عاشق الكتاب في “سيرة ذاتية”

يحيل عنوان المجموعة إلى كون الكاتب سيعود بنا إلى ماضيه كي يقدم لنا مشاهد ارتبطت بطفولته أو شبابه ولها الأثر البالغ في نفسيته، وتقديمه لذلك هاجسه مشاركتنا بعضاً مما يراه ملفتا له قبل أن يكون ملفتا لقرائه المفترضين.
في قصص محمد البغوري لا مجال للعبثية، فكل عبارة تساهم في خدمة الفكرة المحورية التي تحوم حولها الأوصاف والأحداث كي توصلها إلى القارئ إيصالا واضحا مؤثرا، ويتزواج في ذلك الصياغة والمحتوى، هذا الأخير الذي لا تؤثر على مركزيته التفاصيل الواصفة للفضاءات والأشخاص.
والمدقق في القصص سيقف في الأخير على معطيات ذات وثيقة بحياة الكاتب من قريب، ويتعلق الأمر بعشق الكاتب للكتاب والقراءة والحكمة وحلمه بقيم نبيلة غابت بعد أن سادت، وعشقه للكتاب وأهله عشقا ملفتا، يذكرنا بالعقاد وفلسفته في الارتباط بالكتاب حين قال ” إني أحب الكتاب لأن حياة واحدة لا تكفيني ومَهْما يأكل الإنسان فإنه لن يأكل بأكثر من معدة واحدة، ومَهْما يلبس فإنه لن يلبس على غير جسد واحد، ومَهْما يتنقل في البلاد فإنه لن يستطيع أن يحل في مكانين و لكنه بِزاد الفكر والشعور و الخيال يستطيع أن يجمع الحيوات في عمر واحد” ، فجل قصص المجموعة في النهاية تأطير لمواقف الكاتب إزاء الواقع وما يعتمل فيه من هنات تحتاج إلى معالجة بعد إعادة النظر في مظاهرها وعللها. على أنه يربط كثيرا مما أصاب الواقع من اعوجاج وهمجية بالابتعاد عن القراءة باعتبارها الملاذ الأول والأخير في التوعية والتثقيف والتوجيه والاحتكام إلى ما يسعفنا في التشبث بالقيم الإنسانية الراقية. فبعد انتهائي من قراءة المجموعة القصصية والتي شدتني إليها أحداثها العادية والموحية في ذات الوقت، تمثل لي بحدة هذا التشهي للكتاب وما يستتبعه من قراءة وتأمل وتحليل، فهو يبدي غرامه به، ويُجِلُّ المغرمين به، وكأنه يحاول لفت الانتباه إلى الفراغ الثقافي القاتل الذي نعيشه بما له من أخطار على القيم والعلاقات الإنسانية الراقية. فتيمة القراءة والكتاب مهيمنة على أحداث المجموعة وتعكس حلم الكاتب بالتقرب والاقتداء بأهلهما، بل إن بعض القصص تحيل على ذلك من عناوينها قبل أحداثها مثل قصة “المقهى والكتاب” و” فتوى الكتاب ” و”أديب في بيتنا”.. والأحداث في المجموعة توحي بواقعيتها مما يجعلها جزءا من سيرة حياة الكاتب رغم أن عبارة “سيرة ذاتية ” المتخذة عنوانا للمجموعة لم تكن غير عنوان لقصة من قصصها ( القصة :ص 43) ليجعلنا ذلك نحكم بسريان هذا العنوان على كل قصص المجموعة. ورغم زخم الأحداث التي تديرها شخصيات ذات ملامح وسلوكات وعادات خاصة في حياة الكاتب، فإن الملفت في ذلك كله ميول ونزوع الكاتب طفلا ويافعا وشابا نحو تقدير المتمسكين بالكتاب، أهل الثقافة المالكين لفلسفة خاصة إزاء الحياة وما تعج به من متناقضات. والكاتب في ذلك يكتب سيرة ذاتية وفي ذات الوقت يكتب سيرة غيرية لشخصيات كان لها وجود فريد في حياته في عهد ما.
في قصة “الشيخ والعكاز” نجد الكاتب يحاول انتقاد الجانب الاستهلاكي الفج لما تمرره الأجهزة الحديثة لتحولنا إلى أسْراها وعبيدها المُهْمِلين لشؤونهم الشخصية الملحة. وهو في ذلك يسخر القالب السردي تسخيرا يجعله يضع الأصبع على ما يرى فيه مكمن الداء مستندا في ذلك إلى شيخ عَرَك الحياة وعركته فاكتسب من ذلك خبرة الحكماء، فالكأس الصغيرة خير من الصهاريج الفضفاضة المغرية للكثير من الشباب، والمُرَكَّزُ المتينُ خيرٌ من الفارغ من الروح الفاعله في الحياة البشرية معنويا وماديا، ويوجد في النهر ما لا يوجد في البحر والحكمة قد تصدر من الأمور الصغيرة، ويصدر عكسها من الأمور التي نعتقدها كبيرة، وبهذا تترجم القصة جزءا من نظرة الكاتب إلى الحياة على اعتبار أن كل إنسان له فلسفة تؤطر نظرته نحو هذه الحياة والمجتمع بما يحملانه من تناقضات ووجهات نظر مختلفة اختلافا صارخا وفاضحا أحيانا. في هذه القصة ما يشبه علاقة الشيخ بالمريد المشتاق للتزود من معارف الأكابر يقول الكاتب:
“ـ يا شيخ ـ عافاك ـ لا تحرمني من بعض عناوينها، فقد فتحت شهيتي، وأيقظت في حب المعرفة و الاستطلاع(…).
إن حكمة الآباء والأجداد تلقحك بلقاح تقبله كل تربة مهما قربت أو نأت، وتعصمك من الأهواء والملل، وكل ما من شأنه أن يجعلك يا ولدي البار تفقد توازنك وتخسر عمرك حتى ، وتعيش الضنك في متاهات غير مرئية ولا متناهية.” ص 16 و17.
وإقبال الكاتب وقبوله لرأي الشيخ قد تكون إشارة خفية إلى كون الرأي رأي الكاتب ،وقد مرره عبر حواره مع الشيخ. “ومذ ذاك رجعت إلى نفسي أخاطبها، وإلى أفكاري أغازلها ، فتحصلت لدي قناعة راسخة ، أن الشيخ وعكازته يمتلكان مفاتيح ما من شأنه أن يصعب على الناس والجيل الجديد استيعابه وضبط إيقاعه بحكمة وتعقل يتزاوجان مع روح العصر ولغته.” ص 18
القصة بهاته الصيغة سيرة لتطور تفكير الكاتب وهو شاب ربما من السطحي إلى العميق، ومن المستهلك إلى التأملي الثاقب أو لنقل إلى الانتقاد الآني الذي يراه كفيلا لتغيير قيمي بديل.
في قصة “المقهى والكتاب” نجد ذات الهاجس العشقي للقراءة والكتاب منتقدا في المقابل النائين عنهما يقول: “لكن الفقير والضحل برواده وزائريه الذين أتخمتهم الأيام والشهور والأعوام بموائدها الحاتمية التي تغذي بطونهم، وتغطي مطالب تلهفاتهم مما لذ وطاب.. بل تبعدهم بالكلية عن غذاء العقل ولذائذ الروح التي تمنحها الكتب والمطالعات، هذه الموائد اليانعة، سأتقاسمها مع الأستاذ الذي كان معه ـ هذه المرة – صديقا له، يتعلق الأمر بعبد الله “شخصية صنعتها دماثة أخلاقه، وزركشتها الكتب، هذه الأخيرة التي أصبح ـ عبد الله ـ صريع هواها، وكائنا صغيرا جدا أمام عناوينها ومحتوياتها، وما تثيره من فضول ومشاكسة”.. لحظتها أبهرني عبد الله العاشق للقراءة والكتب، وطابت الجلسة التي فرضت علينا نحن الثلاثة أن نرتع في بساتين المعرفة ونتبادل تجارب القراءات وأخبار الكتب.ص 20 ـ 21 ـ 22.
يذكرنا الكاتب بكثير من الكتاب الذين تبدي أعمالهم غرامهم بالكتاب في سردياتهم وسيرهم.. وهم الذين وهبوا حياتهم للقراءة والكتابة والتأمل في الكون والحياة وما يجري في المجتمعات.
في قصة “فتوى الكتاب” يقول الكاتب: “أرخيت العنان لخيالي يسرح في بساتين رائعة ماتعة، مبلطة المسالك، فواحة الشذى، دافئة العشق والصحوة .. شعور أهداني إياه هذا الكائن الاسطوري العجيب الذي تسميه الحضارات والشعوب بـ” الكتاب”. آه من وقع هذه التسمية؟ وآه من الرحلة الصعبة ! على وجداني وأحاسيسي، آه من وقع هذه التسمية على وجداني وأحاسيسي . وآه من الرحلة الصعبة التي يكابدها الكتاب، وما يصادفه في ترحاله وتحلاقه؟ أسأله بغنج ودلال عن مثواه في “طومبوكتو”، وكيف عانق حظوظه وحضوره، وهو كنانيش وسجلات ومخطوطات؟ استنطق خطوطه المتنوعة الأشكال الزاهية الألوان؟
طالعو واقرؤوا ..تاريخ بغداد استخرجوا النفائس والدرر من الحكم والأطاريح، باشروا إعادة التاريخ ورسم الجغرافية .. انسوا خلافاتكم المذهبية والعرقية، انسجوا مواويل للزمن الحاضر والآتي و..و..
مكتبة بابل بمراياها ومتاهاتها الساحرة البهية، رقراقة منسابة..” ص 24 و25.
وفي قصة “فرجة الموسم”، يقول: “يشير الأستاذ بضرورة الحصول على الكتاب..تعددت الحصص وتوسعت مداركنا .. واغتنى خيالنا بهذه المعرفة الناعمة والسلوكية.. من الأستاذ اكتسبت العديد من أسماء الكتب في هذا الضرب من التجربة الإنسانية.” ص30
في قصة “قنفذ أملس” يقول الكاتب” أما خياله فيرتع ويسرح في ما لا يتصور من “مدن الملح”، وقصور من الرمال يكتب فوقها المعلقات السبع – عفوا- المعلقات التي تزيد على المئات، بل الآلاف؟ إلا أن خربشاتته لا تطول أعمارها، فسرعان ما تدرها الرياح، وتدهسها الاقدام وتمحوها الأرجل. وأخيرا يعود صاحبي إلى عالمه الداخلي لينذب حظه العاثر، فلا صديق يؤنسه، ولا من ذكرى جميلة تخفف عنه عذاباته” ص 34.
وفي قصة “صديق ليس عابرا” يقول الكاتب: “حكاية الكتب والناس. كتب كانت سببا في صناعة خيالنا وتشذيب أذواقنا: سر اللغة والخطاب، مصارعة الألعاب والهوايات، زينة الألبسة والألوان الزاهية، استراق قيم وأنماط حياتها، لا ندري عن مسوغاتها…”. ص38
أما في قصة “لذة الصداقة” فيقول الكاتب: “يبتسم ابتسامته الوديعة والمطمئنة، ويرد متسائلا بدوره بعزم عالية: ما قيمة حياة الأفراد والمجتمعات إن خلت حياتها من فعل القراءة، والرواية على وجه التحديد؟ص41. أما في قصة “أديب في بيتنا” يقول الكاتب: “نقدت بائع المجموعة، بعد أخذ ورد في ثمن الكتاب، وأنا المولع بالبحث وزيارة أماكن وفضاءات الكتب البالية، هواية لا أبغي الحياذ عنها، ولا يحصل لي الامتلاء إلا بهذه الزيارة لبائع الكتب. في كل مدينة حللت بها مناسبات عجيبة ورهيبة تربطني بهؤلاء الباعة..” ص49، وفي قصة “الحمام” يقول: ” أعضد حكايتي عن الحمام بما سلف قرأته في ثقافات أوربية، حرص أبناؤها على العناية الكبيرة بفضاء الحمام، وكيفيات فائقة في الزينة والديكور تنم عن أذواقهم التي توسعت مجالاتها لتشمل الحمام. رؤية فنية وجمالية، أبى الإنسان أن لا تفارقه..” ص 53.
لقد تبدَّى لنا هذا العشق والهوس بالكتاب وأهله، فشكل الجزء الأكبر من تضاريس المجموعة، والأمر منطقي حين نستدعي سير الكتاب والمبدعين المبرزة لعلاقتهم الوطيدة بالكتاب وبعشاقه.
القصص المؤلفة للمجموعة مختلفة التناول مما يضفي عليها تشويقا خاصا.
وإجمالا فمنجز الكاتب في مجموعته تناول ملمحا من حياته والمواطن التي ارتادها ليعالج مواقف لها أثرها على نفسية القارئ من إيقادها لجذوة التساؤل والتأمل.

هامش:

“سيرة ذاتية” مجموعة قصصية للكاتب المغربي محمد البغوري منشورات سليكي أخوين ـ الطبعة الأولى ـ دجنبر2013م.

> بقلم: لحسن ملواني

Related posts

Top