تعتبر جماليات العمل الفيلمي من المواد الأكثر تعقيدا على مستوى المقاربة المنهجية من الزاوية الإجرائية للقراءة الفيلمية بالنظر إلى تداعيات التقانة ودورها في تجديد وتطوير الصناعة السينمائية، ما يستدعي معها المواكبة العارفة بمجاهلها وتخومها المتقاطعة مع العملية الإبداعية الفيلمية من جهة، وصعوبة التحديد والاطمئنان إلى منهجية أو مناهج المقاربة للعمل الفيلمي، بالنظر إلى ارتكاز النقد السينمائي في معظمه على إسهامات النقد الأدبي من خلال استعارة العدة المفاهيمية التي يشتغل بها، مع اختلاف مجالات الاشتغال من جهة أخرى، مع ما يتطلب ذلك من كفايات طلبا لتكييف هذه العدة مع موضوع الدراسة المغايرة للتربة التي أنتجتها حتى وإن كنا لا نقصد بذلك وحدة الرؤيا على المستوى الابستيمولوجي في إطار علم الجمال بشكل عام.
ولهذا، تبقى أي محاولة في مقاربة جماليات العمل الفيلمي مشوبة بالمغامرة الجميلة التي تسعى إلى أن تحقق التراكم المحسوب لصاحبه في تطوير وتشكيل ملامح تصور واضح لمستويات ومناهج القراءة الفيلمية. ذلك ما يجعلنا نتلقف بسعادة كل منتوج نقدي يسعى إلى هذه الغاية، وضمن هذا الإطار يأتينا كتاب “في الصورة والجسد، جماليات العمل الفيلمي”1 للناقد السينمائي عز الدين الوافي الذي عودنا منذ باكورته الأولى “في الصورة والتلفزة” ثم “لعبة الضوء” على تحدي المغامرة، والمساهمة برؤية منهجية رصينة، في تشكيل ملامح النقد السينمائي في المغرب.
1ـ من الانطباعية إلى النقد الموضوعاتي
لا يخفى علينا ونحن نلامس عتبات الكتاب أن الكاتب يحشرنا منذ البداية ضمن تيمتين تشكلان الرئتين الحيويتين اللتين يتنفس منها أي عمل فيلمي وهما موضوعتي الصورة والجسد، ما يؤشر بوضوح على رغبة الناقد في تجاوز عشوائية النقد الانطباعي والارتكاز على ما يصطلح عليه بالنقد الموضوعاتي
وهو منهج يجد مشروعيته أولا في طبيعة المادة موضوع الدراسة، وبالنظر إلى تقاطع التيمتين في بعديهما الظاهري والفلسفي مع العديد من الحقول المعرفية كالفلسفة الوجودية والتحليل النفسي والسيميولوجيا بمختلف اتجاهاتها (بارت وبورس على الخصوص) وثانيا لما يوفر هذا المنهج من مواد ومفاهيم تتميز بالمرونة التي لا تنفي الرصانة المطلوبة في مقاربة مادة التحليل، وذلك يعد مطلبا ومطمحا أو “مثلا أعلى” كما يقول جان ستاروبنسكي «وإذا كان لنا في نهاية المطاف أن نحدد المثل الأعلى للنقد، قلنا إنه مركب من الدقة المنهجية (المرتبطة بالتقنيات ووسائلها المحقّقة) ومن التحرر التأملي (الذي يجعل المرء طليقا حيال كل قيد منهجي)».2
2ـ الانتظام الموضوعاتي وامتدادات التيمتين (الصورة والجسد)
لما كانت للتيمتين تشعبات لا محدودة ضمن شبكة علائقية تمتد من مستواها المادي/ التقني (صورة – لقطة أو صورة – جسد) إلى مستويات دلالية نفسية، فلسفية – ايديولوجية، فقد كان لزاما على الناقد أن يبحر بلغة محكمة عبر هذه المستويات، من خلال توزيع يتغيى لَمْلَمة تشمل المفردات الفيلمية وصَهْرِها في بوتقة الجمالية الفيلمية. من الماهية إلى الوظيفة سواء بالنسبة للجسد أو بالنسبة للصورة. فالشخصية السينمائية في معظم الأحيان تجد معادلها الظاهري في الجسد بكل أبعاده الدلالية رمزية أو إيحائية، ما جعل الناقد عز الدين الوافي حصرها في عنصر “الممثل”، مع مراعاة التمييز بين «الممثل كإنسان حقيقي وبين الشخصية كمادة تخييلية من خلال كيفية معايشتنا لهما على الشاشة أو كما نتفاعل معها عبر فقرات الرواية»3. إن هذا الإدراك نفسه هو ما دفعنا إلى القول منذ البداية بضرورة اللجوء إلى نظريات الأدب ومفاهيمها المتقدمة في مقاربة النصوص السردية، خاصة مع المثال الوظائفي للباحث الروسي فلاديمير بروب، مرورا بكل التعديلات والإضافات التي عرفتها البنائية والسيميائيات السردية على يد غريماس وجيرار جونيت وبورس وبارت، وهذا ما أدركه الناقد بقوله: «الممثل كما يظهر على الوسيط البصري، منتوج تخييلي لا وجود له على أرض الواقع، لكونه علامة سيميولوجية، تتشكل داخل مخيلة السيناريست، ويتم استقبالها داخل مخيلة المشاهد مرورا عبر الوجود الورقي أو الافتراضي».4 فالعلامة السيمولوجية التي يثيرها الناقد، لا تجد مستقرها المعرفي إلا فيما يصطلح عليه بورس بـ”السيميوزيس”.”
فالعلامة وفق هذا التصور لا تنتج دلالة تكتفي بذاتها، بل إنها تولِّد سيرورة تدليلية أكثر تطورا، انطلاقا من فعل التمثيل وأشكال الإحالة، والعلاقات التي تتم بين عناصر هذه السيرورة إلى آخر يعطي للسيميوزيس بعدها التوليدي في إنتاج سلسلة لا متناهية من العلامات، فكل علامة تؤول إلى أخرى، ومن شأن أي فعل تأويلي أن يتحول إلى علامة ويولد سيرورة سيميائية جديدة».5 ولعل ذلك ما دفع الناقد إلى التنبيه منذ البداية إلى هذا الأمر بقوله: «يعتبر مفهوم الشخصية السينمائية مفهوما إشكاليا، لكونه هلاميا، كالموسيقى من جهة، حيث أن الشخصية التي ستظهر على الشاشة الفضية أو الصغيرة لا وجود لها كذات بيوغرافية أو كهوية أنطولوجية، كما أنها مفهوم يستعصي عن الإدراك، لكونه يظل هاربا باستمرار، ولا يمكن القبض على وجوده كجسد، سوى من خلال بعض العلامات الصورية».6 والصورة باعتبارها لسان العمل الفيلمي، تبقى قاعدة الإرسالية وعائدتها التي تعكس الكتابة الفيلمية، بجماليتها وأبعادها الدلالية والإيحائية ووظائفها الشعرية والتواصلية، سواء بحجمها الجزئي (اللقطة) أو بكليتها (الشريط)، هي عبارة عن دفقات مسترسلة مثقلة بروافدها الفنية والإيحائية، ما يجعلها تتجاوز التركيب التقني الميكانيكي لسلم اللقطات، إلى مستوى التركيب الفلسفي للرؤية والرؤيا، كما يعبر عن ذلك صاحب الكتاب بقوله: «أما في مجال اختيار سلم اللقطات، تحضر محاولة الأخذ بعين الاعتبار اللقطات ذات الوظيفة الوصفية العامة والمتوسطة واللقطة الرابطة لمتتاليات من أجل خلق ترابط الحكاية وتناغمها، ثم الوظائف النفسية والتبئيرية الدالة على الدوافع الباطنية والمشاعر غير المعلنة. وبالنهاية، فإن اختيار كل لقطة ليس أمرا تقنيا فقط، ولكنه قراءة في اللحظة بكل خلفيتها الهندسية والدلالية وحتى الفلسفية، على اعتبار أن كلَّ صورة إنما هي نتاج وجدان ما في لحظة تشكل جزء من السياق المعرفي والوجداني الذي بلورها».7 على ضوء ما سلف، يمكن القول إن الكتاب بما يحفل به من إضاءات كاشفة لتيمتي الجسد والصورة بكل تجلياتهما المعرفية والجمالية، يعتبر إضافة نوعية للخزانة السينمائية المغربية التي مازالت تفتقر إلى مثل هذه الدراسات المستندة على رؤية منهجية علمية، كفيلة بتشكيل سمات النبوغ المغربي في مجال النقد السينمائي.
هوامش:
1ـ في الصورة والجسد، جماليات العمل الفيلمي، عز الدين الوافي، بدعم من وزارة الثقافة، منشورات سليكي أخوين، طنجة، 2015
2ـ جان ستاروبنسكي، النقد والأدب، ترجمة: د. بدر القاسم، مراجعة أنطوان المقدسي، منشورات وزارة الثقافة والإرشاد القومي، دمشق، 1976
3ـ في الصورة والجسد، عز الدين الوافي، ص :103
4ـ نفسه، ص :11
5ـ عبد الله بريمي “السيميائيات التأويلية : التعاضد التأويلي والتلقي والأكوان الخطابية” مجلة البلاغة والنقد الأدبي، العدد الأول، صيف 2014ن الرباط، ص:126
6ـ في الصورة والجسد، عز الدين الوافي، ص :10 7ـ نفسه، ص :55ـ56
> بقلم: رشيد شباري