فرنسا اليوم.. ودروس مما حدث

بالرغم من أن ارتدادات الانتخابات الأوروبية الأخيرة مست العديد من دول الاتحاد الأوروبي، واشتعل النقاش السياسي بداخلها، وتعاظمت الأسئلة حول المستقبل، ولكن دوي ما وقع كان أكبر في فرنسا، ومثلت نتائج الاقتراع الأوروبي زلزالا داخليا حقيقيا، وهزيمة واضحة للرئيس إيمانويل ماكرون وتياره بالخصوص.
وقد أفضى هذا المستجد إلى قرار ماكرون حل البرلمان، والدعوة إلى انتخابات برلمانية سابقة لأوانها لإعادة فرز جمعية وطنية وأغلبية سياسية جديدتين.
كل وسائل الإعلام الفرنسية ليوم أمس، وأول أمس تحدثت عن هذا الزلزال الانتخابي، وعن خطر اليمين المتطرف، والعديد منها حثت على ضرورة بناء جبهة تاريخية وطنية للتصدي لليمين المتطرف، الذي حقق فوزا تاريخيا في الانتخابات الأوروبية بفارق كبير عن تحالف الأغلبية الرئاسية الداعمة لماكرون.
ما حصل في فرنسا توقعه الكثيرون طيلة سنوات حكم ماكرون، وحتى عشية الاقتراع الأوروبي كان العديدون ينتظرون حدوث ما وقع وكشفت عنه صناديق الاقتراع، وكان الكل يدرك ما شهده المجتمع الفرنسي ومشهده السياسي والإعلامي من تبدلات وتراجعات في الأعوام الأخيرة، وكانت فرنسا تبدو غريبة عن ذاتها وعن أنوارها التاريخية، واليوم أصدرت الانتخابات الأوروبية القرار والتشخيص المتوقعين منذ مدة، وارتطم وجه ماكرون بالجدار.
قد يكون ما حدث بداية لتطورات سياسية أخرى ستعيشها فرنسا في الشهور المقبلة، وقد تنجح الأحزاب التقليدية في تشكيل حلف مناهض لانقضاض اليمين المتطرف على الحكم، ومن أجل منعه من نيل أغلبية مريحة لصالحه في الجمعية الوطنية الفرنسية المقبلة، ولكن ذلك لا يلغي وجود تغيرات أساسية هي بصدد التشكل في فرنسا وفي كل أوروبا.
إن تماهي الرئيس الفرنسي ماكرون وأغلبيته مع خطاب ومواقف اليمين المتطرف بشأن الهجرة والمهاجرين، وفي قضايا الهوية والمشكلات القومية والدينية، نجح في تفشي العديد من التراجعات بالمجتمع الفرنسي، وخصوصا لما اختار الرئيس وحلفه اللعب في ملعب اليمين المتطرف واستعارة خطابه وفكره ومواقفه.
كما أن ارتباك السياسة الخارجية الفرنسية بزعامة ماكرون في العديد من محطات العلاقات الدولية والأوروبية، وتجاه دول إفريقية وعربية ومغاربية، فضلا عن إشكالات داخلية تهم ملفات اجتماعية واقتصادية تعني الفرنسيين، كل هذا أشاع أجواء من الخيبة واليأس والسخط في فرنسا تجاه سياسات ومواقف ماكرون وأغلبيته، وأتاح لليمين المتطرف الانتعاش والبروز، ووصل اليوم إلى تحقيق هذا الفوز الأوروبي غير المسبوق.
في السابق، كانت باقي القوى السياسية التقليدية تستطيع التكتل فيما بينها وحماية البلاد من التطرف، لكن اليوم استطاع ماكرون وخطابه الشعبوي المتفشي منذ سنوات الوصول بهذه الأحزاب إلى درك متدن من الضمور والفرقة، وبات من الصعب بلورة البدائل العملية من أجل الإنقاذ.
وبرغم احتفاظ اليمين التقليدي ببعض تقدمه أو استقراره، بل حتى التكتل الاشتراكي الديموقراطي أو اليساري بشكل عام استطاع في دول أوروبية أخرى الحفاظ على مراكزه بهذه الصيغة أو تلك، لكن الدرس على صعيد فرنسا هو أن إضعاف التعددية السياسية والحزبية والمساهمة في إضعاف أو تغييب قوى سياسية تاريخية، مهما كان الاختلاف معها، ليس في صالح البلاد ومستقبلها الإستراتيجي والديموقراطي.
الدعوة اليوم في فرنسا إلى جبهة وطنية أو جبهة يسارية في مواجهة صعود اليمين المتطرف هي نفسها لا تخلو من صعوبات ومنغلقات ومخاوف، وذلك بسبب ممارسات تفشت خلال سنوات.
المشهد السياسي إذن يبقى معقدا في كامل الاتحاد الأوروبي عقب ما أفرزته هذه الانتخابات الأوروبية الأخيرة، ولن تبدأ معالمه في الوضوح إلا بعد الإعلان عن نتائج الانتخابات الفرنسية التي دعا إليها ماكرون، وأيضا بعد معرفة ما ستشهده التحالفات السياسية في ألمانيا بعد هزيمة مستشارها الحالي، وكذلك ما ستقدم عليه رئيسة الوزراء الإيطالية بشأن اصطفافها القادم، وما ستختاره أحزاب اليمين التقليدي والتيار الشعبي الأوروبي من تحالفات على ضوء ما كسبته من نتائج…
وبناء على هذا، فإن التحديات اليوم لا تتصل فقط بالداخل الفرنسي مثلا أو بالوضع في ألمانيا أو حتى بالمستقبل الأوروبي وتحولات منظومة الاتحاد الأوروبي، ولكن هناك أيضا أسئلة وتحديات تعني منطقة المتوسط والموقف من القضايا المشتعلة في العالم (الشرق الأوسط، الحرب الروسية الأوكرانية، الهجرة، الحرب ضد الإرهاب، الأوضاع في إفريقيا…)، وهي كلها إشكالات توجد أوروبا في عمقها، وتجعل العالم يتطلع إلى تطورات ما يجري بداخلها وتداعيات ذلك على مواقفها الداخلية والإقليمية والدولية.
في فرنسا لم تعد نتائج الانتخابات الأوروبية الأخيرة قضية أوروبية ولكنها تحولت إلى شأن سياسي فرنسي داخلي بحكم الفوز التاريخي لليمين المتطرف، وعقب قرار ماكرون حل البرلمان والدعوة لانتخابات تشريعية سابقة لأوانها، وهو ما جعل آراء عدد من المحللين تؤكد أن الناخب الفرنسي عبر بهذا التصويت «العقابي» عن تطلعه إلى استعادة فرنسا بثوابتها الجمهورية المعروفة، وأن السخط كان تجاه تدني السياسة وضعف المنجز الاجتماعي وارتباكات المواقف السياسية الداخلية والخارجية وتضرر صورة فرنسا عبر العالم، أي غياب الوضوح وضعف الثبات، وأساسا من طرف رئيس البلاد.
بلادنا معنية طبعا بما وقع في فرنسا من حيث التعاطي مع قضايا الهجرة والجالية المــــــغربية والمصالح الحيوية للمملكة، وأيضا من حيث التعامل بواقعية واحترام وعقلانية مع القضايا الأساسية للمغرب، أي مع ملف وحدته الترابية ومع الشراكة المــــــغربية الأوروبية ومع المواقف المعلنة من القضايا المــــــغربية، والتي تكتسي أحيانا طبيعة الاستهداف والابتزاز، ومن ثم تتابع الرباط ما يجري بالكثير من اليقظة، وأيضا بالحرص على المصالح العليا للبلاد أولا.
وعلى المستوى الداخلي، يطرح الدرس الفرنسي أمام بلادنا ضرورة تمتين الجبهة الوطنية الداخلية وتقوية التعددية السياسية وتعزيز الأجواء الديموقراطية وانفتاح الفضاء السياسي الوطني.

<محتات‭ ‬الرقاص

[email protected]

Top