قراءة في ديوان “حمالة الجسد” لإيمان الخطابي

عن منشورات بيت الشعر بالمغرب، صدر للشاعرة إيمان الخطابي، ديوان (حمالة الجسد). بداية يستوقفنا العنوان، الذي يحمل  في صدره معاني الوطأة والثقل والجسامة، والتي زادها وقواها، حضوره على صيغة المبالغة ( حمالة )، وفعل الحمل مرتبط في دلالته بالمشقة والمعاناة، وهذا ما نجده في القرآن بكثرة، حيث ورد في سورة العنكبوت الآية 13 “وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ” ،يحضر الحمل مقرونا بالأثقال والأوزار التي تتمثل عند الشاعرة في الجسد، فهي حمالة الجسد، وليس الجسد هنا ذلك الجسد المادي الفيزيقي الذي هو في حالة الحياد، إنما ما يترتب عن هذا الجسد من منظومة مغلقة وجاهزة من القيم، و أحكام  قاسية، وصورة نمطية متوارثة ،مما يجعل من الجسد حملا ثقيلا تنوء بأوزاره الروح، فالجسد يصبح عبئا في ارتباطه بالإرث الثقافي، لأنه محمل بما يقيد أفقه، وبما تمليه الجماعة وتواظب على حراسته وبالتالي ترسيخه وتوارثه، وهنا مكمن العبء ومصدر الثقل، وهذا العنوان هو في الأصل عنوان إحدى قصائد المجموعة، هذه القصيدة التي تتصدرها جملة دالة: ( نحتاج أن نكون أحرارا لنعرف من نكون )، فالحرية شرط لإنشاء المعرفة، المعرفة بالذات، أما في حالة العكس، فإن الذات تتحلل وتنمحي في الجماعة، حيث تغيب الخصوصية والأصالة والتفرد، إذ أن الجماعة هي التي تخلق للذات شكلا جاهزا، ودورا متعاليا تتحرك في أفقه، وتنصاع لحدوده وفق شروط معينة، ووظائف محددة، وبالتالي فالذات لا تنتج معرفة بل تتلقى المعرفة من خارجها جاهزة، فهي معرفة تخص الجميع وفي نفس الوقت لا تخص أحدا بعينه وذاته، ومن هذه النقطة يبتدئ عمل الشاعر ، حيث يسعى للتخفف من ثقل الموروث المعرفي، والتحرر من وزر النظام الجماعي، عن طريق الخلق والإبداع الذي يتنافي ويتضاد مع أية قيود أو حدود:
حدود
عند عتبة الباب
يد خطت فاصلا وأشارت:
هنا ينتهي العالم
وتبتدئ الغابة
فاليد الفاعلة هنا، أي التي تخط الحدود والفواصل، هي يد من؟ إنها يد مجهولة، إنها تلك القوة الخفية التي تعمل على تمرير مجموعة من القيم الصريحة والمرموزة على شكل قواعد ومحظورات، والتي تتشربها الذات وتتبناها عن طريق التنشئة ..
فالعالم الذي خطته هذه اليد، هو عالم الانسجام الظاهر، والائتلاف السطحي الذي يستبطن تصدعات وانهيارات، فهو منسجم ظاهريا ومؤتلف سطحيا بحكم التكرار والعادة، إنه عالم الثقافة الموروثة، لذلك تشير هذه اليد نفسها إلى نقيض ذلك العالم و المتمثل في الغابة، فالغابة حسب هذه القوة والسلطة هي نقيض العالم الذي أسسته، لأن الغابة كيان مستقل عن المراقبة والتقييد، لذلك فعندما ينتهي العالم الذي يمثل قيم القهر والسلطة والمراقبة ، تبتدئ الغابة التي تمثل قيم التحرر والانطلاق، والتي تعثر الشاعرة
على مثالها ونموذجا في الطفولة، بحيث تأخذ الطفولة عدة أشكال فهي : شجر ، وهي نهر، وهي قمر ، وهي ريح، تعيد الشاعرة بهذه الأشكال اكتشاف الطفولة ، من خلال ترتيبها في صور مختلفة، وتصريفها في أوضاع متباينة، بهذا تعيد الطفولة حضورها ليس باعتبارها زمنا منقضيا تتم استعادته أو أحداثا ماضية تعيد روايتها ، بل باعتبارها وعيا يمارس حضوره الدائم، وتجدده السالب لكل نسيان أو انغمار في لحظات زائفة، بسبب من تكرارها وتطابقها حد العمى، تعيش الشاعرة طفولتها في الشعر ليس باعتبارها زمنا انقضى وتوارى، بل باعتبارها فعالية وحياة وزخما يستوطن اللغة،   يقول الشاعر الانجليزي (جون بيتجيمان ) : ( يتم قياس الطفولة بواسطة الأصوات والروائح والمشاهد قبل الساعة المظلمة لنمو العقل )، فالطفولة هي اكتشاف لأشياء العالم ليس في سكونها وجمودها، بل في حركتها المتجلية في تأويل الطفل لها وشدها إلى أبعاد أخرى ، إنه اللقاء الأول بالأشياء حيث تحتفظ الدهشة بطراوتها واللحظة بصفائها، حيث تمارس الأصوات والروائح والمشاهد حريتها في التشكل والتخلق قبل أن يقيدها العقل في أنماط ثابتة وقوالب جاهزة، وهذا ما تعمل الشاعرة على مجاهدته ومصارعته، من خلال مجموعة من القيم السلبية التي تحد من فاعليتها الإنسانية في الحلم والحرية والانعتاق، مثل الخيبة والعجز والضجر واليتم والألم والسلطة، حيث يتم تجسيد هذه القيم السلبية في صور لها ارتباط بالذاكرة السردية لحكايات الأطفال مثل: ذئب الغابة وفرس الأمير والغول، طبعا يتم استحضارهم في وضعيات جديدة وعلاقات مختلفة :
كذب أبيض
وأنا ما زلت أتهجى صور العالم الأولى
كنت أسألها ونحن نطل من شرفة الليل :
ماذا خلف تلك الأضواء البعيدة يا أمي؟
تجيبني : شجر وعيون ماء،
صدقتها، واسترسلت في رأسي
أنهار حلم وضياء
فالطفلة عندما تسأل، فهي تريد جوابا لا يجعلها تسكن في اليقين وتنتهي عنده، بل لكي تسافر في التأويل وتمضي فيه ، فالطفلة لا تسأل بغرض المعرفة التي هي امتلاء وانتهاء، بل تسأل بغرض التخييل باعتباره فعالية متجددة وغير مكتملة، تسأل بغرض تحرير الأشياء في ذهنها بالتخيي- ينتظم في أشكال مناقضة للطفولة، باعتبارها لعب وحرية وانتهاك وكسر للقواعد والأعراف، حيث تتدخل السلطة التي هي عبارة عن قيم ممررة ومدمجة في الذات بشكل خفي وغير واع، لتجرد هذه القيم من تلك الذات، رقيبا أخلاقيا، يمارس سطوته وتأثيره عليها  :
امرأة
امرأة هي جذري الأوحد،
كلما هزني نرجس وبختني،
خففي الوطء كي لا تميد بنا الأرض
واخفضي الحلم بقدر جناحيك
وبقدر الهواء في الرئة الناقصة
الطفولة هي المرحلة التي تنكشف فيها أصالة الإنسان و فرادته، باعتبار تميز الطفل وانفراده بعالم من صياغته هو، عالم العفوية و الحرية واللعب والانتهاك .. أما عالم الكبار فهو عالم مصطنع ومتشابه ومقيد إلى نماذج جاهزة وقوالب ثابتة ، عالم الأدوار الاجتماعية المهيأة سلفا ، لذلك تنأى الشاعرة عن المرأة ، أي عن ذلك الدور ذي الصورة النمطية المصاغة وفق أفق الجماعة، فكلمة المرأة هنا هي دالة على دور اجتماعي، أكثر منه على كائن إنساني، دالة على صورة ثابتة ومستنسخة، ومنسحبة على الجميع، وهذه الصورة، وهذا الدور لا يمكنهما سوى أن يستبطنا ألما للذات الشاعرة، هذه الذات التي تكبر وتتسع أصلا خارج الحدود والفواصل والقيود :
_ افتقار _
صحوت اليوم
وفي نيتي أن أطير،
تفقدت عدتي
لم يكن بحوزتي
ما يكفي من حرية.
إن هذا الإحساس بالافتقار والانحسار، يغطي مجمل قصائد المجموعة، حيث تنتصب القصائد على شكل مشاهد جريحة، مشاهد بكلمات أقل وبحزن أفدح (قصيدة اعتذار ص : 52 )
إن استشراف فقدان الأشياء، هو الذي يقوي حضورها، باعتبارها موضوعات للتأمل، ومجالات لاستخلاص فائض المعنى، وبالتالي المحافظة على ديمومتها حتى وهي في حالة غياب ، فالفقدان يصبح امتلاكا، والغياب يصبح حضورا، عند تناولهما شعريا :
_ حال _
ما زلت هناك
مشدودة إلى جذع الألم
يا وجه الندم
أرني كيف يكون غدي
لو أني لم أمد يدي
أستعطف الحب
تخوض الشاعرة مغامرة استشراف الغد، واستكناه الممكن، وتوقع المحتمل، إنها مغامرة، لأنها مفتوحة على الاحتمال والشك واضمحلال اليقين، من خلال السؤال عن حال ذاتها، وكينونتها في ارتباطهما بالتحول والصيرورة، أي من خلال السؤال عن المآل البعيد ، فالذات هنا تختبر كينونتها في وضعيات جديدة، وغير مألوفة، تختبر زمنيتها غير المتحققة بعد :
_ خبرات _
ربما كثير من ورق العمر احترق ..
لكني مثل كل البحارين
ومثل كل الطيارين،
أحببت كثيرا،
سافرت في الحلم كثيرا
وأطللت عليك أيتها الحياة
من نافذتي التي من ورق
لا تلتفت الشاعرة للزمن الموضوعي العام ولا تأبه به كثيرا، ف ( ربما كثير من ورق العمر احترق ) ، لأنها مشدودة لزمنيتها، أي لزمنها الذاتي الذي تبنيه عن طريق حركية الوعي حلما وخيالا، وتأكيد الشاعرة على كلمة (كثيرا) للدلالة على الكثرة النوعية وليس العددية، فزمن الذات الشاعرة هو زمن مطلق وكلي، ليس زمن الحدث الجزئي العابر، وإنما زمن الكينونة والهوية الذي تمثله الحياة منظورا إليها من نافذة الكتابة وشرفتها، أي من نافذة الذات الواعية المتبصرة.

بقلم: فؤاد أفراس

Related posts

Top