شعرية نثار اليومي

وقّع الشاعر المغربي علال الحجام باكورة إصداراته الشعرية سنة 1975، تحت مسمّى “الحلم في نهاية الحداد”، نكاية في العادي والمألوف، زمانا ومكانا ووجوها، في نقلة لافتة وقفزة نوعية جريئة، تروم صور الجدّة بكل تفاصيلها، كضرب من إسراء بالذات من خرائط تضيق على الحلم مثلما تختنق هي به أيضا، عروجا إلى مراتب الوهم الأليق مفهوما وممارسة بتجربة ما تنفكّ تشهر عقوقها للسرب وقد أنهكته إلى أبعد الحدود، قواعد القشيب ومعاييره.
ومن ثمّ ذاك التدرّج الملحوظ في العطاء والجود، مبرزا ملامح التفرّد وتباشير الهوية السير ذاتية، في ما يمكن أن تجترحه شعرية تمضي في هذا الاتجاه، تعتقد بضرورة التغيير وتزهد في الاستنساخ الأنوي واجترار مواويله المتقادمة.
بحيث يغدق شاعرنا، على المشهد الآخذ في انتعاشه بفضل أصوات انقلابية، طوّرت في شكل ومضامين النص، اعتبارا من ثاني مجاميعه الصادرة سنة 1981، المغرقة في توقعات الذات الحالمة العاشقة لفصول الحطام وعناصر الخطوط الأمامية والمهجور، مجاراة لمخاتلات القصائد النافرة المغرضة، عبر ديوانه “من توقعات العاشق”.
بعدها، توقيعة “احتمالات المتقي برينتر”، تلتها لعبته الفكهة مع الزمن في لبوسها الطفولي المدغدغ الباحث عن نرجسية الصغر، كلون من مباغتة تصد اللحظة العابثة بصوت عابث أقوى تنكّهه الكأس التي تذوّقنا معها فلسفة عمر الخيام، وقصّته مع الأعمار الدامية و الهاربة، الشحيحة بأفراحها وأعيادها، تماما كما في مجموعة “في الساعة العاشقة مساء” سنة 2001، ثم ديوان “من يعيد لعينيك كحل الندى؟” سنة 2010، قبل “صباح إيموري” 2012 و”اليوم الثامن في الأسبوع” 2013، هذا المولود وقد أشرق بقدومه عالم تنثاله ثقافة عمى الألوان، وينتصف للبصيرة دونما سواها، ليقلب المعادلات الزمنية في الشعرية العربية على تراميها وتعدد مراجعها، وينبّه إلى حتمية الكتابة خارج الشكل والجيل، على أساس أنه كلمّا تمّ له ذلك، يكون أجدى وأفضل، وأضمن للنص فيما يتعلّق بالتحرر من الزوائد الضارة، ويعزز فرص انتشال النص من سلطة الذاكرة الموغلة في حيثيات المسطور بأنانية وجنون تاريخانية الانتصارات لا أكثر.
بيد أن ما يهمّنا ههنا، بالضرورة، هو ديوان “ما لم ينقشه الوشم على الشفق” الصادر بعد عام كامل من هذا التراكم المختوم بنبرة متمرّدة على كل ما هو قبلي محاصر باختراقات الذاكرة.
مجرد عتبته، تغمزنا بظلال العوالم الأولى من ديوان العرب، على نحو دال، ومحقق لأغراض الكتابة النشاز، أو نصوص العقوق في وفاء ضمني، للأصل والجذور،إقحاما للرموز بما يفيد النفي،والهدم بهدف التدوير ومعاودة الإنتاج،فلا أطلال علال الحجام ورسومه ومضاربه الإبداعية، هي عينها المحكي عنها في الموروث، وإن تجاورت المعاني، ولا خولتهُ هو، هي تلك الذابلة في ذاكرة شعرنا القديم، ولا “برقة تهمد” هي المكان الذي تشتعل له أنامل تقتات على اليوميات دسمة بنثارها، مغرية بخيوط سمّ فخاخها.
سؤال الأنثوي لديه، صارخ جدّا، ينهض على فلسفة وثقافة مختلفتين تماما، قوامهما هذا الخطاب الهذياني الملقّح بتجريبية تنقر حظوظها خارج دوائر الزمكان والنصانية.
يقع هذا المنجز في 144صفحة من القطع المتوسط، ويضمّ 12 نصا، من بينها ما تتفرّع عنه عناوين جانبية يقتضيها حجم وحساسية بسط المواقف واستعراض الظاهرة.
يقول: ( من يُشاركُني زِنزانتي/ وحدهُ الغدرُ المتوقِّدُ بركانا في كهوفِ الذاكرة/ يُصغي للموج يعتصرُ الحنين/ مشكاةٌ تغزلُ خيوطَ الظلام في غفلة من النوم/ وحده .. يسمع مرثاة العقارب تسحق/ أمجاد تتزاحم في الرّحم).
شاعر يحيط برؤاه، يلبسها حلل الوهم، يجدّد أو يعدّد ولاداته المذيّلة بانتحار إبداعي، في كلّ مرة، كسرا للقواعد، ومماطلة للذاكرة المنقوشة بماء ذهب الانتصارات فقط، والمطعونة في رواسب أمجادها، كأنما غيّبت عنوة، جوانب الهشاشة والعجز فيها، كبديهيات ومسلّمات الكائن معني بها في تصحيح مساره الوجودي.
هو أسلوب جديد، تنتهجه الذات، في رتق صدع صلتها بمركزيتها، فضلا عن المتبقّي من ذوات يختزلها الآخر وعناصر الفضاء المدشّنة لتفاعلات وتكاملية الكل، تبعا لعملية غامضة ذروة في التركيبية والتعقيد.
قصائد طافية توزّع معسولها، مُبلورة صوت القصي والبعيد جدا، نأيا ومنفى طوعيا، تنقش به الذات خلودها وتحوز آفاق معاني تحرّرها واستقلاليتها.
يقول أيضا: (في اليوم التالي/ تبين أنه أحرق هويته شامخا/ ونثر الرّماد/على عوْسجٍ يستفزّ النّسيم على مرمر الشّاهدة/ وهو يطل على مهاوي الجنون/ في قبضة انهياره).
كأنها خارطة لفخاخ يقين العماء، يدبّجها سميّ الرموز، وهي تباشر طقوس تنصّلها من مخالب ذاكرة متسلّطة جدا، وفق سياقات استشرافية نازفة بمزيد من يقينيات البصيرة الملحمية الملحّة بتشظيات الحكي الأعمى، وقد انتحرت ألوانه، تتيح لدفق ذهني مفت بزئبقية تجليات المعنى الاستثنائي المغاير، مثلما تبنيه تصورات منفلتة عن الذات والغيرية والعالم، بمعزل عن التمثلات الزمكانية والشكلانية، بما يبقي فقط، على الجوانب الصقيلة الواشمة لعلاقة الكائن بالذاكرة، مسايرة لتيار لا واع وخفيض، يسكب من الذات في قصائد اختزال، بوصفها معادلا لحيوات موازية مغازلة برمزيتها.
يقول أيضا: (فقط لأن مفاتيح أبوابه الصّدئة/ في جيبه تضجّ بالتوقّع الدّفين/ وما أمتع / أن تواجه هشاشة الحدس/ صلابة السديم خالصا/ عبر تعاقب الفصول/ مطهّرة منعرجات المقامات/ من عماء اليقين).
هي كتابة ما بعد قصدية الانجذاب إلى شراك اليومي، متسربلا بالتوقّعات التي قد يثوّرها الدّفين، اطّرادا مع قوانين لعبة سردية تلهج بخطاب معارضتها، وتستثمر الموروث استثمارا عرفانيا خاطفا، تجفّ معه الاصطدامات الزائدة، بالذاكرة المثقلة بأبجديات الانتصارات الزائفة.
وقفة وجودية تضع جيلا بأكمله، إزاء مرايا مكرّسة لمفارقات شتّى، صانعة لهذا البون، ما بين عاجية التغنّى بالأمجاد، وراهن الانكسارات.

هامش:

“ما لم ينقشه الوشم على الأفق” (شعر) الطبعة الأولى، يناير 2014، عن بيت الشعر في المغرب.

> بقلم: أحمد الشيخاوي

Related posts

Top