المغربية اليهودية منذ سنة 2018. التجربة مهمة، لكن واجهتني صعوبات في إيجاد الضيوف وإقناعهم بالمجيء وأحب أن أشكرهم من هذا المنبر، لأنهم وضعوا ثقتهم بي، لأنهم في النهاية حينما رأوا النتيجة أعجبوا بها، هذا لأن المغاربة جميعهم كانوا متشوقين لهذا البرنامج الذي اكتشفوا من خلاله التراث الموسيقى للمغاربة اليهود، ولأول مرة أصبحنا نسمع أغاني عبرية في الحافلات العمومية وسيارات الأجرة، كما عرف البرنامج بالعادات المشتركة بين المسلمين واليهود، وأسماء الأعياد والطقوس اليهودية، وتعرف المستمع على أسماء كبيرة في الغناء المغربي اليهودي مثل الحاخام حاييم لوك وسامي المغربي وزهرة الفاسية والشيخ مويجو وسليم لهلالي (ولو أنه جزائري الأصل لكنه عاش فترة في المغرب). أحيي، من هذا المنبر، مبادرة بعض الأصوات الشابة التي تحاول إعادة إحياء التراث الغنائي اليهودي، وهو الجيل الثالث من المغاربة اليهود الذين يعتزون بثقافتهم المغربية ويحاولون رد الاعتبار لها. وكخلاصة أعتبر أن هذا البرنامج هو مكمل للمتحف، فالمتحف يزوره الناس الذين يرغبون في الاكتشاف، في حين، البرنامج الإذاعي يدخل جميع البيوت، أي أنه هو من يذهب إليهم.

الراحل شمعون ليفي كان أول من طالب بضرورة تدريس المكون العبري المغربي في المقررات الدراسية، حتى أنه أعد مشروعا مع وزارة التربية الوطنية في أواخر التسعينيات. لماذا تأخر هذا المشروع ليرى النور؟

بالنسبة لي، المشروع لم يتأخر، لأن كل شيء يأخذ وقته ويأتي في وقته، وأنا جد سعيدة أننا نرى اليوم هاته الحصيلة، والجميل في الأمر أننا أحدثناه في النهاية، وأصبحنا نرى فعلا المكون العبري يدرس في المناهج المدرسية.

حدثونا عن تفاصيل عملية ترميم البيعات التي انطلقت سنة 1997 مع مؤسسة التراث الثقافي اليهودي المغربي؟ بالإضافة إلى ترميم المقابر اليهودية؟

مسألة صيانة وترميم المعالم التاريخية اليهودية غير موجودة في العالم، وهو أمر يحسب للمغرب، وقد تحقق بإرشادات من صاحب الجلالة، الملك محمد السادس، الذي أعطى أوامره من أجل ترميم حوالي أكثر من 180 مقبرة يهودية في المغرب. هذا الأمر حقا فريد في العالم! هناك أيضا مسألة الدستور، وهو دستور فريد من نوعه في العالم، فلأول مرة يتم النص على أن الرافد العبري هو مكون رئيس وأساس في الهوية الثقافية المتعددة لجميع المغاربة. الناس يجب أن يعرفوا أن الثقافة المغربية لها خصوصيتها، نحن لا نشبه جميع البلدان فيما يتعلق بالذاكرة اليهودية لأنها ذاكرة مشتركة بين اليهود والمسلمين والثقافة ليست لها حدود، بل فيها تداخل، نحن كيهود ومسلمين نتداخل مع بعضنا البعض في إطار ثقافة مغربية. وبعد رحيل اليهود لا يجب التفريط في هذا الإرث، وهنا تظهر أهمية الإرادة الملكية، التي سهرت على صيانة وتثمين تراث مغربي يهودي كان لأكبر جماعة يهودية في العالم العربي، بل، وفي حوض المتوسط.

حينما كنت في الصويرة، في إطار تغطيتي لمهرجان الأندلسيات الأطلسية، قابلت مغاربة يهود من الجيل الثالث، لم يزدادوا في المغرب لكنهم كانوا يتكلمون الدارجة.. سؤالي لكم، كيف تفسرون حفاظ المغاربة اليهود على هويتهم المغربية أينما كانوا، وهل تعتقدون أن الجيل الرابع من المغاربة اليهود (أي الأطفال) سيستمرون في الحفاظ على هويتهم المغربية خصوصا في ظل ابتعادهم عن وطنهم الأم؟

مع ألبير واكنين وماكسيم كاروتشي

 هاته الخصوصية هي قوية عند يهود المغرب أينما كانوا، صحيح أن الجيل الثالث والرابع لم يزدادوا بالمغرب، بل في إسرائيل، لكن حينما أقابلهم هنا في المغرب، أجدهم يتحدثون الدارجة بطلاقة، هو أمر يستفزني دائما وأحاول فهمه، لكن الخلاصة أن هؤلاء الناس يحسون بمغربيتهم مثل المغربي الذي يعيش في المغرب أو خارجه، وقوة انتمائهم تنم عن عراقة وقدم اليهودية المغربية، لأن جذورهم في هاته البلاد تمتد من 2500 إلى حوالي 3000 سنة. المغاربة اليهود أينما ذهبوا، سواء في فرنسا أو كندا أو أمريكا أو إسرائيل، ظلوا يعيشون في بيوتهم على الطريقة المغربية: الصالون المغربي، الصينية، «البراد المغربي»، والاحتفال بالأعياد اليهودية الدينية على الطريقة المغربية، وكذلك أطباقهم في المأكولات وحرصهم على ارتداء الأزياء المغربية التقليدية. والأهم أنهم ظلوا يتكلمون الدارجة مع أبنائهم. حتى أنه هناك بعض النماذج التي كانت فيها الجدة هي من تتكلم مع أحفادها بالدارجة. وأظن أن الجيل الرابع سيسير على نفس المنوال. أحب أن أشير في هذا الصدد، إلى أن الكثير من الباحثين حينما كانوا يزورون المغرب للاشتغال على اليهودية المغربية في السبعينات والثمانينات والتسعينات، كانوا يعتقدون بل ويقولون إن هاته هي نهاية الجماعة اليهودية المغربية، لأن عددهم أصبح يقل بشكل تدريجي، لكن الواقع أن اليهود ما زالوا مرتبطين بالمغرب، وحتى الجماعة التي لم ترحل أصبحت نشيطة أكثر، وأحدثت مجموعة من المؤسسات لحماية الثقافة والهوية المغربية اليهودية. ويمكن تفسير ذلك أيضا، أن المغاربة اليهود حينما ذهبوا لإسرائيل تم تجميعهم في مدن مثل أشدود وديمونا، ولم يكونوا يتحدثون العبرية، هذا التجمع ساعدهم على الاحتماء بثقافتهم المغربية. كثير من هؤلاء الناس لم يختاروا الرحيل، فمثلا تجد يهوديا كان يعيش في المغرب في رياض في مكناس أو فاس، ووضعيته المادية جيدة، فجأة وجد نفسه يعيش في خيمة بالصحراء، ومن المغاربة اليهود من قالوا لي بأن أجدادهم ماتوا بالحسرة (الغبينة) لأنهم تركوا أملاكهم وأصحابهم ونمط عيشهم، حتى أن منهم من رفض أن يتكلم العبرية حتى مات، وكانوا يستعملونها في الصلوات فقط.

هل يمكن القول اليوم، إن هناك تمازجا وتزاوجا بين ثقافة المغاربة اليهود والمسلمين، أم أن هناك خصوصية لكل ثقافة، سواء في المطبخ أو اللباس أو الموسيقى أو العمارة..

 نعم، وهذا ما حاولت التطرق له في هذا الحوار. وكخلاصة فالمغاربة كلهم يتشابهون في ثقافتهم المغربية، فهذه الأخيرة كلما كانت قوية وصلبة وأصيلة ومتجذرة كلما ألحمت بين فئات المجتمع سواء كانوا يهودا أو مسلمين.. ما هو موجود عند المسلم هو عند اليهودي أيضا، لأن الأصل واحد، وكل فرد يصيغه حسب دينه. وحتى في الممارسة الدينية كلنا نعبد الله الواحد الأحد. في اللباس التقليدي لدينا نفس اللباس: القفطان، البدعية، الجلابة والبلغة. لأن اللباس هو ممارسة ثقافية وكل ما هو ممارسة ثقافية نشترك فيها جميعا. بخصوص الأكل، في كثير من الأحيان، أرفض أن يقال أن هناك مطبخا يهوديا، لأنه بالنسبة لي هناك مطبخ مغربي واحد يجمع اليهود والمسلمين لكن بخصوصيات، لأن المطبخ المغربي أصلا فيه خصوصيات الجهة، مثلا ساكنة طنجة لا يطبخون مثل ساكنة مراكش أو ساكنة وجدة أو ساكنة فاس.. لكن أحب أن أشير في هذا الصدد، أنه في الحلويات مثلا، ربما اليهود حافظوا على بعض النوع من الحلويات التي لها جذور أندلسية قديمة مثل «الماسابان»، وهي حلوى ما زالت تصنع في إسبانيا، وبالخصوص في المدن الأندلسية العتيقة. وما زال أيضا، مسلمو أسفي يحضرون هاته الحلوى. بالنسبة للعمارة، ليست هناك هندسة معمارية يهودية، وأنا ضد هذا الطرح، يجب على الطلبة والباحثين أن ينتبهوا لهذا الأمر، لأنه يخلق نوعا من التجزئة والتفتيت، وهي كلها مفاهيم مستوردة لغرض ما من جامعات أجنبية. أما بالنسبة للموسيقى، فيمكن القول إنه هناك موسيقى مغربية بالدارجة لكن بأصوات يهودية وفي بعض الأحيان يمكن أن نجد موسيقى بالعبرية، لكن في مجال ديني ضيق مثل البيوتيم.

أخيرا، هل ترون أنه في الوقت الحالي، حدثت خلخلة في البنيات المعرفية مع الجيل الجديد الذي أصبح يفهم أو يتقبل أكثر ثقافة الآخر، بل ويعرف أن أجدادنا المسلمين واليهود عاشوا مع بعض؟

سؤال فلسفي (تبتسم) لا يمكن أن أعطيك إجابة حاسمة، ربما يجب أن تكون هناك دراسة ميدانية على شكل استطلاع رأي، يعطي فيه التلاميذ في المدارس العمومية والخاصة والشباب الطلبة والمجتمع المدني آراءهم لنفهم مدى تقبلهم للآخر. لكن بشكل عام، يمكن أن أسجل ملاحظة مهمة من خلال المجهودات التي تقوم بها وسائل الإعلام، والمؤسسات العمومية والخاصة فيما يتعلق بحفظ الإرث العبري عن طريق تنظيم مجموعة من المهرجانات واللقاءات والتجمعات والأيام الدراسية، وإغناء المناهج المدرسية.. يظهر أن هناك اهتماما من طرف المغاربة وخصوصا فئة الشباب، والطلبة الجامعيين باكتشاف هذا التراث. ولنبقى إيجابيين، فالمغاربة لديهم الفضول وروح الانفتاح وقبول الآخر.. فما بالك إذا كان هذا الآخر هو اليهودي الذي من صلب مجتمعنا المغربي. هذا الاهتمام يعكس نوعا من التصالح مع الذات إن صح التعبير، لأنه لمدة سنوات كان هناك نوع من النسيان أو التناسي أو الإهمال لذاكرة يهودية، لكن منذ تسعينات القرن الماضي أصبحت هناك مصالحة مع الذات كما ينص على ذلك الدستور، فالمكون العبري هو رافد من الروافد المهمة التي أغنت الهوية الثقافية المتعددة للمغاربة جميعا، عكس بلدان أخرى التي لديها الرفض الكامل لهذا الإرث، وهو ما جعل المغرب نموذجا تحاول أن تحتذى به بعض الدول مثل مصر وتونس، وأيضا العراق فيما يتعلق بتعامل المملكة مع هويتها العبرية، وهي تجربة محترمة في أوروبا وأمريكا.

حاورتها: سارة صبري – تصوير: طه ياسين شامي

Top