طلاسيم امرأة بنكهة الجمان

للحظة تقول:

أنا امرأة خلقت من مكعبات الثلج، وحرقة الشمس، وطهارة الفجر، توسمت بضحكة وغد.. 

وحين اهتز ثبات الأرض، تترنم وتحلق وترقص على مقام دهاء كل رجل مبهم.

أنتقل من ذكرى إلى أخرى، دون أن تستوقفني حسرة، أمقت اللحظات الكاذبة بالصمت، وأطوي الصفحة تلو الصفحة، أضمر التعب المر وأجعله بعطر النصر، أمنح لقلبي ذائقة تطل على صوت الفرح، وأمنح الأشياء قيمتها، كأن ألتفت إليك في أوج هذه الحرب. .فتهدأ رياحك بقربي، وتستقر الشمس في مكانها، وتهاجر أسراب الفراشات في معدتي، فترتطم بجدارها، وتتطاير فوق رأسي وبالقرب مني، لا لشيء فقط كان حضورك عن بعد عاصف. 

وهنا حيث الطرقات المزدحمة تفرغ فجأة، ويتوقف الناس عن قطع الشارع، وتخفت السيارات أصوات أبواقها، وتصبح كل إشارات المرور حمراء، معلنة هذه المدينة قدومك المفاجئ الّذي يشبه الترنيم على الناي.

لتجدني وأنا ماؤك الحي، ووهج الشّمس، بدايات الخريف وعناقيد العنب، أقرع أجراس ذاكرتي التي أحسبها ملت أصابعي، وأستحضر طيفك الغافي على كتف العُمر، كلما استيقظت بذات الضبابية، والملامح المبهمة ، لألتقطني من محراب التائهين، أعلمهم فنون المكر والغواية، وأمتص عواطفهم لأزين بها نشوتي، وأهدر سخائها بين أدراج قلوبهم .

أذرفها كدعابة منذ عقدين ونيف، تم اختزلها في وداع قبيح من امرأة بوجه فارغ، وعينين تائهتين تطوفان في الفراغ، امرأة تستأنس بالفوضى التي تشتعل من رأسها إلى أخمص قدميها.

ككل مرة تستكين ملامحي في صحف أقداري، فتجد لوجهي سبيلا كلما سقطَ اسمه من محبرة الملائكة، وخطته أيديهم بين صفحات أيامي، وكأنها أرادت، بمشيئة من اللّه، أن تثبت لي أن الإنسان يلتقي بأشخاص كثر، لكن واحدا منهم يكون كالشامةِ في القلب.

وكي لا تتورط ببساطة  بحب امرأة مثلي، تجعلك تتذوق رضاب الحب بالطريقة الكلاسيكية وتنتقل بك إلى الزمن الأندلسي، وترميك في كنف صبابة الحب الحارق  اللاذع، لتجعلك دائم العطش تبحث عن غواية مكرها، ودهائها، لترتوي فحولتها، عصارة تجاوزاتها الشهية، رائحة قلبها العفوية.

وعند حلول المساء، ستقرأ لك فنجان قهوتك، وتتحايل على سذاجتك ببعض التعويذات، وستخبرك أن هناك امرأة فاتنة تتحين أمام أقفال قلبك الشقي، تطرق أبوابه ثم تلذ بالفرار إلى سفينة ذكرياتك، التي ترسو عند ناصية معقلها العظيم.

وعلى الرغم من حضورك الغائب على الدوام، فإنني ممتنة لشبح الذكرى، الذي لا يلبث يحرضني أن أكتب كلماتي هذه بصوتي، صوتي الذي أضحى ندبة تلتصق بحنجرتي.

أتلمس السماء الشاحبة، تلك الشاهدة على انغماس قلبينا داخل حساء الحب كل ليلة، فأجدك هنا لا تزال مقيما كجرح ثائرٍ أعمق من أن يشفى.

أدعوك مجددا كمحاولة ليست الأولى، لكنني آمل أن تكون الأخيرة لِأن نتواطأ معاً على غفلة من الأقدار، فتنتظرني أمام المدخل تمام منتصف الليل، أسابق الزمن أرتدي وجهي، وأمشي خلسة علَني أُوفق هذه المرة فأصل إليك وأرمي بكهولتي فوق صدرك، وقبل أن يجدني الطبيب، ويعيدني إلى منفاي الأزرق في صحفِ أقداري.. 

كنت عنوانا يتربع أعلى ومنتصف إحدى صفحاتي، منقوشا بخطِ النسخ، ومزخرفة حواف صفحته بالورد والأغصان؛ كأن جميع تفاصيلكَ تشع من هذه الصفحة، فأجد فيها رائحة عطرك، وابتسامتك وعقدة حاجبيك الفاتنة، وأجد خطواتك الّتي تمشيها قربي، ويدك التي تلف خصري حين نقطع الشارع. 

أجد فيها أول ملامسة ليدينا ونبرة صوتك الحنونة تارة، والحادة تارة أُخرى  تلك التي تتعلق بجدية الحديث والموقف. 

ها أنا انهش وجع الدهر بالكتابة، بخلط المداد مع رذاذ الحرف ونزيف القلب، أهب لنفسي حياة أخرى بعيدا عن تجاعيد الخوف، وقسوة غد أرسم لقلبي عالم ملؤه الدفء، أرتدي ظلك كالعقد حول عنقي، أتفقده وألمسه خشية أن يضيع، وأسأل اللّه أن يوصد قفل هذا العقد وسلاسله، فلا يضيع ولا يتقطع. 

معلق أنت في قلبي، ومعلقة عيوني على طرفِ الشارع عساك تمر، كامرأة تتربص بلاط أفكارك، وتنقب داخل أحجيات بوحك المكتوم.. تحاصرك بآلاف الأسئلة، وتعاتبك بنظرة طوبائية، ثم تحجزك داخل توليفة تجوس بالدهشة .

ستجعلك الخيار الأول على الدوام، والهدف الصعب الذي تحدو صوبه، تقتنص من جرأتك ما يروقها وتسدد نعاب رغباتها الشقية، خلف حركات مبتذلة لتمتص أوثار خصلات شغفها نحوك. 

تتعمد استفزاز عنفوانك وإغاضة جحيم صخب شهقاتك اللئيمة، تقترب منك وتوسم تجاعيد هيروغليفية على صدرك، وتوثق حرف اسمك المفقود في حرم الأبجدية.

امرأة تشاغب اختلافك الطاعن، وتنغمس في غمار تفاصيلك الرشيقة، وتخلق رزايا تستنزفك على وجه الأرق، وتستدرجك إلى تهويم طويل .

أنا رسم أناملكَ، وخربشة البحثِ عن وطن، بدايته ومنتهاه، قناديل روحك، سقسقة الفجر، قهوتك في الركن القصيّ، والتجاوزات الصارخة التي لا تغتفر. 

طموح العائد من مدن الضوء وحبك المعتق، في غابة أدعوها قلبك، شوقك، على سور بيتي، يبادلني كوب شايٍ، فلا تقع يا سيدي سوى بحب امرأة بنكهة عقد الجمان، تلك التي تنزلق تحت دثار الحرمان المعتق، لأنها ستكتبك بالخط العريض – وغد – أحبه. ستقف أمامك شامخة، وترفض توقيع أي اتفاقية تكبل حرية اختياراتها، وتحكي لك عن حزن المنافي، ووجهك الأحمق المفقود، ستعلن بوضوح أنه لا يمكنك تمرير ساديتك، ونرجسيتك على أجنحتها، وأن حربك معها ستكون مفتوحة على صفحات الدهر. ستقوم بدغدغة وجهك الجميل، بأظافرها الحادة إن رأتك تنظر إلى شيء آخر، بعظمة غيرها.. وأنها لن تسمح لك بتسلق سلم أحلامها المديدة، والتطفل على خيالاتها المتطرفة.

آه يا همُّ، حين تبعثِر نور الشمس وتبدده كالجمر في لج القلب، قلب امرأة تكونت من تيارات عابثة، وفتات القلق الكافر، ومزاج الأيام الذي يجوس لواعج عالمها العامر بالثقوب. 

امرأة أينعت قبل أوانها، تسير بتواز مع الأسى في مضمار جارف يقودها إلى المجهول..

امرأة موسمية بنكهة رائحة السجائر، ورغوة القهوة التي تنط من كأس معتق بالذكرى، كأس يتعرق اختناقا بالدمع على اسم نقش على ملامح سرنا المكتوم. 

امرأة عارية من الصبر، تلفها ندوب البتر، ونتوءات انقلاب الوعود، امرأة بارزة في الغصة التي ترتوي من حشرجات صوتها الأروم.

لا تتركني أو  أتركني دون أثر، واكتبني سعادة كبيرة فليست كل القصائد بلون الحزن، وأنا فتنة تمشي على وجه الأرض.. امرأة زاجرة كثيفة، تركض برشاقة اليعفور نحو السفن المتجهة للسماء، لتظفر بموعد سريالي معك.. 

لا تقع سوى بحب امرأة بنكهة عقد الجمان. 

لأنها ستكون الحقيقة الوحيدة التي تتعثر عليها في مجاري الضربات الاستباقية التي تطعنك دون مواجهة، تحدثك عن النبض المسحوق في الطرقات.. امرأة تلونها الندوب، تداعب واقعك بعد منتصف الليل بجرعة زائدة من الذهول، ومن التنميق. 

امرأة يلفها الغموض مضطرة إلى دفع ضرائب الانفصام، واللاشعور والغروب المباغت مقابل قطع لسانك الطويل الذي طال صيامه، وامتدت فلسفته مع الغرباء، امرأة تكتم ردود أفعال خطيرة، مصفوفة بطريقة أعجمية، إن تجرأ أحدهم وخدش غربتها الشعورية الخانقة، لتلقي بها في دوامة مرعبة لا منفذ لها منها.. 

لا تقع سوى بحب امرأة بنكهة عقد الجمان. 

تعلن تمردها على الضعف وتكتب نهاية حبك انطفاء وموتا، ثم أصحح، ستغدو مجرد أحمق على قيد القلب. 

امرأة تارة تكتب أن عيونك السوداء جنة، وباقي تفاصيلك نعيم عن حروف رمضاء، تنهش السطور وتنعي الشعور. وتارة أخرى تجعل منك ديبلوماسيا راقيا، تقتفي من ملكوت عالمك ملاذا تلجأ إليه عند الأسفار، لما يمزق الليل البائس قميصها، ويقد وحشتها إلى ريب. 

امرأة تحبل من آثامك مرارة قاتمة، وتملأ هالات انتظارك غضبا حادا وتثور من نوبات صمتك القاتلة، وحديثك المختال المكهرب الذي يغدق بفنون الفلسفة. 

امرأة تنظر إلى عجرفتك اللاذعة، على أنها نزال شرس يجب أن تكون مستعدة له كلما عبست ملامحك وهاجت غرور.. 

امرأة ترتعد فرائسها من تلك الإيماءة الواثقة التي ترتدي ثوب اللبابة، وتقصد بها أنك فهمت ما يلج خاطرها، وأنك لا تحتاج إلى أي شرح. .عن رغبتها الشديدة في الانتحار منذ غروبك الجبان الذي جعل جذورها يابسة، عن النشاز الذي يحيك من سفاسف أمورك الصغيرة، ووجع تراكم من آثار الليل الشاحب .

امرأة تقدس تفاصيلك الغبية هكذا يشرق هكذا يغرب، هكذا يدخن، هكذا يرتشف القهوة… 

امرأة تحفظ كل حالاتك وممارساتك، وتقلبات مزاجك اللعين.. تطارد ذكرياتك في كل شارع

تختار لك ملابسك وتغيرها في آخر لحظة، تشوقك إلى أغنية جميلة سمعتها صباحا في الراديو، وفي النهاية تجعلك تستمع إلى أغنية مختلفة تماما تجعلك تشك أنها ليست نفس الأغنية لكنها تحتال عليك بمكرها، وتقنعك أنك مخطئ… 

فعلا، هنالك على مشارف الاعتراف، أقر أن الحرمان يسبب الشيخوخة والفقد، يدفعك للتساقط تباعا.

والمسافات تطغى على رائحة من نحب، تغلبنا بضع ساعات فتحول ردحا من البؤس إلى أبد وعمر رث، لكن في كل اتجاهات الحب نلمس خصر الكون، ونخترق سرعة الشعور النفيس.

بقلم: هند بومديان

Top