سياسيون واقتصاديون يستحضرون شخصية عزيز بلال الفذة والحاجة إليه في مغرب يتحول بخطى سريعة

تمضي اليوم أربعة عقود على رحيل عزيز بلال، معلمة المغرب الاقتصادية التي لم يجد التاريخ بعد بنظير لها. كل هذه السنوات تمضي والحاجة لازالت ماسة لعزيز بلال. فالمغرب وشعوب العالم الثالث التي عاشت وهم الازدهار ما بعد التحرر، وجدت نفسها، بعد مرور عشرات السنين من الاستقلال السياسي، في حيرة وارتباك أمام تيار التبعيات الاقتصادية والتكنولوجية والمالية الجارف، لازالت تعاني الاستغلال ذاته رغم تلونه بتلون مخارج الأمبريالية الجديدة التي تبحث باستمرار عن مخارج لأزمات نظام رأسمالي أنهكته صعقات المضاربات العقارية والمالية التي أنتجت أزمات حادة باتت تداعياتها تطول أكثر من السابق.
الحاجة ماسة اليوم إلى شخصية عملاقة كشخصية عزيز بلال التي أنجبها حزب التقدم والاشتراكية والمغرب، وذاع صيتها عبر العالم، وضاهى بها المغرب هامات الغرب والشرق..
كل المناضلات والمناضلين، سواء داخل حزب التقدم والاشتراكية، أو في الهيئات والمنظمات الأخرى، يقدرون بلال حق تقديره، ويستحضرون دروس الرجل حول سؤال الاقتصاد كعلم، والسياسة كفن، والثقافة كهوية ونمط حياة. يستحضرون هذه الشخصية الفذة والمغرب يتحول اليوم بخطى سريعة، ويسعى لتحقيق مشروعه مجتمعي ولاستكمال مسلسله الديمقراطي، ومباشرة أوراشه الكبرى. ولن يتأتى له ذلك بنجاح دون تقليب صفحات تاريخه التي تعج برجالات قدموا الشيء الكثير لبلدهم، وضمنهم، بل على رأسهم عزيز بلال المفكر الذي كان يقول دوما لرفاقه: “إنني أتحدث عن مصير بلدي وشعبي، لي كفاءتي، أستفيد من تجارب الآخرين، وأحاور”.
فيما يلي شهادات لشخصيات كبيرة جايلته.

عبد الواحد سهيل: عزيز بلال لازال حيا بيننا

عزيز بلال كان شخصية مرموقة فرضت نفسها على الساحة الفكرية كأستاذ في الاقتصاد، وكمناضل ومفكر، وكقائد حزبي، كان إنسانا متشبعا بالفكر التقدمي، عاشق للحياة كفنان وكإنسان، كان يجمع كل هذه المميزات، وكانت له سيمة أساسية، وهي أنه لا يبحث عن السهولة، لا في بحوثه ولا في مقالاته.
عزيز بلال كان معروفا ومشهورا بتواضعه، كان خرافي في التواضع، بالإضافة إلى خاصية الإنصات والاستماع التي كان يتقنها، وبذلك كان العلماء والمفكرين والمناضلين والمواطنين العاديين يحترمونه.
كانت لي سعادة كبيرة، وحظ كبير حيث كنت من تلاميذه، وأيضا صديقا له، عاشرته لمدة 20 سنة، وكانت لدينا علاقات رفاقية، وكان الرجل دائما في حالة ترقب وفي حالة بحث عن أفكار جديدة، وتعميق التفكير والبحث. وقد لعب دورا كبيرا في تطوير الفكر الماركسي والاقتصادي، حيث كان يعتبر نفسه أنه جاء من العالم الثالث، وهو العالم الذي عرف صدمة الاستعمار والامبريالية.
الكتابين الأساسيين اللذان تركهما، الأول وهو موضوع أطروحة دكتوراه الدولة حول “الاستثمار من 1912 إلى 1964” والذي انتقد فيه السياسة الاستعمارية وتطور النظام الرأسمالي في المغرب، ثم الكتاب الثاني وهو “العوامل الغير اقتصادية للتنمية الاجتماعية”.
كما كانت له علاقات متميزة مع الأساتذة، ترأس جمعية الاقتصاديين المغاربة، وكانت لديه قدرة هائلة على لم الشمل بين الأساتذة على الرغم من اختلاف مدارسهم وانتماءاتهم الفكرية. فقد كان رجل حوار ونقاش بامتياز، إلى جانب مزايا أخرى في حياته الشخصية كإنسان محب للحياة، وللفن ولكل أشكال التعبير البشرية.
فقد ضاع فيه المغرب، وضاع فيه الحزب، بوفاته وهو في أوج عطائه حيث توفي وهو لم يكتمل 50 سنة. عزيز بلال لازال حيا بيننا، لأن العديد ممن تعلموا من معرفته استطاعوا تطوير فكره وأعماله سواء من طرف رفاقه أو عدد من المفكرين الجامعيين المغاربة والأجانب.

عبد السلام الصديقي : أربعون سنة مرت على فقدان الرفيق عزيز بلال.. لن ننساك أبدا

مرت أربعون سنة على رحيل مفكر عظيم ومناضل ملتزم بقضايا الشعوب العادلة، ومن العسير جدا الحديث في بضع سطور على سي عزيز طالما أن حياته كانت غنية بالعطاء العلمي وبالمسؤوليات العديدة التي تحملها عن جدارة واستحقاق طوال حياته في مختلف المجالات.
إن كاتب هذه السطور كان محظوظا بالتعرف على الفقيد على أكثر من مستوى، كطالب أولا، تابعت بشغف كبير دروسه في مدرجات الجامعة خلال السبعينيات من القرن الماضي، ولاسيما مادة “المشاكل البنيوية للتنمية”، وبفضل هذه الدروس استطعنا نحن معشر الطلبة آنذاك أن نتعاطى للمشاكل الكبرى في عالمنا، مشاكل التخلف والتبعية والتحرر، وهي مواضيع لها راهنيتها. وتعرفت على الفقيد كزميل بكلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية بالدار البيضاء في يناير 1980، حيث استفدت كثيرا من تجربته كرئيس لشعبة العلوم الاقتصادية، ومن أسلوبه البيداغوجي في التسيير، وأعجبت كثيرا بتصرفه تجاه زملائه وبانفتاحه على الرأي الآخر وبتواضعه العلمي، كان رحمه الله حريصا على إشراك الجميع ويؤمن أشد الإيمان بالعمل الجماعي في إطار فريق متكامل. وعرفته أخيرا كرفيق في صفوف حزب التقدم والاشتراكية وعلى مستوى خلية كلية الحقوق التي كانت تضم في صفوفها حوالي عشرين مناضلا ومناضلة وكذا على مستوى اللجنة الاقتصادية التي كان يترأسها بحكمة بالغة.
ويعود له الفضل في ارتقاء خلية كلية الحقوق إلى مشتل فكري ينتج الأفكار والاقتراحات لصالح الحزب، وفي مختلف الحقول المعرفية والإشكاليات السياسية، وتحضرني هنا أسماء الرفيق ندير يعتة، والرفيق ميمون حبريش، والرفيق عبد الحق الخيلاري، عبد العزيز بوعامي، تغمدهم الله بواسع رحمته، كما أستحضر اسم رفيقنا العزيز خالد الناصري أطال الله في عمره ورفاق آخرين ما زالوا يشتغلون في هدوء.
إن فقدان الرفيق، وعمره لا يتجاوز خمسين ربيعا، يعتبر خسارة كبرى لحزبنا، وللجامعة المغربية وللبلاد برمتها، كما يعتبر خسارة كبرى لأسرته الصغيرة حيث ترك وراءه زوجته ونجليه عبد الكريم ويوسف وعمرهما لا يتجاوز على التوالي ثمانية وخمس سنوات.
لقد كان المرحوم سي عزيز أول مغربي حاصل على دكتوراه الدولة في العلوم الاقتصادية في موضوع “الاستثمار في المغرب وتعاليمه في التنمية”، أطروحة نالت جائزة كبرى، وشكلت إسهاما كبيرا في مجال التنمية، ولم تتقادم إطلاقا، حيث تعتبر الاستراتيجية التنموية التي اقترحها في الجزء الأخير من الأطروحة ذات راهنية من حيث دور الدولة والقطاع العام، ودمقرطة تدبير المؤسسات العمومية ودور القطاع الخاص، وأهمية الأخذ بعين الاعتبار العوامل غير الاقتصادية.
وفي هذا الموضوع بالذات، أي العوامل غير الاقتصادية في التنمية صدر للرفيق كتاب بالفرنسية يكتسي أهمية بالغة، تمت ترجمته إلى العربية من طرف مركز عزيز بلال للدراسات والأبحاث.
إن رفاقنا الشباب وطلبتنا في الجامعة المغربية مدعوون إلى دراسة هذه المؤلفات والاستفادة منها على مستوى منهجية البحث والمرتكزات الأساسية للتنمية.
لم يكن عزيز بلال عالم اقتصادي بالمفهوم الأكاديمي فحسب، بل كان عالما ومناضلا في ذات الوقت، يربط بين النظرية والممارسة، يجسد ذلك المثقف العضوي بالمعنى الكرامشي، حيث تجده حاضرا في كل المعارك الشعبية والوطنية، ومناصرا لكل القضايا العادلة للشعوب. ينشط في الحقل السياسي بانتظام، مما يجعله يرتقي إلى أعلى هرم في المسؤولية كعضو بارز في المكتب السياسي، كما كان يمارس العمل النقابي الجماهيري، حيث كان من مؤسسي التنظيم النقابي في التعليم العالي، وتجده حاضرا في المعارك الانتخابية حيث فاز بمقعد في جماعة عين الذياب، وتحمل مسؤولية نائب رئيس الجماعة الحضرية. وبهذه المسؤولية سافر إلى الولايات المتحدة الأمريكية، وهي أول زيارة لبلاد العم سام، ليحضر مراسيم توأمة الدار البيضاء وشيكاغو، وشاءت الظروف أن تكون هذه الرحلة مأساوية، حيث توفي في الفندق، إثر حريق شب في الليل، ولم يتمكن من الاستيقاظ رغم الإنذار المنبه. لم يقض في الولايات المتحدة الأمريكية ليلة واحدة بكاملها، يا لها من مأساة.
مهما قلنا في حق هذا المناضل والمفكر، ومهما كتبنا عن إسهاماته، سوف لن نفي بالواجب على أكمل وجه، إننا مدينون له بالكثير، والجامعة مطالبة بالتعريف به من خلال تدريس أفكاره ونشر مؤلفاته.
ألا يستحق هذا الأستاذ الجليل أن تحمل بعض المدرجات في الجامعات والمدارس العليا التي اشتغل فيها اسمه عرفانا لما قدمه من خدمات جليلة وتضحيات كبيرة؟. وذلك أقل ما يمكن أن تقوم به جامعاتنا.

نورالدين العوفي : ما أحوجنا إلى أفكار الراحل في ظل الشروط الاقتصادية المتأزمة التي تعرفها بلادنا

الراحل عزيز بلال نفتقده اليوم، في ظل الشروط الاقتصادية المتأزمة التي تعرفها بلادنا، نفتقده كما يفتقد البدر في الليلة الظلماء.
الأزمة الصحية كشفت عن الخلل العميق، البنيوي الذي خلفته سياسات الخوصصة وقبلها سياسة التقويم الهيكلي، خاصة في المجال الاجتماعي والخدمات العمومية. الراحل كان يؤكد في كل كتاباته على الأهمية القصوى التي يكتسيها الاستثمار العمومي، وعلى دور الدولة في الضبط الاقتصادي، وفي الحماية الاجتماعية، وفي التخطيط الاستراتيجي للتنمية.
وكان رحمه الله يعطي لمفهوم التنمية الأبعاد التي أمست اليوم تشكل الرؤية المستقبلية للتنمية، المرتكزة على السيادة الوطنية، والتي من غاياتها الإدماج، والاستدامة، والتمكين، والقدرة على التكيف.
ومن النافل القول إن الراحل لم يكن يرى أن التنمية يمكن أن تكون بدون إسهام القطاع الخاص إسهاماً وازناً، وأن تستقيم خارج مؤسسة السوق التي، كما هو معلوم، لا تأتي من فراغ، بل هي ثمرة بناء خاضع للضبط، تؤطره القاعدة القانونية لكي لا يكون دولة بين الأغنياء.
لقد سبق أن قلت إن الراحل عزيز بلال هو المؤسس للمدرسة الاقتصادية الوطنية بصفة عامة، بمعية بعض الرواد الآخرين أطال الله في عمرهم، ولمنظومة التنمية الاقتصادية ببلادنا بصفة خاصة، ومن ثمة، فإن الرجوع إلى ما تركه من موروث غني في هذا الباب من شأنه أن يكشف الغمة، وأن يساعد على تخطي الأزمة، وأن ينير الطريق نحو التنمية المستقلة والشاملة.

محمد الشيكر: عزيز بلال المفكر الملهم

في الذكرى الأربعين لرحيل المناضل الفذ،عزيز بلال، اختار محمد الشيكر، التذكير بمبادرة مركز الدراسات والأبحاث عزيز بلال ، والمتمثلة في ترجمة آخر إصدار للراحل والذي حمل عنوان ” التنمية والعوامل غير الاقتصادية، والذي تم نشره هذه السنة ، مؤكدا بذلك أن أفضل تخليد لذكرى هذا المناضل الكبير الذي ظل نموذجا للمثقف العضوي والطلائعي، بل قامة من القامات النضالية الحزبية اليسارية، هي التذكير بالأفكار التي أبدعها في مجال تخصصه كاقتصادي، والتي أصبح بما يطبعها من ثقل فكري يعد أحد أبرز مفكري التيار الشيوعي بالمغرب، بل يعد مؤسسا للفكر الاقتصادي المغربي.
وأضاف قائلا” إن عزيز بلال رجل سياسي ومثقف، كان مفكرا ملهما، فقد كان يجتهد لمعالجة الإشكاليات والأسئلة المطروحة آنذاك على مستوى المغرب وعلى المستوى العالمي، وكان في نفس الوقت أستاذا جامعيا كون أجيالا من الاقتصاديين في الوقت الذي كان فيه قياديا في حزب التحرر والاشتراكية ثم حزب التقدم والاشتراكية، وكان نموذجا للمثقف الثوري الذي ربط بشكل عملي بين النظرية والممارسة، منحازا بحكم انتمائه السياسي لقضايا الجماهير، باحثا عن التغيير، عن مسارات التنمية وإخراج الشعوب من التخلف.
وأكد أن عزيز بلال يظل ذلك المثقف الثوري الذي يظل نموذجا سواء على مستوى السلوك والالتزام وكذلك على مستوى البحث العلمي، معتبرا أنه رغم مرور نحو أربعين سنة على الرحيل المفاجئ للمناضل عزيز بلال، فإن فكره يظل فكرا رائدا ويستحق ان ينال كل الاهتمام وأن يكون موضوع دراسات معمقة لما حملته أفكاره وتحليله وكذا منهجيته في مجال الدراسات الاقتصادية.

*رئيس مركز الدراسات والابحاث عزيز بلال

مصطفى الكثيري: عزيز بلال شخصية متعددة الأبعاد

ذكر مصطفى الكثيري رئيس جمعية الاقتصاديين المغاربة، المندوب السامي للمقاومة وأعضاء جيش التحرير، في تصريح سابق لبيان اليوم، أن عزيز بلال كان شخصية متعددة الأبعاد، وكان فكره الاقتصادي في بعده الاجتماعي والحضاري والثقافي، بالإضافة إلى كونه من أول المفكرين الاقتصاديين في العالم الثالث إلى جانب سمير أمين ويعقوب سليمان وجرح قرم وغيرهم من حملوا الهاجس الاقتصادي بالعالم الثالث.
وأبرز الكثيري، في التصريح ذاته، الدور الذي كان لعزيز بلال في اتحاد الاقتصاديين العرب وفي الجمعية الدولية للاقتصاديين، خاصة عندما كان رئيسا لجمعية الاقتصاديين المغاربة، مشيرا إلى أن عزيز بلال كان مدرسة جامعة بين الفكر والممارسة، وبين الخطاب والعمل، حيث كان من المساهمين في المخطط الخماسي للمغرب (1960- 1964) وهي التجربة التي أهلته يقول المتحدث ” لمعرفة عن قرب الواقع المغربي خاصة في السنوات الأولى من الاستقلال أي سنوات البناء”.
واعتبر مصطفى الكثيري، أن عزيز بلال ظهر كمؤسس للفكر الاقتصادي المغربي، واستطاع أن يستقطب العديد من الطلبة لشعبة الاقتصاد، مشيرا إلى أن الباحثين الاقتصاديين المغاربة لم يوفو الفقيد حقه، مبرزا الحاجة إلى عودة الروح للتفكير الاقتصادي المغربي، وفاء لروح عزيز بلال، وإلى تجميع ووحدة الاقتصاديين المغاربة لإعطاء الفكر الاقتصادي دفعة قوية ليساهم في الإيجابة على مختلف الإشكالات الاقتصادية المطروحة في وقتنا الراهن.

 *المندوب السامي لقدماء المقاومين وأعضاء جيش التحرير

Related posts

Top