في رحاب فكر عزيز بلال -الحلقة 16-

عزيز بلال

التنمية… ما لا تقوله الأرقام!

عندما نتحدث عن التنمية، تتبادر إلى الأذهان مؤشرات اقتصادية باردة: نسب النمو، معدلات الاستثمار، أرقام الإنتاج… لكن هل تختزل هذه الأرقام حقيقة التنمية؟ ولماذا تفشل العديد من الدول، رغم الخطط والاستراتيجيات، في تحقيق إقلاع اقتصادي حقيقي ومستدام؟
في قلب هذا الجدل، يبرز فكر عزيز بلال، الاقتصادي المغربي الذي لم ينظر إلى التنمية كمعادلة حسابية، بل كمشروع مجتمعي تحكمه تفاعلات اجتماعية، ثقافية، وأيديولوجية، لا تقل أهمية عن العوامل الاقتصادية. في كتابه “التنمية والعوامل غير الاقتصادية”، يقدم الأستاذ عزيز بلال طرحا نقديا لواقع التنمية في دول العالم الثالث، كاشفا عن الروابط الخفية بين الاقتصاد والسياسة، بين التراكم الرأسمالي والتبعية، وبين الصناعة والهيمنة التكنولوجية.
تجدر الإشارة إلى أن هذا الكتاب صدر أصلا باللغة الفرنسية، وترجمه للغة العربية الأستاذ نور الدين سعودي، وراجعه الأستاذ محمد شيكر، وقام بالتنسيق الأستاذ أحمد أوبلة.

عزيز بلال وصراع الرؤى داخل الاقتصاد التونسي

نواصل في هذه الحلقة قراءتنا في الفصل الرابع من كتاب “التنمية والعوامل غير الاقتصادية” للمفكر الاقتصادي عزيز بلال، حيث استعرضنا في الحلقات السابقة تجربة التنمية في كل من المغرب والجزائر، مع التركيز على العوامل غير الاقتصادية التي أثرت في مسارات التنمية بهذه الدول بعد الاستقلال.
تناولنا في البداية التحديات التي واجهها النموذج المغربي، خاصة إشكالية التبعية الاقتصادية والاختيارات التي تبنتها الدولة لتطوير اقتصاد مستقل، كما سلطنا الضوء على التجربة الجزائرية، التي قامت على استراتيجية تصنيع موجهة، غير أنها اصطدمت بمحددات هيكلية أضعفت فعاليتها.
وفي هذه الحلقة، ننتقل إلى النموذج التونسي، حيث نتناول التحولات التي شهدها الاقتصاد التونسي بين عامي 1962 و1969، من سياسة ليبرالية إلى تجربة تنموية مرتكزة على التعاونيات، وهي تجربة طموحة لكنها ستواجه تحديات كبيرة ستؤدي في النهاية إلى أزمتها سنة 1969.
سنحاول الوقوف عند دوافع هذا التحول، وصراعات الفاعلين الاقتصاديين، والآثار التي ترتبت عن هذا المسار على التنمية في تونس.
ويرى المفكر الاقتصادي عزيز بلال أن تونس انتقلت من تبني سياسة اقتصادية ليبرالية إلى خيار تنموي موجه، اعتمد على التعاونيات والإصلاحات الزراعية، مع تعزيز دور الدولة في مختلف القطاعات الاقتصادية.
وقد جاءت هذه التحولات، حسب عزيز بلال، تحت إشراف أحمد بن صالح، الذي سعى إلى تحقيق استقلال اقتصادي وتقليص التبعية للأسواق الخارجية عبر إنشاء وحدات إنتاجية كبرى في إطار شركات وطنية أو مختلطة.
لكن المفكر الاقتصادي عزيز بلال يؤكد أن هذه الإصلاحات واجهت صعوبات بنيوية، أبرزها التوتر بين توجه الدولة نحو تركيز الموارد في أيدي المؤسسات العمومية، وبين مقاومة الفاعلين الخواص الذين اعتبروا هذا النهج تهديدا لمصالحهم الاقتصادية.
ويشير عزيز بلال إلى أن هذه التناقضات ساهمت في اندلاع أزمة اقتصادية حادة بحلول نهاية 1969، خاصة مع محاولة تعميم النهج التعاوني على القطاع الزراعي.
من خلال تجربة تونس التنموية، رأينا كيف أدى التوجه نحو نموذج تعاوني موجه إلى مواجهة تحديات عميقة، حيث تصادمت الإرادة السياسية مع مصالح الفاعلين الاقتصاديين التقليديين، ما أسفر عن أزمة بنيوية في أواخر الستينيات.
هذه التجربة، تبرز مجددا الإشكالية المركزية التي تواجه البلدان السائرة في طريق التنمية: كيف يمكن تحقيق تحول اقتصادي عميق دون الاصطدام بتوازنات القوى الاجتماعية والاقتصادية القائمة؟
في الحلقة القادمة، سنعود إلى السياق المغربي لنواصل تتبع مسار تشكل البورجوازية الوطنية، بين التبعية الهيكلية لنمط الإنتاج الرأسمالي العالمي، ومحاولات الاستقلال الاقتصادي. كيف ساهمت التحولات التاريخية، من الاستعمار إلى الاستقلال، في صقل ملامح هذه الطبقة؟ وما حدود قدرتها على تشكيل نموذج تنموي وطني مستقل؟ هذا ما سنناقشه في الحلقة المقبلة.

< إعداد: عبد الصمد ادنيدن

Top