فاعلية الاقتباس وحاكمية الفن محور ندوة تداولية بتونس

بإشراف من المندوبية الجهوية للثقافة في المهدية، نظمت دار الثقافة رجيس ندوة تداولية في الفنون التشكيلية بعنوان “هل استوعبت فاعلية الاقتباس الكفاءات الإبداعية المعاصرة وأنهت بالتالي حاكمية الفن؟”، صاحبها تنظيم معرض تشكيلي جماعي امتداد أيام 2، 3 و4 نوفمبر 2018.
شهدت الندوة ست جلسات علمية بمشاركة ثلة من الباحثين والنقاد التشكيليين من تونس ومن بعض البلدان العربية، وقد تمت على النحو التالي:
الجلسة العلمية الأولى قامت بتيسيرها الباحثة المصرية دة. هبة الهواري، بمشاركة الباحثين: ذ. إبراهيم من المغرب، د. محمد بن حمودة، محمد الرقيق وألفة معلى من تونس. أما الجلسة العلمية الثانية فقد أدارها الباحث د. محمد الشيكَر من المغرب، وقد شارك فيها الباحثون: د. محمد البعتي، دة. مها المكشر من تونس، ود. حمدي صادق أبو المعاطي من مصر.
كما أن الجلسة العلمية الثالثة، التي أدارها الباحث ذ. بنيونس عميروش من المغرب، شاركت فيها الباحثة دة. في حين أدار أشغال الجلسة العلمية الرابعة الباحث د. محمد بن حمودة بمشاركة باحثين من تونس، هم: د. سلوى العايدي، د. فتحي بوزيدة، د. إلهام كمون وذ. سامي إبراهيم.
وخلال اليوم الموالي (الأحد 04 نوفمبر 2018)، جرت وقائع الجلسة العلمية الخامسة التي أدارها الباحث د. محمد الرقيق، بمشاركة الباحثين: دة. أمل محمود نصر ودة. هبة الهواري من مصر، د. محمد الشيكر من المغرب ودة. عواطف منصور من تونس.
عقب ذلك، اختتمت الندوة بجلسة علمية سادسة أدارتها الباحثة دة. سلوى العايدي بمشاركة الباحثين: ذ. بنيونس عميروش من المغرب، دة. أمل نصر نيابة عن زميلها د. مصطفى كمال الدين من مصر، ودة. الزهرة إبراهيم من المغرب.
وقد صدرت أوراق ومداخلات الندوة ضمن كتاب توثيقي نشرته المندوبية الجهوية للثقافة بالمهدية، إلى جانب ورقة علمية محكمة صاغها د. محمد بن حمودة المنسق العلمي للندوة هذا نصها:
هل استوعبت فاعلية الاقتباس الكفاءات الإبداعية المعاصرة وأنهت بالتالي ‘حاكمية الفن’؟
عندما أرادت دة. مهى سلطان أن تلخص الوضع في الشرق الأوسط قامت بطرح الاستفهام التالي: “هل الفن العاصر في الشرق الأوسط عامة يشكل من الآن فصاعدا القضية الكبرى في الفن؟”(1) وفي إطار الدورة الثانية للسمبوزيوم الدولي للفن المعاصر لحوض البحر المتوسط والشرق الأوسط الذي عقد من 25 مارس إلى 6 يونيو 2014 بتنظيم من الجمعية المغربية للفن، عرفت دار الفن المعاصر بأصيلة تنظيم ندوة فكرية ناقشت سؤال ‘معنى أن نرسم اليوم؟’. وبعد قراءة الورقة العلمية بالعربية والفرنسية “تحدث الشاعر والناقد العراقي فاروق يوسف الذي يرى أن أي رسام حقيقي، سيقف أمام رامبرندت عاجزا، كما أمام سيزان الذي أوقف عصر الباروك، وتحدث عن مفهوم ‘الفن العتيق’ معتبرا أن بودلير أخطأ حين جعل ‘الحداثة’ و’الحديث’ في موقع مناقض، ما يقودنا إلى ثنائيات أخرى من قبيل ‘رسم’ و’لا رسم’ و’جيد’ و’رديء’ […] كما أكد على أن شخصية الرسام في عصرنا الآني تتوزع بين 10 في المائة للفن و90 في المائة للتسويق، مشيرا إلى الفنان أندي وارهول كانطلاقة لهذا الداء.”(2) مفاد القول أن الإبداعية المعاصرة قد أقصت نفسها بنفسها من دائرة الفن وذلك لأنها لم تلتزم بـ’حاكمية الفن’. فعندما كان الفنانون ملتزمين بها كان الفن بخير، وعندما طرحوها جانبا، انحط الإبداع. ويبلور فؤاد سليم تجليات هذه الحاكمية بإسهاب فيكتب قائلا: “فمحمد ناجي –حين رسم فن المنظر مستخدما كل تقنيات وأساليب الانطباعية كان –في نظر هؤلاء- مصريا أصيلا، وكذلك كان ‘يوسف كامل’ –في أعماله المتراوحة بين الواقعية مرة، والطبيعة مرة، والتعبيرية مرة، ومن مثل ذلك أيضا أحمد صبري –حين رسم لوحته الشهيرة ‘الراهبة’ وعبد العزيز درويش –حين رسم الطبيعة الصامتة مستخدما ذات المساقط الضوئية ‘السيوانية’ على التفاحات، والطماطم فوق موائد الطعام و’صبري راغب’ –حين نقل نقلا يكاد يكون حكائيا صميم التجربة الانطباعية التي تلخص الخصوصية ‘الرنوارية’ في رسم الوجه الإنساني، و’عبد القادر رزق’ –مستهديا بمنحوتات ‘مايول’ التأثيرية في العاريات، و’كامل مصطفى’ –في محاولاته اللحاق بعالم ‘بوسان’ الكلاسيكي فوق بين ‘كورو’ مرة و’كوربيه’ مرة أخر، وصدقي الجياخنجي.” في المقابل تغير الوضع بشكل كامل عندما ظهرت –والكلام مرة لأخرى لفؤاد سليم- “حركات الشباب المتفجرة باستلهامات الجديد من الفن ‘البيئي’ وحتى الفن ‘التصوري’ ومن ‘الحدث’ حتى ‘البورفورمانس’، ومن الطليعي إلى ما ‘بعد الطليعي’، فهي كلها سحر شيطاني مدمر وضياع استيطاني للشخصية القومية في الفن المصري، وربما في الفن الشرقي بعامة.”(3) ألهذا الحد أصبح الفن المعاصر سيء السمعة عربيا؟ ولكن ما سبب سوء سمعة الفن المعاصر، خاصة وأن الفن التشكيلي نجح منذ مدة غير قصيرة في أن يحوز احتراماً واعترافاً يليقان به؟ إذا كان صحيحاً أن سوء السمعة دائم الصلة بخشية من ضرر يُتوقع صدوره عن جهة ما، فما هو الضرر الذي يمكن أن يكون ملازما لاعتماد مقولات ومنهج الفن المعاصر؟
يرتاب أي عالم اجتماع كلاسيكي أو أي مؤرخ للفن الكلاسيكي في كل أشكال العلاقة المباشرة مع القيمة الثقافية نظرا لعضوية علاقاتها بالأدائية وبالارتجال وبجرأة المبادرة واقتحام مجال العمل المادي. لذلك كان من بين أهم مصادرات الكلاسيكية الغربية قولها بتعارض القيمة الثقافية مع الابداع الشخصي. وكما هو معلوم فإن العمران المديني يقوم على المسؤولية الشخصية ولا يحتمل أي نوع من الروابط الإنسانية التي من شأنها تعويم مسؤولية الفاعل عن أفعاله وعن أفكاره وتصوراته الشخصية. ولعلنا لا نخطئ الصواب عندما نربط تاريخيا، التعميم القسري للفن على كل شعوب الأرض بالاستشراق؛ الذي بدوره ندركه بوصفه سيرورة استزراع للكلاسيكية الحضرية في كل أنحاء المعمورة. وعموما لا بد أن نذكر أنه ارتبط المشروع الحداثي بتحويل الثقافي Culturel إلى مثقف Cultivé، ولا شبهة إذن في أنّ مشروع الدول الاستقلالية العربية -المصادرة على بداهة ضرورة استيلاد الحداثة الغربية ضمن سياقها العربي- عوّل على الإبداع من أجل تحوير القيم الثقافية السائدة، ولهذا عمل على تأسيس الفكر الأكاديمي وعلى استزراع الكلاسيكية وذلك من أجل استبدال الطوائف المهنية بمجتمع مفتوح على عموم مواطنيه. وقد ساهم الفن عموما، والتشكيل خصوصا في تأسيس مجتمع المعرفة وفي بناء علاقات سياسية تقوم على الذاتية وعلى احترام العلاقات الغرضية.على نقيض هذا البعد المؤسساتي والعارف، ربطت هبة عزت الهواري التحول الثقافي المعاصر بالتقدم السريع في وسائل الاتصال؛ كما ربطت تأثير ذلك التقدم على الثقافة بإنتاجه لأشكال ثقافية مرتبطة بالاقتباس؛ “وفي هذه الحالة لا يكون المجدد هو ذاته مبدع العادة الجديدة، بل إنه هو الذي أدخلها”(4). وعلى رأيها، فإنه “جدير بالذكر أن الغالبية العظمى من عناصر معظم الثقافات ليست إلا محصلة لعملية الاقتباس هذه، وتُعتبر الثقافة الأمريكية الحديثة مثالا طيبا على ذلك.”(5) وباعتبار أنّ الحداثة تبني تماسك المجتمع على رابطة حضارية تعطل الحنين الثقافي للجماعية التقليدية في حين يقوم التوجه العالمي المعاصر على رد الاعتبار العالمي للقيم الثقافية، فقد لاحظت هبة عزت الهواري أنه طفت “تساؤلات المجتمعات عن الهوية الثقافية والبحث عن الجذور في المناطق التاريخية المفصلية والتي تتميز بحدة التغيرات وقوة الانعطافات، فتنشط القضية على امتداد الطريق بين التطرف الأصولي المتشبث بحرفية التراث واستنساخه وتقديسه والتطرف إلى الانسلاخ التام والانفصال عن الجذور والتحلل من أية مرجعيات تكبل الحرية الإبداعية للفنان. فخرجت إلى العالم أعمال فنية تستنسخ التراث وتعيده لترضي أذواق شريحة من المجتمع المصري والعربي.”(6) كأننا بهبة عزت هواري منزعجة من تعطل الظاهرة التي كان تواصلها يزعج شربل داغر، عنيت بالحديث واقعة أنه، في الوقت الذي كانت فيه زمر الفنانين المعاصرين الأجانب تساهم في ردّ الاعتبار لعبقرية الجوار المحلية، اندفع غالبية التشكيليين العرب وراء فورة الحداثة التي تلت نهاية عصر الصناعة الأوروبي، ضاربين صفحا عن بلاغة العبقرية المحلية المنوه بها. وقد أشار شربل داغر لهذا الأمر عندما لاحظ أنّ “الطلاب المصريون، الذين اندفعوا للانتساب إلى مدرسة الفنون الجميلة بالقاهرة في 12 أيار/مايو 1908، عبروا طرقا وشوارع، لم تكن انقرضت فيها الحرف الشعبية والصناعات الفنية، دون أن يبالوا بها- هي القيم البائدة والمتخلفة أمام القيم الجديدة الوافدة، التي كانت تبهر عيونهم، بقدر ما كانت تسطع في بيوت الأثرياء، المصريين مثل الأجانب، المزدانة باللوحات والتماثيل، كانوا يركضون غير عالمين طبعا بما يحتفظ لهم التاريخ في جعبته من مفاجآت : عليهم أن يعودوا القهقرى إلى محترفات القاهرة القديمة، ولكن بعد أن أقاموا زمنا في محترفات الغربيين في ‘حي الخرنفش'”(7). وبالعودة إلى هبة عزت هواري، فإنه يبدو أنها نسيت واقعة تنافس أنماط الحياة داخل كل مجتمع، سواء كان عربيا أو غيره. ويُذكر أنّ صفحة الكتاب ليست مجرد صفحة، بل هي جزء من ذاكرة منظمة ومرتبة على أساس نظام الطباعة الورقي، وكذلك فإنّ اللوحة هي ليست مجرد قماش، بل هي جزء من ذاكرة منظمة على أساس تصور صوري Formel للعالم. والملاحظ أنّ الحداثة التي نشرها الغرب بقوة الاستعمار، وجدت في ديارها من المراجعات ما لا نجد نظيرا له في ديارنا. ومعلوم أنها عديدة تلك التصورات الفكرية والفنية التي نعت التنوع الثقافي بعد أن استوعبه التجانس الحضاري؛ إذ كلما نجحت ذاكرة المعرفة في المجانسة بين الشعوب، كلما اتسعت مساحات ما أسماها ‘ليفي ستراوس’ بـ’المدارات الحزينة.’
لأن الفن المعاصر هو مواصلة وتطوير وتنويع لحركة الانطباعيين الاحتجاجية ضد كل أشكال التباعد الفني فإن مسار الإبداعية المعاصرة نحا نهجا يقوم على التهجين وعلى تفكيك الاختصاص وإحلال التركيب محله. ولأن التمشي العام للعملية سلك مسارا يؤدي إلى تذويب الفني في الثقافي فقد كان من الطبيعي أن يعتمد الفعل التشكيلي المعاصر المنوال الثقافي. وضمن السياقات الثقافية لا مجال للفروق الواسعة وللمراتبية الحادة. ولهذا تخلى الفنان المعاصر عن منوال الرسام المنخرط في علاقة خلوة مع لوحته بمنوال المخرج السينمائي الذي يؤسس لحركة جماعية بدون أن يظهر في الصورة. ولعل هذا التوجه نحو إحياء ما له صلة بالصبغة الثقافية المحلية هو ما يفسر صلاحية ما لاحظه عادل كامل من أنّ “الخزاف كان أكثر أمانة من الرسام في إخلاصه ووعيه لحدود عمله، وبالتالي لم تفزعه الحداثة الأوروبية أو تشعره بالتخلف، كما لدى الرسام. بل على العكس سنرى الانتماء إلى التاريخ يشكل رؤية لمواجهة عصر ما فوق التصنيع.” ذلك أنه يصعب على الرسام العربي أن يبلور مقترحا يتوفر على بعد كوسموبوليتاني، في حين أنّ الخزاف مثلا، لم ينفك، ضمن حاضنتنا الثقافية العربية، يعالج المادة على نحو يستدعيها لأداء وظيفة ثقافية. فهل يمكن القول أنه بقدر مساهمة خيار تحويل الثقافي إلى مثقف في تعطيل قدرات الكفاءات المحلية على استدعاء الوظائف الثقافية بقدر أهمية الدعم الذي استفادته من رد الاعتبار المعاصر لآلية الاقتباس؟
تعول هيئة التنظيم على مساهمات ضيوفها لتقديم الإضافة بخصوص موضوع الندوة والتي يمكن أن تتوزع عناصرها التكوينية وفق المحاور التالية:
– هل يمكن إدراج فاعلية الاقتباس ضمن خانة الكفاءات الإبداعية؟
– هل يمكن القول أن رد الاعتبار لفاعلية الاقتباس هو كذلك رد اعتبار للمنتوج الثقافي ومراجعة لوجاهة التمييز الدارج بين الفنون الكبرى والفنون الصغرى؟
– هل بالإمكان الجزم بأن الانفتاح على ‘اللافن’ من شانه تعميم الكفاءات الفنية؟
– المعاصرة وانتقال دور الرعاية الفنية من المؤسسات الراعية للفن إلى جمهور المستهلكين.

عبد الله الشيخ

Related posts

Top