المرحاض، هو بالتأكيد أكثر المرافق الصحية Sanitaires التي نتصالح فيها مع ذواتنا بشكل صريح، وفيه نشعر بالرَّاحة حيث “تتنفس” أجسادنا بعد أن نخلصها من الفضلات (البول والبراز)، بل نكون داخلها أكثر صدقاً في حواراتنا اليومية مع أعضاء أجسادنا الحسَّاسة التي تظلُّ محجوبة وخاضعة لطابوهات اجتماعية ودينية وسياسية وأخلاقية كثيرة معقدة.
لغويّاً، ووفقاً لمجموعة من المعاجم، يعني المرحاض مكان الاغتسال وبيت النظافة. والمِرْحَضَة شيء نتوضأ فيه. ورحض غسل عضو من أعضاء الجسد. ورحَّضه ورَحَضه، بمعنى غسله. والمِرحاض، خشبة يُضرب بها الثوب إذا غسل. والرحَّاضة، أي الغسَّالة.
المرحاض أيضاً هو مكان التغوُّط والبول الذي يعُجُّ أثناء قضاء الحاجة بالضراط، أي الريح المنبعثة من الشَّرَج مع أصوات مزعجة وروائح كريهة. ريح وأرياح تتشكل من غازات الهيدروجين والميثان وثاني أكسيد الكربون والتي تنتجها الجراثيم بشكل طبيعي في الأمعاء الغليظة. والضراط، هو أيضاً الحزاق. جاء في المعجم: حَزَقَ يَحْزِقُ حَزْقاً، فهو حَازِقُ، والمفعول محزوقُ. وحَزَقَهُ البول، ضايقه حتى احتاج أن يتبوَّل. في السياق، قال أحدهم:
وجدتُ المرحاض مشغولاً
فبكيتُ صادقاً
من شدَّة حرقة التبوُّل المؤجل..
مسمَّيات المرحاض كثيرة، منها: بيت الرَّاحة، بيت الماء، المغتسل، الحمَّام، المشراح، المستراح، الكنيف، مكان قضاء الحاجة، وفي الاستعمال الدراجي المغربي يُعرف باسم “الكابينة” من Cabinet، إضافة إلى التواليت المأخوذة عن الفرنسية Toilette، ويُرمَزُ إليه في العادة بـ WC التي تعني بيت الخلاء (لأن الإنسان يخلو فيه بنفسه ولا يتحدَّث)، وهو تعبير مختزل مأخوذ عن الإنجليزية Walter-Closets التي يُقابلها التعبير الفرنسي Cabinets d’eaux.. وهي أنواع، أبرزها بشكل عام مراحيض القرفصاء (الشرقية)A la turque والمراحيض العصرية (الغربية) المعروفة بكراسي المرحاض الخاضعة للكثير من التطوُّر على مستوى التصاميم الفنية وأيضاً الوظائف المتنوِّعة التي تتيحها والموزَّعة بحسب فضاءات وأمكنة متباينة كثيرة تعكس الفوارق الطبقية والاجتماعية وكذا طبيعة هذه الفضاءات والظروف المحيطة بها، منها مراحيض القصور والبلاطات، مراحيض الفيلات والإقامات السكنية للأثرياء، مراحيض الوضوء بالمساجد، مراحيض المراكز التجارية، المراحيض المدرسية، مراحيض المقاهي والمطاعم والحانات والفنادق، مراحيض البيوت الخاصة، مراحيض القطارات والطائرات، المراحيض العمومية، مراحيض الثكنات العسكرية، مراحيض قاعات الإعدام، مراحيض الأسرى، مراحيض الزنازن والسجون، مراحيض غسل الموتي.. إلخ، بل إن هناك مراحيض مخصَّصة للكلاب كما يُوجد ذلك كنموذج في مطار هلسنكي الدولي (فنلندا) الذي استجاب لطلب المسافرين بتخصيص مكان للحيوانات الأليفة لقضاء حاجتها.
لمحة تاريخية
للمراحيض تاريخ عريق وثقافة موغلة في القِدم، حيث كان الناس يتغوَّطون تلقائيّاً في العراء وجهاً لوجه مع الريح قبل أن تتكوَّن المراحيض خلال الحقب القديمة من حفر في الأرض، وتشكلت في العصور الوسطى من مقاعد وأوعية تُجمع كل ليلة للتخلص من محتوياتها في المزارع وعلى الأراضي خارج المساكن. وظهرت مراحيض الحُفر في بادئ الأمر ببلاد الرافدين التي كانت تتسِمُ بالبساطة وبداخلها أسطوانات خزفية مقعَّرة لمنع التسرُّب، مثلما ظهرت المقاعد الحجرية، كما في قصور روما القديمة قبل أن تتطوَّر لاحقاً وببطء أنظمة الصرف الصحي مع ظهور مراحيض عمومية مؤدَّى عنها بفضل الجهد الذي بذل آنذاك لتطهير المدينة وتخليصها من الروائح الكريهة التي عمَّتها على نحو مقلق ومخيف…
في العصر الحديث، وفي اليابان مثلاً، يوجد نوعان من المراحيض: نوع قديم قرفصي عتيق مصنوع من الخزف، مستوٍ على الأرض يتطلب من الفرد جلوس القرفصاء بثني الركبتين وهو متوفر لدى غالبية السكان، ونوع آخر عصري بمواصفات وتصاميم طارئة انتشر عقب الحرب العالمية الثانية، يُعرف باسم “السوبر تواليت”، يتمُّ تنظيفه بفرشاة المرحاض Toilet brush، وهي أداة بلاستيكية يعود اختراعها إلى عام 1932 لتنظيف وتبييض المراحيض وتزويدها أيضاً بالشافط المطاطي Ventouse لتصريف المرحاض والتخلص من انسداد مياه الصرف.
أمَّا في الصين، فقد ظهرت مراحيض متطوِّرة، لاسيما في مدينة “شونغ كونغ” التي تفرَّدت بتشييد مجموعة كبيرة للمراحيض العمومية بالهواء الطلق بمراعاة وضعية المعاقين والتي أشرف على إبداعها مصمِّمون مرموقون اعتمدوا في إنشائها تكوينات قريبة الشبه بالقصور الفرعونية القديمة، والكثير منها أنجز على شكل حيوانات وطيور ونباتات، إلى جانب مراحيض أخرى سمادية وجافة تعمل على معالجات فضلات البشر عن طريق التسميد، وأيضاً المراحيض المزوَّدة بنظام شطف Flush toilet، وهي مراحيض يتمُّ فيها التخلص من الفضلات (السائلة والصلبة) عن طريق الشطف بالماء.
امتداداً لذلك، أطلقت الصين عام 2015 حملة ثورة المرحاض التي ساهمت بشكل فاعل في تجديد مراحيضها بنسبة كبيرة، لاسيما في القرى والأرياف، إلى جانب العمل على تزويد هذه المراحيض بآليات تسمح للمواطنين بإبداء آرائهم في وضعيتها ودرجات نظافتها وصيانتها بالضغط على أزرار ملوَّنة وضعت لهذه الغاية.
أمَّا المراحيض الأثرية، فقد تحوَّل الكثير منها إلى مطاعم كما هو الشأن في لندن ببريطانيا، حيث تم تحويل كراسي مراحيض عتيقة إلى مقاعد لزوار المقهى، واحتفظ بآلات تجفيف الأيدي معلقة على الحوائط منذ خمسينيات القرن المنصرم. كما توجد كليات للمراحيض، إلى جانب انعقاد قمم عالمية للمراحيض، أبرزها قمة سنغافورة عامي 2009 و2001، قمة سيول بكوريا الجنوبية عام 2002، قمة هانيان بالصين عام 2011، قمة دوربان بجنوب إفريقيا عام 2012.. إلخ.
لقد ساهم التطوُّر السريع لنمط الحياة العصرية والتوظيف المكثف للتكنولوجيا في ظهور “مراحيض ذكية” بنفَّاث الماء والهواء الساخن وبخدمات صحية متنوِّعة، كفتح وإغلاق الغطاء آليّاً، التنظيف التلقائي، التجفيف بالهواء الساخن، حلول مضادات للجراثيم، إزالة وتحييد الروائح، الرش مع جهاز التحكم عن بُعد، استعمال مشغل الموسيقى المحيط.. وغير ذلك كثير.
وللتشويش على الأصوات غير المحبَّبة التي تخرج من ثقوب أجسادنا (أصوات الأمعاء) خلال قضاء الحاجة، ابتكر اليابانيون جرساً خاصا لرفع الحرج يعرف باسم “كلاكس المرحاض” Otohime، والذي يتمُّ تشغيله بواسطة جهاز إلكتروني مزوَّد بمكبر صوت يعمل عن طريق اللمس. بخلاف ما يُوجد عليه الوضع في مراحيضنا الفقيرة و”الغبية” أو المنعدمة أحياناً كثيرة في غالبية بلدان العالم الثالث (خصوصاً العمومية منها)، كما عرَّت ذلك فضائح عديدة أثارت موضوع أزمة المراحيض وهشاشتها في المغرب بواقع مقلق يُحيل على قضايا عديدة – كأمثلة -، منها ما راج حول نقص بنيات الصرف الصحي بكونه أحد أسباب خسران مدينة طنجة فرصة تنظيم المعرض الدولي في عام 2012 التي آلت لمدينة يوزو الكورية الجنوبية، قبل أن تتصاعد نداءات ومطالب الساكنة، لتتعزَّز البنيات التحتية بالمدينة بعد طول انتظار بمراحيض عمومية مركبة، وقيل بأنها غير كافية بالنسبة لحجم بلدة شمالية كبرى اسمها طنجة؟!
ثمَّ هناك قضية أخرى تتعلق بوضعية غالبية المراحيض المدرسية الكارثية (النتنة والمتسخة) والتي لا يزال “الارتقاء بها” معلقاً وينتظر تفعيل أحد تدخلات وزير أسبق للتربية الوطنية داخل قبة البرلمان حين “بَشَّرَ” المغاربة بمشروع “غير مسبوق” تمثل في تعزيز البنيات المدرسية القروية بتشييد مراحيض!! وأيضاً مشروع “تشييد مئة مرحاض عمومي في الدار البيضاء” بميزانية ضخمة أثارت موجة من التعليقات وردود الأفعال بسبب كلفة تلك الصفقة، بجانب ما خلفه من تندر وسخرية عارمة مشهد وصور مراحيض أرضية لا تزال عارية وغير مكتملة منذ أزيد من عامين، والموجودة في شاطئ سيدي الوافي التابع لجماعة مير اللفت القروية (إقليم سيدي إفني)!!
وقد صار للمراحيض الآن يوماً عالميّاً يُصادف تاسع عشر نونبر من كل سنة، حيث تُطلق بالمناسبة حملة جماعية لتحفيز الناس في العالم حول قضايا النظافة وقضايا الصرف الصحي. تأسَّس هذا اليوم بفضل جهود المنظمة العالمية للمراحيض في عام 2001، وتمَّ الاعتراف به رسميّاً من طرف الأمم المتحدة عقب ذلك بعامين. وفي عام 2020، وضعت له مجسَّماً تعبيريّاً ضخماً ينبت أمام مقرها الرئيسي في نيويورك بالولايات المتحدة.
فضاء للقراءة.. والدعاية أيضاً
داخل المرحاض، نكتب التاريخ السرِّي لأجسادنا، وهو تاريخ “مسكوت عنه” لأنه مُصَادَرٌ ومُسَيَّجٌ من زوايا متعدِّدة تجعلنا نعمل على إراحة الجسد ومنحه خصوصيته الطبيعية الأقرب إلى الفطرة والبرية. والأكيد أن هذا التاريخ هو تاريخ علاقة الإنسان بجسده وبعُرِيه Nudisme، مع ما يجعل من ذلك حواراً ذاتيّاً صادقاً ومخلصاً ومنفلتاً عن كل السُلط وأشكال الرقابة..
لذلك، دأب الكثير من الناس على القراءة داخل المراحيض، لاسيما القراءة الخفيفة والمسلِّية منها، حيث يُدخِلون معهم القصص والمجلات والجرائد لحل الألغاز والكلمات المتقاطعة والمسهَّمة وللاطلاع على الأخبار والمتابعات الإعلامية الموجزة، إلى جانب اصطاحبهم معهم الهواتف النقالة لتصفح الرسائل والصور ومشاهدة الفيديوهات والسماع للموسيقى.. وغيرها، وهم غالباً ما يكونون داخل هذه الفضاءات الحميمية في حالة كبيرة من التركيز والإصغاء والتفاعل والترسيخ.
وبالنظر إلى ذلك، فقد عملت شركات عالمية كبرى على استغلال هذا الأمر عقب دراسات علمية وسيكولوجية متخصِّصة، حيث بادرت بطباعة القصص القصيرة والقصائد الشعرية والأخبار وأحوال الطقس على لفافات الورق الصحي، أو ورق الاستنجاء Papier hygiénique الذي ابتكره جوزيف غيتي منذ عام 1857، كبديل عن الحشائش والألياف وأوراق الأشجار وقطع القماش المبللة.. إلخ.
كما أن شركات أخرى مختصة في الدعاية والإعلان درست إمكانية استغلال هذه الفضاءات للحملات السياسية والانتخابية بجعل المراحيض مكاناً سانحاً لوضع الملصقات ونشر الوعود والبرامج الانتخابية من أجل ربح تأييد الأفراد وكسب ثقتهم!! وهناك شركات أخرى شرعت في تزويد المراحيض العصرية بماكينات لطباعة الورق الصحي وبشاشات حائطية وأرضية وبأجهزة الكومبيوتر لولوج الأنترنت، إلى جانب الهواتف اللاسلكية والسماعات.
الأكثر من هذا أنه يُنظم في الولايات المتحدة وبريطانيا وكندا “أسبوعاً قوميّاً للقراءة في المراحيض” خلال منتصف شهر يونيو من كل عام، وهي مناسبة تستغلها دور النشر والمكتبات لترويج القصص المصوَّرة والقصص الهزلية المخصَّصة لهذه الفضاءات.
غير بعيد عن ذلك، وفي جانب متصل بالغرافيتي Graffitis، شكلت المراحيض – وعلى الخصوص الشعبية منها – متنفساً لكثيرين بلجوئهم إلى جعل حيطان وأبواب المراحيض مساحات لكتابات تعبيرات وشعارات في الحب والسياسة والتمرُّد بعيداً عن أعين السُلطة، وكذا وضع الخربشات والتواقيع وأرقام الهواتف والرسوم الساخرة وغيرها، على منوال ما نصادفه على الطاولات المدرسية وحيطان الميترو والدروب الشعبية.. وغيرها.
من المشاهدات المضحكة ذات الصلة، حدث مرَّة بمحطة الحافلات في مدينة جنوبية أن ظهر شخصٌ أبطنٌ وبطينٌ يتحرَّك ببطء مثير، يتململ يميناً ويساراً قاصداً مرحاض عمومي حاملاً كمشة من الجرائد، يجرُّ رجليه اللاصقتين على الأرض من فرط سمنته وبدانته. هو هكذا اعتاد دخول المرحاض بعد أن يمتلئ بطنه ويكتظ من الشبع، كتلة بدنية كبيرة تشغل الفضاء لحماً وشحماً، يتجرَّد من سرواله الواسع، يُشتت الأزرار، ثمَّ يُسَوِّي جلسته فوق كرسي المرحاض، ليُرسل بعد ذلك بثوانٍ معدودة أصواتاً جسدية مرعبة طرطرة وطزطزة “معطَّرة” بروائح كريهة تزكم الأنوف وتخنف النفوس!!
– أوووووف!!؟
بهذه العبارة، غادر صاحبنا المكان ببطنه المنتفخ، وهو يتصبَّب عرقاً بعد أن تخلص من مطحونات كثيرة كانت تحتل جوفه وتعطل حركته البطيئة وتزيد من وزنه الثقيل. فلا أحد يستطيع من بَعده ولوج المكان.. لا أحد يستطيع.. لعلكم تدركون السبب!!
مِبْوَلَة مارسيل دوشامب
في مجال الفن يصعب الحديث عن المراحيض دون الحديث عن مِبْوَلَة فنان الدادائية مارسيل دوشامب M. Duchamp الـمِـبْولَة Urinoir المسمَّاة “نافورة”- 1917، والمصنوعة من الخزف الأبيض، حيث مثلت ثورة على القيم والأذواق البورجوازية السائدة في أوروبا آنذاك، والتي أرسلها دوشامب في عام 1917 باسم رمزي هو ريتشارد مت R. Mutt للمشاركة في المعرض الفني الأول الذي نظمته جمعية الفنانين المستقلين بنيويورك خلال نفس العام، لكن لجنة الانتقاء رفضتها وكان دوشامب أحد أعضائها!!
لم يتم الاعتراف بهذه الـمِـبْولَة كقطعة فنية سوى خلال أربعينيات القرن الماضي، اختفت بعد ذلك عن الأنظار، ويجري عرض نسخ منها مقلوبة في بعض الغاليرهات والمتاحف العالمية. لقد أراد دوشامب من خلال هذا العمل الموسوم بكثير من القصدية تحدِّي الفكر التقليدي حول الإبداع، ليس عبر الكتابة ومتاهاتها الكثيرة، ولكن عبر هدم الفن وإعادة الاعتبار للهامشي واللامفكر فيه.. وهنا كانت تكمن عبقريته..
هذه القطعة الخزفية البيضاء الناصعة، المصنفة ضمن الأشياء الجاهزة Ready Made، ستعود إلى الواجهة الفنية من خلال الفعل الغريب الذي قام به الفنان الفرنسي بيير بينونسيلي P. Pinoncelli سنة 1993 أثناء تدشين متحف “مربع الفن” بمدينة نيم، وذلك بلجوئه إلى التبوُّل مباشرة في مِـبْولَة دوشامب، أداء مفاجئ اعتبر تخريباً وجريمةً قادته إلى المحاكمة والسجن.
ما قام به بينونسيلي أحدث ضجة كبرى وسط جمهور الفن وأثار جدلاً واسعاً لدى النقاد في تصنيف هذا الفعل الذي عَدَّهُ صاحبه (هابينينغ) جديداً “يمتد” لعمل دوشامب الذي ظهر ثائراً ضدَّ الفن الحديث وظلَّ مرفوضاً لسنوات من قبل متاحف الفن..
إلى جانب ذلك، يجدر بنا استحضار “معرض البُراز” الذي احتضنه قبل أعوام قليلة متحف بويماس فان بوينينغن في مدبنة روتردام الهولندية، وقد تضمَّن منحوتات بُنية ضخمة مصنوعة من البُراز أبدعها فنانون هم فولفغانغ غانتنر، علي جانكا، فلوريان ريثر وتوبياس أوربان. وقد تمَّ تنصيب ووضع هذه المنحوتات العملاقة فوق سجادات فارسية الصنع ويأتي الزوار لمشاهدتها بعد ارتداء بدلات مصمَّمة على شاكلة أجساد عارية مهداة من طرف إدارة المتحف، وذلك بغرض إدماجهم في المشهد المفهومي العام للمعرض. فضلاً عن تجارب مماثلة، منها تجربة الفنان الإيطالي بيير مانزوني الذي قام عام 1961 بتعليب برازه وعرضه للبيع باسم “براز فنان”، تجربة الفنان الكندي/الصيني تيرينس كوه الذي قدَّم في بازل عرض عام 2007 صناديق زجاجية احتوت على قطع من برازه بعد أن طلاه بالذهب، تجربة فنان الغرافيتي كاتسو الذي اشتهر باستخدام برازه الشخصي في رسم البورتريهات (2015)، تجربة النحات الإسباني سانتياغو سييرا المختص في المنحوتات المصبوبة من البُراز، تجربة الفنانة الكوبية راسوا التي قامت عام 2005 بدهن واجهة بيت بالبُراز الممزوج مع مواد لامعة، ثمَّ تجربة المصمِّم الفني ديفيد آدي صاحب حذاء برادا المصنوع من الراتينغ والمتضمن أسفل الكعب براز الفنان، دون الحديث عن أعمال كثيرة أنجزت بواسطة روث وبراز الحيوانات وبعر الماعز.. وغير ذلك كثير.
وفي مجال السخرية الفنية، أنجز فنانون عالميون تصاميم لمبولات حائطية في هيئة أفواه قادة وشخصيات من عالم السياسة وجعلها مكاناً للتبوُّل، بقدر لجوء شركات أجنبية إلى طباعة بورتريهاتهم على الورق الصحي وتوزيعه بالمجان نيلاً وانتقاماً منهم ومن سياساتهم الفارغة!!
المراحيض في الثقافة الشعبية
للمراحيض – أو الكراسي المثقوبة – طقوس كثيرة تحبل بها ثقافات وتراث الشعوب، من ذلك ما جاء في بعض المدوَّنات والكتب الهندية القديمة حيث يربطون الفحولة والرجولة بمعدل استعمال المرحاض ويَعتبرون التغوط النادر رمزاً للقدسية وتحظى المراحيض لديهم بمنزلة عالية لدرجة أنها تعد في معتقدهم أكثر أهمية من المعابد. أما في مصر القديمة، فقد كان للموتى “مراحيضهم” التي تُدفن معهم/ كما كشف عن ذلك البحث الأركيولوجي في أكثر من منطقة.
وفي الثقافة الإسلامية، تُعد المراحيض “أماكن يحضرها الشياطين” ويرصدونها بالأذى والفساد، لذلك وضعت أدعية كثيرة لدخول المرحاض وخروجه، منها الدعاء التالي: “بسم الله وبالله أعوذ من الرجس الخبيث المخبث الشيطان الرجيم”، إلى جانب الكثير من الشروط والأحكام والإرشادات التي تدخل ضمن ما يُعرف بـ “آداب قضاء الحاجة”، منها حُسن اختيار المكان في الخلاء، عدم ذكر الله عند قضاء الحاجة، تحريم استقبال القبلة واستدبارها في الفلاة، استخدام اليد اليسرى في الاستنجاء، تفادي استقبال الريح خلال التبوُّل، الخروج بالرجل اليمنى وقول عبارة “غفرانك”.. إلخ.
في الأمثال الشعبية المغربية، حضر الحزاق والبول والبراز ضمن تعبيرات وسياقات عديدة قد نتفق معها وقد نختلف، منها ما يأتي:
– لَحْزَاقْ مَا يْفَكْ مَنْ المَوتْ. يُضرب في شدَّة الخوف والارتعاد الذي يُصيب الخائف خلال موقف ما.
– مَا حَسْ الذيبْ غِيرْ بَحْزَاق النَّعْجَة. وفي صيغة أخرى: مَا هَمْ الذيبْ غِيرْ حْزَاق النَّعْجَة المغشُوشة. يُقال لمن يمنح شخصيته الضعيفة قيمة ومكانة غير مستحقة.
– لَمْضَادَّة عْلَى لَحْزَاقْ تْخَرِّي. سياق المثل المنافسة الغير محسوبة العواقب.
– اضْرَبْ لَمْرَا حتى تبُولْ واللِّي فْرَاسْهَا مَا يْزُولْ. يُضرب في عناد النساء.
– فلان مَا يْبُولْ على يَدْ مجرُوحة (في صيغة مماثلة: فْلانْ مَا يعطي بَوْلُو للتراب). يُقال في البخل والأنانية.
– مَا تَفْرَحْ بالرزق حتى تَخْرَاهْ. يُضرب في التريث وعدم التسرع في إصدار الأحكام إلاَ بالأدلة والحجج.
– العطار كايْشَمْ غير رِيحَتْ حَانُوتُو. في إشارة رمزية لمن “يَحْزَق” وسط الجماعة ويكون أول من يسأل عن فاعلها.
وصلة بالأحلام والمعتقدات الشعبية المصاحبة لها، ترمز رؤية المرحاض في المنام بالنسبة للبنت العزباء إلى الفرج والراحة خصوصاً إذا ظهر نقيّاً ونظيفاً. أمَّا إذا كان عكس ذلك، فإن الأمر يرمز إلى وجود عراقيل وتعقيدات في الحياة. كما أن رؤية البول في المنام تدلُّ على وجود إمكانات للتغلب على المشاكل والهموم!!
كما نالت المراحيض والمِبْوَلات قسطاً وافراً في الأدب الساخر والمسلِّي، لاسيما النكتة الشعبية التي صوَّرت مجموعة من الأحداث والمواقف المضحكة المتصلة بعالم المراحيض وقضاء الحاجة، منها النماذج التالية:
– في عالم الحيوانات، حدث أن بلغ إلى علم الأسد ملك الغابة شكاية جماعية مفادها أن ثعلباً ظالماً يعادي على الأرانب الصغيرة النقية بجعلها مناشف لمسح سوءته عقب التغوط، فكان الحكم عليه قاسيّاً – كان الله في عونه – بجعله يمسح مؤخرته بالقنافد لمدة خمس سنوات، وبدون انقطاع!!
– خلال مسابقة عالمية خاصة بتقديم أسرع شيء ممكن تصوُّره في تاريخ البشرية، تقدَّم في النهائي ثلاثة مترشحين: أمريكي اقترح سرعة الضوء وروسي بادر باقتراح سرعة الضوء معزِّزين ذلك بأدلة وبراهين علمية وتكنولوجية دقيقة، ومغربي أبهر الجميع بمقترحه الخاص بالإسهال Diarrhée الذي يُصيب المعدة والمعروف لدى العامة بـ “اسْرِيسْرَة” في إشارة مضحكة لمن “تَتَسَلَّطُ” عليه بغثة ويذهب بسببها ملتهباً نحو المرحاض وفي سرعة جنونية تفوق سرعة الضوء والصوت وما جاورهما!!
– يُحكى أن أحدهم تسلل لمطعم تابع لأحد الفنادق المصنفة وتناول وجبة عشاء خفية وقام بالانسلال دون أداء، لكن أحد الحراس تبعه وألقى عليه القبض لتحكم عليه إدارة الفندق بتنظيف كل المراحيض. ولما قام بهذا الواجب مقابل إخلاء سبيله، رافقه الحارس لتوديعه عند مخرج الفندق وخاطبه بعد أن شكره: متى نراكم؟ فكان جواب المسكين كالتالي: “حتى يكثر خ…….اكم”!!.
– نختم بهذه النكتة التي تتعلق بإثنين ربحا مسابقة نظمتها إحدى الإذاعات، وكانت جائزتهما قضاء ليلة بفندق من صنف خمسة نجوم. ولما التقيا في الصباح لتناول وجبة الفطور تبادلا الحديث عن ظروف مبيتهما فتركز حديثهما حول مرحاض الأوطيل. قال الأول: قضيت حاجتي البارحة في أحسن ظرف عشته في حياتي حيث تمَّ ذلك على إيقاع موسيقى رومانسية هادئة. وقال الثاني، أنا عكسك تماماً. قضيت الحاجة واقفاً، لقد أخطأوا في برمجة المادة الموسيقية وأطلقوا لي النشيد الوطني!!
بقلم: إبراهيم الحَيْسن