فجر التعاويذ

أواه، كم أحتاج لصباحيات عتيقة، تظللها غيمة نسجتها أمي من حكايات إغريقية، يكون فيها العيد كهلا، يركب عربة تجرها أيائل بلقانية في إحدى يديه زنبقة، وفي الأخرى حبات تين يخترق جدران أحلامي.

يمسد على نبضي بماء الورد وآيتين، ويبقي لي صندوقا من همس فيه عطر العود، وبعض النرجس وأنفاس الصبح وقصيدتان، فأتظاهر دوما بالثبات. 

وحينَ تعبُرُني تلك الأوقات المتعبَة، التي كنتُ أظُنها سبيلي للنجاة، تداهمني أصعب الأيام، فأشعر بالعجز من الداخل وكأنني فارغة، أتخبط يميناً ويسارا حتى ترتجف أطرافي، وتتلاشى قوتي في تلك اللحظات، وحينها أجدني أنهار، وما عدتُ أشعر بالهدوء على الإطلاق.

وما أن يحل الصباح حتى تبدأ طقوس القهوة، فتتمايل قصيدتي على رائحتها، كيمامة تعانق حبات النبق، فأنا في حضرة القهوة، عرافة تصنع من نقوشها حكايات لذيذة.

فليلى لا تبرح مجنونها، وتمردي يقلم القوافي على مقاس حزني، ومن عِطف سحابة عابرة تهطل مكاتيبي المنسية.

آآآه، ليت كل شيء بنكهة القهوة، ومطر تشرين.

وليت تلك القصائد، وذاك الليلك، مداد لمحبرتي كل صباح.

ما يوجعني فعلا في هذه اللحظة يا صديقي، أنهم لم يرحلوا حينَ كنتُ أخشى فقدهم يوماً، حينَ كنت أراقبهم بعيون قلقلة، خائفة، توقيت رحيلهم كان بعد أن انتصرتُ على خوفي، وأيقنتُ بقاءهم للأبد، ويا لي من حمقاء .

 استيقظتُ فجأة من غفلتي، وتلقّيتُ صفعة الفقد، لقد رحلوا جميعهم في أكثر أوقاتي يقيناً وتأكيداً وثقة .

وأنا لا أصلح أن أكون إلا غيابا، أو وهما، وإن شئت قل خيالا ينبض قلبه حين تلين جوارحه، خيال موجوع وفي وريده لا يسري إلا ألم.

لا أصلح للإلهام، هرمت مراكبي ومواقدي لا يشعلها غزل، أخاف وأجزع، وفي حرفي ينام وجل …

لا أصلح إلا للبكاء، فأنا امرأة مجبولة على حزن أمسياتي وذكريات رحيل.. ومع قهوتي احتسي همومي، فدعني كنورس أغيب وأحضر،  ولا تسأل عني إلا غيم البوح.

ربما لم أعُد أشعر بأي ألم، أو خوف أو حتى إرهاق، قضيتُ حياتي أركض بلا أنفاس، وسلكتُ الطرق الخاطئة، ما عادَ عامل الوقت يعنيني، وما عدتُ أكترث للجروح التي كانت في قلبي، لقد تخبطتُ وحدي من وجعٍ لوجع، لم أجد كتفاً يسندني، أو قلبا يحتويني، لم أستطع أن أكون قوية، أو أن أحظى بلحظة طمأنينة، لم يُهدّئ أحد من روعي.. ثمّ ماذا؟؟

لم يعُد يهمني إخفاء تعبي، توقفتُ عن تمثيل أنني بخير، لقد سقطتُ دفعة واحدة، سقطتُ حتى من نفسي، ولم أعرف كيف سأشفى،  ولا من أحد يكترِث … ثمّ ماذا؟؟

ابتسمتُ ابتسامة السّاخر من نفسه لكبت رغبتي بالبكاء، تحدثتُ كثيراً مع نفسي وكأنني في حالة هذَيان، تظاهرت بأنّ ما حدث عادي، لكنه أبداً لم يكن عاديا، لقد شقّ طريقه وسط قلبي وسلبَ طمأنينتي للأبد، تضاعف الخوف بداخلي، من أن أفقد عقلي للأبد.

أطلق عنان البوح، وروض السابحات في المقل، جئت اليوم أمتطي أيل الأرق، فأستلف ظلال ستائر الحزن، وعلى عاتق قهوتي رميت همومي، كلما مرت ببابي هذا الصباح ظبية الحظ، وجدت خيالي بين عينيها يغفو ويرافقه النسيان، وفوق عِطف مآقيها يختال الغزل، فأهدتني ذات لقاء بوحا ومكاتيب تغفو كانت تنمو تحت أهدابها.

يفوح منها عبق الذكرى، وتشتعل بين سطورها مواقد توثق بالقرب من الحرف قوافي حزينة، وتخاف إذا عسعس الليل، أن تستيقظ في القلب العلل .

لا أدري يا صديقي ما هو شعوري الآن بالضبط، متناقضة أبدو، ثمّة برد يجتاز أطرافي،  وناراً ملتهبة وسط قلبي، الشتات يملأ رأسي، والثبات يمكث في وجهي، سواد يتحيّز بين ضلوعي، والبياض يُعبّئ أنفاسي، أقتات من قوّتي لأحارب ضعفي..

فصول تتلوها فصول، لأغدو أنا امرأة حكاياتي، فيها الخريف سيد الفصول، وعلى بعد عقدين من حنين، كانت تلك الملامح تعانق أنفاس الجدران..

رائحة الطين تخالط عطر ياقات الوقت، وهمس الريح يلتصق بزجاج النوافذ، ووحدها ملامح وجهي الغائب، كانت كل الحضور، ووحده صوتي استحوذ على كل نبرات الغياب.

حروفي وأنا، ما زلنا نحتكر الأماكن، وما زالت غمازتي تقبع في وجهي، وقلبي، ما زالت صغيرة نبضات أحلامي، حتى الفستان الليلكي لم يهرم.

ليت أحدهم يمنحني ملامحه العتيقة، لأخبر أهداب صبري أن تطبق على خصر النسيان،  ومقل محشوة بصور ذكريات تعبث بحوض البيلسان، وشفاه تنفث على قارب الصغير سوء الطالع .

وصلنا إلى أعتاب النضج بهدوء، وصلنا متأخرين ولا يهُم، عرفنا أنّ الصمت أفضل الوسائل المُتاحة لنا، ما عادت تخدعنا كثرة الأحاديث، ما عُدنا نبحث عن التّواجِد الدائم لأصدقائنا، صرنا نرسل الصباحات دونَ انتظار الرّد، تركنا جميع الأمور تسير كما هو مُقدّر لها، لم نعُد نحزن ونتأثر من أبسط الأشياء، فهمنا أنّ الانهيار رفاهيّة لا نملُكها، أصبحنا أكثر هدوء، نمشي مع التيّار، لا نتمرّد ولا نقلب الموازين، نتقبّل كل ما يحدُث معنا، بهدوء تام، بهزّة رأس، فقط لأننا تعبنا، ولسنا على استعداد لأي استنزاف كان، و ما زال إلى الآن، يبحر في نهر الأمنيات..

فصول تلو فصول، فيها تشيخ ضفائر الخريف، ويسقط كل زهر الرمان، تعتق الشرفات مطر تشرين، وعلى ساق حورة تتماها حروف القصيدة.

وأنا التي طويت دفاتر أشعاري منذ أكثر من عقد، وفي سوق الوجل شريت بثمن بخس يراعي، وحزمت أمتعة الذكرى وعلى جيد الخريف علقت عقد الأمنيات.

   فعلا، فصول تلو فصول ما فتئت تهرول، ووحده الخريف يتربع على عقد أصابعي، يصول مرة ومرات عدة يجول.

أريد أن أصل لشعور واضح، لكنني في حيرة من أمري، غصة عالقة بقلبي حينَ ألقى كل من أحببتهم سلام الفراق بكل برود، كأنني عابرة أتسوّل الاهتمام، للوهلة الأولى شعرتُ أنّ قلبي سيتوقف، وأنها آخر دقيقة لي في الحياة، لم أتخيّل يوماً أن تنتهي علاقاتي جميعها بهذه السهولة .

ترى لماذا يجف النرجس قبل أوانه، ويعشعش باكراً على أكتافه الخريف؟

ولماذا نشرّع لليالي نوافذ الود بألوانه؟

أ لتلطم ريح عقيمة سواقي اللهفة، وتخرس في صدر السدرة أصوات الحفيف؟؟

أنا التي كنت مزدحمة بالأصدقاء أمسَيتُ في لحظة وحيدة، مرّ اليوم شريط ذكرياتي معهم جميعاً، شعرتُ بشيء ساخن يحرق وجنتي، كانت دموعي التي أيقظتني من غفوة الخذلان، كأنهم غرزوا سهامهم في قلبي الآن، سم فراقهم تجدد في كل ثنايا روحي، لم يغزوني مثل هذا الشعور من قبل، كأنه أتى ليوقظني، ليخبرني أنّ العمر مرّ سريعاً، وأنني أعيش وحدة قاتلة وطقوسها تجتاز جدران غرفتي، والألم يتصدّع من عتمتها دون أن أنتبِه.. يبدو أنني ألفت النظر إلى الخلف كثيرا، فما زلت أحفر على ساق حورة أسامي الراحلين، فكم محطة عبرت،  وكم قطارا غافلني وهرب.. وكم وكم من السنين هرولت، وأنا ما زلت أعقد الورد حول رسغ أماني.

اليوم يا صديقي، تذكرت سلامهم الأخير لي، لقد أسقطني دهراً، وأعواما دون أن أشعر… اليوم عادت التساؤلات مجدداً إلى رأسي: كيف بسهولة ابتعدوا عني؟

وما بالي أنا والسطور أضداد، أكتب حرفاً ينساب جدولاً، تغرف مني القوافي، وتشيّد لهمسي مواسم الرحيل..

تتفيؤ بظل نرجسة،  في روض أمنيات تبثها أشجاني وتلف سيجاراً من الحنين تشعله من لهيب الآهآت، وترسم للقاء أبعاد. تعاود الكرة تلو الكرة، تتشاجر مع سيل أبجديتي، فيلتهم السطر بعض البوح ويعود حزني أدراجه .وأصبح أنا، ونظرات اللواحظ لمقهى قصائدي روّاد؟؟ فكيف لعِشرة طويلة أن تنتهي، ولا يحاول أحد منا إنقاذها وهي تحتضر؟ خائفة أنا من نفسي لا من أحد، كيف لم أكترِث لعلاقات كنت أتمسك بها جيداً وراهنتُ على دوامها للأبد، كيف امتلكتُ تلك القدرة على الاستغناء؟ يبدو أنّ هناك انطفاء بروحي حدث، ولكن من سببه وماذا حدَث؟؟ أتدري يا أنا ؟؟

كأنها سنوات وأنا أكتب هذه السطور، وتلك الساعات التي تمتشق الانتظار منذ الصباح، ألقيت السلام علي وعلى القرنفل في الشرفة ونفضت الغبار عن مكحلتي.

ورحبت بالشمس، فمنذ غيابي لم أعد أشرب القهوة في كوّتها، وحتى الحسون الذي يقيم على النافذة المرتفعة سمعته يحدث أقرانه عن غيابي، الذي سيرتديه عندما يتناول كسرته من يد حلمي.. لم أكن أعِلم آن غمامي وحده من يمطرني أنساً إلا بعدما جدبت أحداقي إلا من الجمان، ساعتها فقط علمت أن الدفء يتسرب من الأطراف. رغم قربي من المدفأة، إلا أني عند غيابي سوف أظل أثرثر اليوم،  وأثرثرغدا، لأني في حضرة أنفاسي، وسوف أدون حكاياتي على ساق الكينا، فوحدها الأحلام من تحب سماع هذياني.

ما كانَ الفراق هيّناً، ولا كانَ الود صعباً، ما كانَ العشق سهلاً، ولكن أنين الفراق يعلو، وللنسيان صوت يصفع القلب، ويُحوّلهُ لبركان ثائر، حينما نجمع خُطى اليوم والأمس، ونلوذ هاربين من أنفسنا لنُعلن الهجر، ونتوشّح بالنسيان، إنها النهاية المفجعة التي أخرست مشاعر قلوبنا للأبد، هي الوجع القاسي الذي عجزنا عن هضم أثره المُر وحتى تجاوزه.

لُمّي يا أنا شمل اللحظات، ولا تغرِّبي ربيع الذكريات،  فحرام على ساكني الآماق أن يرشقوا بالقهر، ومن ينام بين النبض لا يحق له أن يجري بعيدا عن  الوريد .

فجبن يا أنا، أن أمشي حافية القدمين خوفاً من صرير العبارة، فمن كف عثراتي، يستمد الورد شذاه ومن أفق الخزامى تتجلى في عيني منارة الصبر .

بقلم: هند بومديان

Top