اعتبر علي لطفي، رئيس الشبكة المغربية للدفاع عن الحق في الصحة، أنه من الصعب الحديث عن حصيلة إيجابية خلال السنة التي ودعناها، وذلك بسبب الجائحة التي عانت منها جميع دول العالم بدون استثناء وعلى جميع المستويات.
وأوضح لطفي، في اتصال هاتفي أجرته معه بيان اليوم، الخميس الماضي، أن الأمر يبرز أكثر وضوحا ببلادنا حيث كشفت هذه الجائحة عن عمق الاختلالات التي نعيشها أساسا على المستويين الاقتصادي والاجتماعي، وعرت عن معاناة فئات واسعة من مجتمعنا من الفقر والهشاشة والعطالة، وعمق الفوارق الاجتماعية، والتي ظهرت جليا من خلال الحاجة إلى دعم الدولة خلال هاته الأزمة لأزيد من 4 ملايين و300 أسرة مغربية تعمل في القطاع غير المهيكل، المتسم بهشاشته وضعف مداخيله، حسب ما صرح به في حينه وزير الاقتصاد والمالية. أضف إلى ذلك ما جاءت به المندوبية السامية للتخطيط مؤخرا من معطيات حول خريطة الفقر ببلادنا حيث أكدت المندوبية، في تقرير مشترك مع الأمم المتحدة والبنك الدولي، أن تداعيات تفشي فيروس كورونا، سترفع نسبة الفقر في المغرب من 17.1% في 2019 إلى 19.87% خلال 2020، وقبل ذلك كشفت المندوبية في شهر ماي الماضي أن ثلث الأسر المغربية لا تملك مصدرا للدخل بسبب توقف أنشطتها أثناء الحجر الصحي، وأن تداعيات الأزمة الصحية الناتجة عن تفشي «كوفيد-19» ستدفع مليونا و58 ألف مغربي نحو الفقر.
وبالنسبة إلى لطفي، فإن الجائحة شكلت بالفعل سببا وجيها وموضوعيا للحكومة من أجل إعادة النظر في خطابها المعلن حول الفقر والفوارق الاجتماعية، والذي كان في وقت سابق يرتكز أكثر على منطق «العام زين»، بعد أن كشفت الجائحة بشكل أكبر عن واقع الهشاشة والعوز لدى فئات اجتماعية واسعة.
في خضم هذه الحصيلة السلبية جدا على عدة مستويات، سجل المتحدث بالمقابل بإيجابية كبيرة الدور المهم والأساسي الذي لعبته التوجيهات السامية لجلالة الملك إلى مختلف المسؤولين عن تدبير الشأن العام، ومنذ بدء الجائحة، من أجل تقديم الدعم للفئات التي تعاني من الفقر ومن مضاعفات الجائحة، خاصة في فترة الحجر، وكذلك للمقاولات الصغرى والمتوسطة الت تأثرت بفعل تداعيات حالة الطوارئ ببلادنا. وقد مكنت التدابير المتخذة في هذا الصدد بالفعل من التخفيف نسبيا من حدة المعاناة المترتبة عن تلك الأوضاع والمستمرة إلى غاية يومنا هذا.
ومن جانب آخر، سجل لطفي أيضا الحدث الإيجابي الكبير الذي عرفته بلادنا على مستوى تطورات قضيتنا الوطنية، بدءا من الدور الهام الطي لعبه جيشنا المغربي في إعادة الأمن والاستقرار في منطقة الكركرات وعودة عمليات النقل وحركة البضائع إلى سيرها الطبيعي في هذا المعبر الحدودي، ثم تتويج هذا الإنجاز بالاعتراف الهام للولايات المتحدة الأمريكية، بشكل رسمي، بمغربية الصحراء. وبطبيعة الحال يحق لنا، كما يقول المتحدث، بعد هذه الإنجازات، أن نفخر بدبلوماسية ملكية متقدمة وناجحة على مستوى علاقاتنا الدولية. لكنه عبر في نفس الوقت عن خيبة أمله من السياسات الحكومية الداخلية التي أصبح عليها الأن، وأكثر من أي وقت مضى، العمل على مواكبة هذا التقدم من خلال وضع حد للإخفاقات والإشكالات المسجلة على المستويات الاقتصادية والاجتماعية، خاصة في القطاعات الحيوية، كقطاع التعليم الذي شهد خلال هذه الأزمة تخبطا وتذبذبا كبيرين في التدبير وفي اتخاذ القرارات، وكذا قطاع الصحة الذي كان الجميع متفقا منذ سنوات على الاختلالات التي يعاني منها، وضعف الخدمات التي يقدمها للمواطنين، في ظل قلة التجهيزات، وضعف الحكامة وسوء التدبير في المؤسسات الصحية بسبب غياب اطر حقيقية ملتزمة ومتمرسة. وقد جاءت الجائحة فقط لتعمق من هذه الأزمة وتكشف أكثر على جوانبها العديدة.
فالأمل معقود في سنة 2021، يضيف علي لطفي، من أجل إعادة النظر في السياسات الحكومية وكذا في برامج الأحزاب التي ستشكل الحكومات المقبلة، بكيفية تستجيب للحاجيات الكبيرة والملحة للإصلاح وللحكامة الجيدة والتي تعبر عنها مختلف القطاعات الحيوية ببلادنا.
وعلى مستوى آخر، يقول الدكتور لطفي، وإن كان من إيجابيات يمكن تسجيلها في السنة التي نودعها، فهي تلك المتعلقة بالبلاء الحسن الذي أبلته مختلف فئات المواطنين في التضامن من أجل مواجهة تداعيات الجائحة، وعلى رأس هاته الفئات، نساء ورجال الصحة الذين أبانوا عن حس مهني ووطني كبير وتفان في الأداء بشجاعة ونكران ذات كذلك، بحيث ظلوا مرابطين في المستشفيات والمراكز الصحية بعيدا عن أسرهم، وتخلوا عن عطلهم وضحوا بسبل راحتهم في سبيل الحفاظ على حياة المرضى. وإن كنا قد تجاوزنا اليوم عتبة الألف وفاة بسبب الوباء، كما يقول، فإن مؤشر الفتك والإماتة عندنا ما يزال غير مخيف بفضل الجهود المبذولة وخاصة جهود جنود الميدان من نساء ورجال الصحة الذين يتوجب علينا أن نوجه لهم تحية تقدير بهاته المناسبة.
في نفس السياق، سطر المتحدث على عدد من الأولويات التي يفترض التركيز عليها خلال السنة المقبلة من أجل تصحيح الاختلالات الموجودة في قطاعنا الصحي. وعلى رأس هاته الأولويات، ضرورة الإسراع بتنفيذ التوجيهات الملكية السامية المتعلقة بتعميم التغطية الصحية الشاملة لجميع المغاربة، والقطع مع برنامج راميد الذي جعل عجلة التطور في هذا المشروع تسير بسرعتين وتميز بين المغاربة. وذكر لطفي بأن جلالة الملك كان واضحا عندما وضع للحكومة أفقا لتحقيق هذا المطمح في سنة 2023 كأجل أقصى ليتمتع جميع المغاربة بحقهم في التأمين الصحي الشامل.
والنقطة الثانية ترتبط بالدعوة الصريحة التي وجهها أيضا جلالة الملك منذ سنوات من أجل المراجعة الشاملة للمنظومة الصحية وإعادة النظر في السياسة الصحية، بما يحقق في نفس الوقت التوازن والتكامل المطلوب بين الأقسام الثلاثة للقطاع الصحي، العمومي والخاص والصيدلي. حيث عبر جلالة الملك عن هذه التوجيهات سواء في خطاباته، أو بشكل مباشر للمسؤولين الحكوميين المعنيين في مناسبات عدة. وبعلاقة مع السياسة القطاعية دائما، أكد لطفي على ضرورة الإسراع بتفعيل الجهوية لتقريب الخدمات الصحية من المواطنين.
ولم يفت عضو المكتب التنفيذي للمنظمة الديمقراطية للصحة أن يؤكد كذلك على ضرورة التفات المسؤولين أكثر إلى أوضاع ومطالب الشغيلة الصحية ومنحها الاهتمام المستحق، خاصة في ظل الأدوار الطلائعية التي لعبتها ومازالت في سياق مواجهة هاته الجائحة. ودعا إلى مبادرة تحفيزية من قبل الحكومة وعلى رأسها رئيس الحكومة ووزير المالية من أجل رد الاعتبار لهاته الفئة، والتجاوب مع الملفات المطلبية للأطباء والممرضين والأطر الإدارية والمهندسين التابعين للقطاع، في إطار إصلاح حقيقي وناجع للمنظومة الصحية يأخذ بعين الاعتبار الدور الأساسي للعنصر البشري.
وأضاف أن أي مبادرة تحفيزية للشغيلة الصحية من شأنها تشجيها على المزيد من العطاء خاصة أنه يعول عليها أيضا لإنجاح حملة التلقيح ضد الوباء. وإذا كان جلالة الملك، كما يقول لطفي، قد قام بخطوة هامة من خلال إقرار مجانية اللقاح وجعله في متناول جميع الفئات، فإن الجميع مطالب اليوم بالعمل، كل من موقعه، على المزيد من التعبئة لإنجاح هذه العملية والابتعاد عن مروجي منطق العدمية ونظرية المؤامرة الذين يحاولون التأثير على الرأي العام عبر وسائل التواصل الاجتماعي.
ثروة وطنية حقيقية وأولوية في مخططات الاستثمار
من جهته، استعرض الدكتور الطيب حمضي، الطبيب والباحث في السياسات الطبية، ورئيس النقابة الوطنية لأطباء القطاع العام، في اتصال هاتفي أجرته معه بيان اليوم، الخميس الماضي، عددا من الدروس المستخلصة من سنة 2020، «سنة الجائحة» حيث بينت هاته الأخيرة أهمية ومركزية المنظومة الصحية في المغرب وفي العالم، ليس فقط كقطاع اجتماعي بل أيضا كقطاع اقتصادي منتج بشكل أساسي. وأكد حمضي أن التجربة أظهرت أن عدم الاهتمام بالصحة يعني بشكل مباشر انهيار جميع القطاعات الأخرى بما فيها تلك التي تعتبر أساسية وحيوية مثل الاقتصاد والتعليم. ولذلك أصبح من الواضح أن قطاع الصحة هو بالفعل عبارة عن ثروة وطنية وقطاع حيوي على رأس القطاعات ذات الأولوية. إنها الحقيقة، يقول حمضي، التي أضحت واضحة للعالم ولأصحاب القرار في زمن كورونا، حقيقة ضرورة الاهتمام بأغلى ما يملكه الإنسان كثروة نعتمد عليها جميعا لجلب باقي الثروات، وهي صحة المواطنين.
في نفس السياق، يضيف المتحدث، أظهرت الجائحة هشاشة المنظومة الصحية ببلادنا، والتي برزت خاصة من خلال ضعف عدد الأسرة في المستشفيات، وضعف عدد الأطباء، والذين لا يزيد عددهم عن 28 ألف طبيب في المغرب، في الوقت الذي تؤكد فيه منظمة الصحة العالمية على ضرورة توفر حد أدنى لا يقل عن 60 ألف طبيب بالنسبة لعدد السكان المغاربة حاليا. بما يعني أن لدينا خصاصا لا يقل عن 32 ألف طبيب! والخصاص المسجل، كما يوضح المتحدث، يعني القطاع الصحي بجميع أقسامه الخاص والعمومي والصيدلي، في ظل النزيف الكبير للأطباء المغاربة ممن يختارون الهجرة نحو الخارج، بحيث لدينا اليوم أزيد من 14 ألف طبيب مغربي يمارسون المهنة خارج المغرب، الشيء الذي يعني أن مهنة الطب، سواء في القطاع العمومي أو الخاص، «لم تعد مغرية بصفة نهائية»، لذلك وجبت إعادة التفكير في هذا المشكل الكبير.
على مستوى التجهيزات والبنية التحتية، يعتبر حمضي أنه لو لم تكن هناك الأوامر الملكية السامية التي وجهت في بداية الجائحة إلى ضرورة تخصيص الموارد الأولى لصندوق التضامن لتأهيل قطاع الصحة لمواجهة الوباء، لكانت المنظومة الصحية ببلادنا عرفت انهيارا كارثيا منذ الأسابيع الأولى للجائحة. فقد بينت هذه الجائحة ضعف البنية الصحية وضعف ميزانية وزارة الصحة والأزمة العميقة لقطاع الصحة ببلادنا بصفة عامة، بل أكثر من هذا بينت، كما يقول د. حمضي، حقيقة النظرة الخاطئة التي يمتلكها بعض المسؤولين عن القطاع والذين يعتبرون أنه من «غير المجدي» الاستثمار في قطاع الصحة بدعوى أنه قطاع غير منتج، كما كانوا يعتقدون. لكن الحقيقة أن قطاع الصحة عندما تعطى له الإمكانيات والاهتمام الضروريين فإنه يمكن أن يدر ثروات هائلة لكونه قطاع منتج بشكل كبير، شأنه في ذلك شأن قطاع التعليم، بحيث يمكن لهذين القطاعين أن يحققا أرباحا مهمة ونموا وتقدما حقيقيين لبلادنا.
ولفت حمضي أيضا إلى أن السنة التي نودعها مع ما صاحبها من صعوبات، سلطت الضوء أيضا على عدد من الأخطار والتحديات الأخرى التي تهدد المنظومة الصحية ببلادنا، خاصة أن هاته الأخيرة تواجه عددا من التطورات على رأسها التحدي الديمغرافي فيما يخص ارتفاع عدد السكان وتقدم سن الساكنة في نفس الوقت، فإذا كان عدد السكان الذين يبلغ اليوم سنهم 60 سنة فما فوق هو بين 9 إلى 10 في المائة، ففي أقل من 30 سنة المقبلة سيصبح عددهم ثلاث مرات أكثر، أي 27 إلى 30 في المائة. وهذا الأمر يطرح تحديا حقيقيا، لأن هاته الفئة لديها حاجيات صحية كبيرة سواء على مستوى الموارد البشرية أو على مستوى التخصصات والتجهيزات، مما يدفع إلى القول بأن الجائحة بينت أهمية التخطيط من أجل الاستعداد أكثر للعناية بهاته الفئة في السنوات المقبلة.
التحدي الثاني، كما يوضح المتحدث، هو المرتبط بانتشار الأمراض المزمنة، فوباء كوفيد 19 يفتك أكثر بالأشخاص المسنين وكذلك بالأشخاص المصابين بالأمراض المزمنة. وللأسف فإن هاته الفئة الأخيرة مستمرة في الارتفاع في بلادنا مخلفة المزيد من الضحايا بما أن أربعة أشخاص من الأشخاص الذين يتوفون كل يوم في المغرب حاليا يفارقون الحياة ليس بسبب الأمراض السارية (المعدية)، كما كان سابقا، بل بسبب الأمراض المزمنة التي أصبحت أكثر انتشارا. وهذه الأمراض تتطلب عناية وتكاليف كبيرة، يتضح ذلك من خلال حقيقة مقلقة اليوم هي أن 3 في المائة من الأشخاص المؤمنين في المغرب يستهلكون نسبة أكثر من 50 في المائة من المصاريف الصحية، وذلك بسبب إصابتهم بأمراض مزمنة. فالجائحة إذن أظهرت، كما يستخلص المتحدث، كيف يجب على المنظومة الصحة ألا تبقى مرتكزة فقط على سبل توفير البنية الصحية اللازمة لاستقبال والعناية بالأشخاص المسنين بعد أن يصلوا إلى مرحلة المعاناة من أمراض الشيخوخة والأمراض المزمنة، والأوضاع الصحية الخطيرة التي تتطلب إمكانيات علاج مهمة وتعطي في نفس الوقت نتائج ضعيفة، بل يجب الاهتمام أساسا بالتخصصات التي تعنى بالعنصر البشري منذ بداية حياته ومواجهته للمشاكل الصحية، وعلى رأسها الطب العام، وطب العائلة وطب القرب، فضلا عن الطب الوقائي والتربية الصحية المبكرة، بحيث أن كل ذلك يمكن بالفعل من العناية أفضل بصحة المواطن، وتجنب الأمراض المزمنة والمضاعفات الخطيرة، بتكاليف أقل ونتائج أفضل.
اليوم، وأكثر من أي وقت مضى، يقول المتحدث، يجب إعادة النظر في المنظومة الصحية في المغرب بصفة شاملة وناجعة، لتصبح مبنية أكثر على تخصصات القرب والتوعية الصحية. فالحرب ضد كورونا اليوم لا تتم فقط وأساسا في أقسام الإنعاش التي لا تتمكن من استيعاب سوى أعداد قليلة من المصابين من أجل إنقاذ ما يمكن إنقاذه، بل العمل الحقيقي الذي يحقق النتائج المرجوة هو الذي يمكن من عدم إصابة المواطنين بالمرض وحتى إن أصيبوا فلا يكون لذلك مضاعفات خطيرة على صحتهم وحياتهم، وهذا يتأتى فقط عن طريق الوعي الصحي والوقاية والتكفل المبكر، وبصيغة أخرى عن طريق طب القرب وطب العائلة.
سميرة الشناوي
> تصوير: عقيل مكاو