“بلاش” هو الديوان الزجلي الرابع للزجال ميمون الغازي المغترب بفرنسا، صدر سنة 2016 عن منشورات بيت الشعر المغربي وبدعم من وزارة الثقافة المغربية، بعد ديوان “خيط من شتا” سنة 2010، وديوان “ما يمكنش نكون أنا” سنة 2013، و”علاش أنا ماشي هو” سنة 2014.
يتضمن الديوان ثماني قصائد طويلة: “بغيت حقي في الريح”، و”من الرماد جات الحياة”، و”فين تمشي ليام”، وقصيدة صمت على روح شاعر مات قبل دقيقة”، و”كون بلا كاف بلا نون”، و”ياك أنا غي قصيدة كتبني الله”، و”أجيو انحسبوا النجوم” و”الظل الذهبي أو شبيه الشمس” وهي قصيدة مهداة إلى الزجال إدريس أمغار مسناوي بمناسبة تكريمه في الملتقى الثالث للزجل بأبركان، بالإضافة إلى دراسة تحليلية تصدرت الديوان، بقلم الناقدة هاجر أكنيز.
تنحو هذه القصائد جميعها منحى متشابها، وتؤلف معنى واحدا بالرغم مما تبدو عليه عناوينها من اختلاف ظاهري، فهي لا تخلو من تذمر الشاعر من الحياة وامتعاضه من زيفها، وشكه في كل ما اعتبر مسلمات وبدهيات، وبهذا تكون قصائد الديوان كلها، إذا ما استثنينا تلك المهداة إلى إدريس أمغار مسناوي، عبارة عن صورة كبرى تنبثق من رحمها عدد من الصور الفرعية الأخرى على امتداد النصوص الشعرية، وهي صورة العبث بمختلف أشكاله وتجلياتها، صورة يترجمها ضمير حي يأبى الهوان والخنوع، فظل يهتف بحقه “بغيت حقي في الريح” حتى وإن كان هذا الحق وهذا الطلب غير ذي جدوى، “ريح” كما تتصور ذلك الجهات المطلوبة، ويتساءل عن مآل الإنسان داخل عالم يطبعه الغموض واللايقين “فين تمشي ليام”، بعد أن حولته الأيادي القذرة عن ناموسه وزاغت به عن سكته الصحيحة، فأصبح “كون بلا كاف بلا نون” متروكا لتحكم الأهواء الشخصية وسلطة الأقوى والأصلح. وأمام هذه الصور العبثية لا يملك الشاعر إلا أن يعود إلى القصيدة، فهي صوته وسلاحه القادر على التغيير وبناء حياة جديدة “ياك أنا غي قصيدة كتبني الله” غير أن هذه القصيدة ترتطم أحيانا بكثير من العوائق والعراقيل التي تحد من فعاليتها، فيكون الصمت حينئذ أبلغ كما أومأ إلى ذلك عنوان الديوان “بلاش”، وبهذا المعنى الذي يؤلفه العنوان تظهر تلك اللحمة القوية بينه وبين عناوين القصائد ومضمونها القائم على ثنائية القصيدة والحياة، وتتأكد تلك الصورة البلاغية الكبرى التي أشرنا إليها سابقا، والتي تشكلها القصائد مجتمعة.
عبثية الحياة
اتخذ هذا العبث صورا متعددة في الديوان، فمن مصادرة الحقوق إلى العلاقات الاجتماعية المتوترة ومتاهات الحياة الكثيرة التي باتت تشكل مصدر قلق يومي لدى الإنسان، إلى انتشار العلل الاجتماعية المختلفة من كذب ونفاق وزور وتطاحن، كما يرصد ذلك الشاعر في الصفحة 38 “بلاد/ ياجوج وماجوج/ جماجم الحقد والكراهية القتل البغض الحسد الثأر/ الانتقام/الكذب الزور النفاق”، وفي الصفحة 94 “من حيث/ التراب غدار/ يشرب الدم/التراب قتال/ التراب نمام/ التراب كذاب/ يموت ع الحرب/و/ ياكل لحم بنادم اخضر”.
ففيما يتعلق بالإجهاز على الحقوق والمكتسبات الطبيعية للإنسان، فإن الشاعر لا يتوانى في الجهر بها والمطالبة باسترجاعها، وانتزاعها ممن صادروها، هؤلاء الذين استحوذوا على البر والبحر، والسماء والأرض، ولم يتركوا للمواطن البسيط غير الفتات، وذلك ما يظهر من خلال تكرار عبارة “بغيت حقي..” في عدة مقاطع شعرية “بغيت حقي فالريح…/بغيت حقي ف النجوم…/بغيت حقي فالتراب…/بغيت حقي فالجبال…/ بغيت حقي ف الشتا…/بغيت حقي ف الشمس” ص 27/28، وهي حقوق تكفلها الطبيعة، أوجدها الله سبحانه وتعالى كمقومات للحياة والوجود الإنساني (الريح، الشتا، النجوم، التراب، الجبال، الشمس…) بما يعني أن الشاعر لا يطالب إلا بتحقيق وجوده، فمسألة الإنسان في مجتمعاتنا مسألة وجود وليست مسألة حقوق، فهو لم يصل بعد إلى تحقيق ذاته من خلال ضمان حريتها ومكانتها في المجتمع، أو المطالبة برفع التهميش والإقصاء عنها واستفادتها من ثروات أوطانها. إن الشاعر من خلال هذه المطالب يصور، وبشكل كاريكاتوري، حقيقة الوضع الذي يعيشه الإنسان في مجتمعاتنا، هذا الإنسان الذي لم يستطع أن يضمن حقه في الوجود وفي الطبيعة كما شكلهما الخالق.
ولم يقف الشاعر عند رد المظالم وإرجاع الحقوق إلى نصابها، وإنما يطالب بمحاسبة هؤلاء عما اقترفوه من ذنوب في حق المواطن، وهو آخر مطلب في قائمة مطالبه، يقول “بغيت نحاسبكم/ ناخذ حقي منكم” ص 29. ولكن هل الأمر ممكن؟ وهل أطوار المحاسبة والمحاكمة ستؤدي نتائجها؟ إن تجذر الفساد في مجتمعنا، وتناسل المفسدين، يلزمهما الكثير من الوقت والنضال، فقد يقضي الشاعر ولا تنقضي بؤر الفساد وأهله، والشاعر يدرك ذلك تمام الإدراك وهو ما صاغه في قوله: “باش نحاسبكم/ يخصني عمر ثاني/ ما يقدنيش هاذ لعمر” ص 29، والحل الأمثل في نظره هو أن يعي المواطن محيطه، ويكون على بينة بما يتربص به، ولكن كيف؟
فبعد أن عبر الشاعر عن مطالبه التي تعتبر مطلبا إنسانيا، وجدناه يتوجه بالخطاب إلى الآخر، يفتح بصره على ما يحدق بإنسانيته، وفي مقابل ذلك يستنهض هممه، ويدعوه إلى الانفتاح على الحياة في جماليتها، هذه الحياة التي تبدأ من الذات التي تختزن في أعماقها كل ما هو جميل.
إن الشاعر يعمد إلى صنع حياة فضلى وعمر أفضل، غير أن منغصاتها الكثيرة كانت تحول دون ذلك، منغصات تبدأ بالبيت وشريكه، وتنتهي بالآخر الذي يحمل في صدره غلا للذين نجحوا في مساعيهم، فمنا من لا يروقه نجاح الغير، فتدعوه ساديته إلى زرع الأشواك في طريق الناس، والاحتفاء بعثراتهم.
لقد سئم الشاعر هذه السلوكات، وعبر عن رفضه لصور العبث ومظاهره، فوجدناه يصب جام غضبه على هذا الزمان، غضب يظهر من خلال سعيه إلى صنع لحظته، وإيجاد زمن خاص به يفصله على مقاسه، يقول: “اللحظة نصنعها بهوا على هوايا/ برغبة مجنونة” ص 94، لأن الزمن الطبيعي آلم الإنسان وجرعه المرارة، إنه يتوق إلى كون أفلاطوني مثالي مغاير للكون الطبيعي، إنه كون بلا كاف ولا نون، كون عناصر بنائه الخيال، ولكي يتخلص الشاعر من هذا الزمن الرديء، ويحيا هذه اللحظة التي يحلم بها، يرى وجوب موت العالم، يقول: “يمكن نخرج من قبري/ شي لحظة/ يوقف فيها الوقت/ يتشرنق الموت/ والخلود ما يكون إلا/ إذا ماتت اللحظة” ص 105، وهو في هذا يسلك مسلك شعراء الحداثة ويوظف بشكل ضمني أسطورة الفينيق.
في تمجيد القصيدة
ليتجاوز الشاعر هذا العبث، وليضع حدا لكل هذه المنغصات، يدعونا إلى إطلالة على ذواتنا، ووعيها وكشف مغلقاتها، فمنها يبدأ المسير وينطلق البناء، وبها تسمو حياة الانسان، ففيها “كنوز من العلم، كنوز من الأمل من الحب من الصدق/ من الثقة من الذكريات من الحنين” ص38، وهذه الاطلالة لا تتم إلا عن طريق سلم العلم، فهو الكفيل لسبر أغوارها وإضاءة مجاهلها، يقول الشاعر”جنة نارك ونار جنتك/ ف ذاتك/ افتح باب قلبك للضو/ تضوي وتهوي/ غيرانك المعتمة بالجهل” ص 39، فالذات الانسانية سجن الفرد وفردوسه في الآن نفسه، وما على الفرد إلا أن يختار المنزلة التي يريد.
لقد آمن الشاعر بجدوى القصيدة والشعر في الخروج من اللحظة الحالية، فهما يختزنان قوة وطاقة قادرتين على صنع اللحظة وتغيير الحياة، لذلك نجده يمجد الذات الشاعرة، لكونها تنتشل الإنسان من الكدر، وتخرجه من متاهات الحياة، وتأخذه إلى عالم الجمال.
إن الشاعر عند ميمون الغازي رديف النبي الذي يورث العلم وينشر الحكمة، ويخرج الناس من الظلمات إلى النور، إنه البوصلة التي تقود الإنسان إلى بر الأمان في عالم يتعرض فيه الفرد إلى البلى، ويعلوه الصدأ كقطعة حديد أنهكتها الرطوبة، يقول: “…حروف/ من نار تطير/ تهزك لمقام علوي/ وهي خارجة من لسان نبي/ حكمة..كلمة.. وحي/ ترعد/ تعصف تقصف/ توصف تنصف/ تهزك وتحطك”ص63.
والقصيدة هي معجزة هذا الشاعر/ النبي منحه الله إياها لينشر النور في هذا العالم، وليتخذها سلما لارتياد الآفاق، وخلق اللحظات الجميلة التي يتوق إليها كل إنسان، يقول: “قصيدتي نبوءتي/ لغتي معجزتي” ص 79.
وإذا كانت المعجزات عموما منقذة الإنسانية من الضلال والظلام ومنجاة لها من الجاهلية، فإنها بالنسبة للشاعر قناة لاكتشاف صور وضاعة الحياة وعبثيتها، وتفاهة الإنسان فيها، صور عصية على نفس الشاعر ورهافة إحساسه، لذلك نجده يعود ليدين هذه المعجزة/ اللغة التي لم تزد الشاعر إلا ألما، وخاصة في عالم تراجع فيه الحرف، واستقالت اللغة، وبقي الشاعر وحيدا في الساحة يصرخ ولا من مستمع أو مجيب. يخاطب الشاعر اللغة قائلا: “ضحكت عليا/ وقلت ليا/ نموت عليك/ احييتيني/ مت انتيا وبقيت أنا بلا بيك” ص 91.
فبالحرف ومع الحرف تستمر الحياة، ويقوم العالم وتسعد الإنسانية: “حروف من طين/ تنبت نخلة/ ف كف عالم/ يحملها يسقيها بخياله/ يشكلها كون ولون/ يكشف بها أسرار الكون/ يصحح بها أعطاب التاريخ/ يوقف نزيف الأرض” ص 62، وكأن بالشاعر يعلق كل المآسي والأعطاب التي يعرفها العالم على غياب الحرف. فهل غاب الحرف فعلا، ورفعت الأقلام وجفت الصحف في عالم يعتبر العلم سمته الغالبة، وتشكل التكنلوجيا أحد أوجه قوته؟
في الظاهر، لا يمكن إنكار سلطان العلم وحضوره القوي في حياتنا، غير أن هذه القوة وهذا السلطان تشكله العلوم الدقيقة، ومعها التكنلوجيا في شتى مجالات الحياة وبمختلف أوجهها من مواصلات واتصالات، وطب واقتصاد… أما العلوم الإنسانية التي تهتم بالإنسان في جوهره، والتي تعمل على بنائه البناء الأمثل من حيث تهذيب أخلاقه وتلطيف إحساسه، وتأصيل مبادئه وقيمه فإن بريقها بهت، ومساحتها تراجعت، ولعل هذه هي العلوم التي يشكو الشاعر غيابها، وهذا ما يحيل عليه قوله: “هاك حروف من خيال/ ساكتة/ ناعسة ف اللسان/ ازرعها ف صفحة بيضة/ تنبت تخضَر تزهَر/ تصنع الإنسان/ هاك لحروف اكتب/ بعفوية اصغير/ بعقل مجنون/ اسرح/ بخيالك/ اكتب/ تصنع لعجب” ص 64/65. ولا شك في أن العلوم التي تمتاح من الخيال، وتصنع الإنسان هي العلوم الإنسانية، والأدب والشعر أحد فروعها. ويتأكد هذا الأمر في موضع آخر، يجعل فيه الشاعر وجدان الشعراء مصدر هذه العلوم: “حروف/ تدمع م الورد مداد/ تقطر ما(ء)/ من وجدان شاعر” ص 61.
إن الحرف عند ميمون الغازي معادل موضوعي للحياة، بل هو إكسيرها، وهو صانع تاريخ البشرية ومعبر الإنسان نحو الحضارة لهذا نجد الشاعر يجمع بين الحرف والضوء، ويوظف هذا الأخير بشكل لافت كما يتضح من الحقول المعجمية لعدد من القصائد، فيستعمل: الشمس، القمرة، الجنة، الضوء، شمعة، النهار، النجوم..مما يعني أن غياب الحرف يفسح الطريق للظلام الذي ليس إلا مرادفا للجهل، فيختلط الحابل بالنابل، ويظهر المفتون بالحلال والحرام، وتلك أكبر فتنة تعيشها مجتمعاتنا، يقول: “تخلطات لوراق، أوراق الله/ أوراق السعد/ أوراق النكد/ اخسرنا جوج مرات/ خسرنا جوجخسرات/ اخسرنا بجوجكذبات/ الأولى حلال/ الثانية حرام” ص 187.
ولكي يكون هذا الحرف ناجعا، وجب إيلاؤه الأهمية البالغة، وإحسان اختياره، فليس بإمكان أي حرف أن يضطلع بكل هذه الأدوار، ويقوم بكل هذه الوظائف، وهذا ما نبه إليه الشاعر في قوله: “غربل حرقك مزيان/ اختار ليك/ حرف مقوزح/ منغَم مَوسق/ على تبوريشت الكمان” ص 119، وأما إذا أهمل هذا الحرف ولم يعتن به، انقلب إلى ضده وصار وبالا على صاحبه ومبعثا للألم، يقوده إلى المهالك ويجر عليه الويلات كم افي هذه الصورة “الحرف/ شوكة ف لسان” ص 118. وفي هذه الحالة يكون الصمت أفضل، وتعبيرا أبلغ، يحمل إشارات قوية لمن يهمهم الأمر، فقد يكون في الإشارة ما يكفي من الكلام، يقول الشاعر: “السكات عفيف كيف عذرا(ء)/ بعمر غزال/ غمزة من حاجب هلال/ السكات/ كافي على شواري كلام خاوي” ص 78. لذلك لا يجب أن يفهم صمت الشاعر أو ما عبر عنه في عنوان الديوان “بلاش” رضوخا للأمر الواقع، أو هروبا منه، وإنما هو صمت الحكماء/ الشعراء الذي يسبق العاصفة.
خلاصة القول إن ما عبر عنه الشاعر ميمون الغازي في هذا الديوان من قلق وجودي إزاء عبثية الحياة، وما قلد به الشعر والشعراء من مهام جسيمة في رأب الصدع، وبناء مستقبل أجمل تسعد فيه الإنسانية، حمل همه في دواوينه الثلاثة السابقة، وأفاض في الحديث عنه من خلال أسئلة فسلفية، تعكس رؤية الشاعر للإنسان والحياة، مما يبيح لنا الحديث عن مشروع فكري ورؤيا إبداعية لدى الشاعر، لا شك في أنها ستثمر أعمالا أخرى في القادم من الزمن ما دام درب النضال في سبيل إسعاد الإنسان طويلا.
بقلم: محمد رحو