قراءة في ديوان “غيوانية حلالة” للشاعر المغربي عبد الرحمن فهمي

تعرفت إلي عبد الرحمن فهمي أولا كشاعر، تابعت تجربته كعاشقة للزجل وأحببت قصائده، خاصة تلك التي تتغنى بحلالة (القنيطرة)، قبل أن ألتقي به شخصيا.
أتذكر أن أول تعليق أرسلته اليه بعد أول قصيدة قرأتها له ” من أجمل ما قرأت عن القنيطرة”. وخلال لقاءاتنا في مختلف المناسبات الثقافية، كانت لنا حوارات طويلة ونقاشات حول الشعر عامة والزجل خاصة وكذا حول مواضيع ثقافية واجتماعية مختلفة. بمعنى أني سأكتب عن شاعر أعرفه عن كثب. زجال مسكون بالكلمة المبدعة.مسكون بمدينته.

مجنون حلالة

يتضمن ديوان “غيوانية حلالة ” خمس وثلاثين قصيدة من بينها ثمان رشات افتتحت بتقديم للكاتب والقاص ادريس الصغير. ونذكر بالمناسبة أنه أول ديوان زجلي يصدر للزجال عبد الرحمن فهمي.
اخترنا في هذه الورقة أن نقف بالأساس على النص الموازي لما له من دلالات عميقة وايحاءات من شأنها فتح الباب أمام المتلقي لفك بعض شفرات النص ولأنه غالبا ما يتم تجاهله من لذن القارئ.

1 – الغلاف

ا- للغلاف أهمية بارزة بحيث يقدم فكرة عن محتوى الديوان. اللون الأصفر يحتل مساحة كبيرة وهو يرمز الى نبتة “حلالة” زهرة الأقحوان الصفراء الموجودة أيضا على الغلاف والتي بدورها تحيل الى مدينة القنيطرة. حروف كلمة حلالة باللون الأصفر تتداخل مع اللون الأسود الذي وسم أيضا اسم الشاعر عبد الرحمن فهمي. لعلها تشير الى حالة من اليأس والحزن- حتى لا نقول حالة من السوداوية- من جراء ما آلت اليه مدينة القنيطرة أو حلالة، الا أننا نلمس بصيصا من الأمل اذ أن هذه الحروف لا تلبث أن تتصاعد ويختفي بعض من سوادها. العنوان كتب بخط جميل وبالأزرق وكأنه يؤكد ذاك الشعور المقلق. فاذا كان اللون الأزرق يرمز الى السلم والأمن و الطمأنينة والثقة فهو كذلك يرمز للحزن و العزلة أذا ما أخذنا بعين الاعتبار لوحات بيكاسو المثقلة بالأزرق والتي أبدعها الفنان في ما يسمى ب ” المرحلة الزرقاء” والتي توحي بالحزن والعزلة و اليأس. يقول عبد الرحمن:

“كيف حالك ياغدا
وهذا ليلنا زاد تحدا
تحدا
تمدا
حتى تعدا
لا حمورة الشفق جابت لغسق
من الشرق
لا سواد على بياض تفتق”.

2 – الواجهة الخلفية للديوان

عودة اللون الأصفر الذي يحتل كل الواجهة وطائر اللقلاق الحر( وهو رمز اخر لحلالة) يسبح في هذا الفضاء الشاسع كما الشاعر وهو يطل من خلال صورة، تكاد تكون ناطقة خلفية سوداء و نظارات سوداء، في وضعية تأمل بجانب الرشة بكلماتها الشديدة العمق والتي تقودنا الى دواخل الشاعر القلقة و المتوترة.

3 – الإهداء

أول ما يلفت الانتباه في الديوان هو غياب الاهداء الذي غالبا ما يتصدر الكتب الا في حالات نادرة. ومعروف أن الاهداء الذي يأتي في كلمات قليلة و يختلف من كاتب لأخر له أهميته باعتبار أنه ممكن أن يكون له علاقة بالمضمون. قد يكون الزجال عبد الرحمن فهمي تجاهل الاهداء عن قصد أو غير قصد، لكنه في المقابل استهل ديوانه برشة تعلن عن المضمون أو على الاقل عن جزء كبير منه. رشة تلعب دور الاهداء، إنها بمثابة بطاقة حب الى حبيبة يذكر الشاعر اسمها في أول بيت، فتأخذنا من أول كلمة نحو عالم من العشق:
“حبيتك يا قنيطرة
وحبي ليك ابيض صافي
ابيض من النقرة
واصفى من الذهب الوافي
نبغي نشذك تسعفني الوترة
وليا تخضع القوافي
يا حبيبتي يا خضرة
يا بلسمي
ويا ترياقي الشافي”

هذه الرشة تحيلنا إلى العنوان” غيوانية حلالة ” كما يحيلنا الى القصيدة الاولى للديوان التي تحمل نفس العنوان وكذا الى القصيدة الثانية ” فخرية حلالة “.

4 – العنوان

إذا كان للنص الموازي أهمية كبيرة في سبر أغوار النص كما سبق الذكر، فان العنوان، و بشكل خاص، يكتسي أهمية كبيرة باعتباره كلمة مفتاحية و مرشدا للقارئ نحو محتوى الكتاب. بل ان بعض النقاد يعتبرون العنوان نصا مصغرا تقوم بينه و بين النص الكبير أشكالا مختلفة من العلاقات وخاصة السيميائية منها. وتأسيس ما يسمى اليوم ب” علم العنونة” لأكبر دليل على أهمية العنوان. في كتابه ” عتبات ” يعتبر جيرار جنيت العنوان أهم عناصر النص الموازي.
وفي هذه الورقة سنحاول مقاربة عنوان الديوان من خلال اللفظين المكونين له. الاول” غوانية” وهو ذو معنى ايحائي والثاني ” حلالة”زهرة الأقحوان كرمز لمدينة القنيطرة. 1_ لفظة “غيوانية” تحيلنا الى عالم الغيوان و بعبارة أدق الى ناس الغيوان. الشيء الذي يعبر عنه الزجال عبد الرحمن و بوضوح تام في رشته:
“أنا غيواني
والهول اداني
وبحر لمعاني
ما دخلتو بلعاني”
جاء على لسان عمر السيد أحد أعمدة ناس الغيوان أن هذه التسمية تعني ناس المحبة، ناس الخير، ناس السلام. وفي الموروث الشعبي ” تعني الترجمة المطابقة لأهل التجوال التي تفسر بشكل ايجابي بتوابع المغامرة والغناء و الاحتفال و التسكع…يعني ببساطة هذا التعريف هو الأقرب الى القصد من التسمية حيث أن الغيواني ترادف الفنان المبدع الجوال بين الليالي الساهرة همه الوحيد اشباع رغباته الفنية و ابراز مؤهلاته الابداعية”. وفي تعريف اخر ” ناس الغيوان هي عبارة تعني أهل الفهامة وهم أناس يفهمون ما وراء العبارة فلا يكتفون بظاهر لفظها، وانما ينجذبون عميقا الى صفاء استعاراتها ومجازاتها. وأغلب هؤلاء هم شعراء جوالون تأثروا بالطرق الصوفية الشعبية”.
هذه التعريفات تنطبق بشكل كبير على الزجال عبد الرحمن كما تتجلى في شعره. التصوف يلقي بظلاله على زجل عبد الرحمن، التصوف بالمعنى الحلاجي الذي تجاوز العلاقة الفردية بين المتصوف و الخالق ليصبح جهادا ضد كل أشكال الظلم و الاستبداد. يقول الشاعر عبد الرحمن فهمي:
“قصة كلامي وسط لكلام
قصة الحلاج مع العوام
كثر الهراج
والمراج
والما هاج ومداد غاضب
يرفع سومة الكلمة علا الدوام”
والحديث عن الاحالات الصوفية في ديوان ” غيوانية حلالة “، يحيلنا ايضا الى رجل من رجالات الصوفية و هو سيدي عبد الرحمن المجدوب. ذلك أن الزجال عبد الرحمن، مجدوب من حيث الصنعة. وقد نأخذ على سبيل المثال الرشات التي تتخلل الديوان والتي تشبه الى حد كبير رباعيات عبد الرحمن المجدوب من حيث الشكل ومن حيث الغرض الشعري وأيضا من حيث الحكم. اذ تطرق لمواضيع شتى استقاها من المجتمع الذي ينتمي اليه. يقول الزجال:
“نهارنا مات
مع العشية
وطلع ليل
كمرتو مطف”

2- لفظة ” حلالة ” وتعني كما سبق الذكر زهرة الاقحوان التي ترمز الى مدينة القنيطرة. علاقة الزجال الغيواني عبد الرحمن بحلالة علاقة حب قوي قد لا تسعف الكلمات لوصفه. لقد فاق كل التصورات. ولهذا عنونت ورقتي ب” مجنون حلالة”. عبد الرحمن هو حلالة وحلالة هي عبد الرحمن. بالإضافة الى العنوان الذي هو أيضا عنوان أول قصيدة في الديوان، نجد أن نصف قصائد الديوان-تقريبا- اتخذت حلالة موضوعا بأشكال أو من زوايا مختلفة: غيوانية حلالة، فخرية حلالة (وهي أطول قصيدة)، سبو، سيد العربي بوجمعة. ذكر اسم حلالة أو القنيطرة أكثر من خمس عشرة مرة. يعلن حبه لها الجارف من أول صفحة ( حبيتك يا قنيطرة…يا حبيبتي يا خضرة) ويتغنى بجمالها ( حلالة الورد الشارق) وبقوتها وصمودها ( صامدة صمود الباشق… حلالة كطير لفنايق).
عبد الرحمن المجدوب- وأعني به هنا عبد الرحمن فهمي- المسكون بحلالة هو ذاك المسكون أيضا بالقصيدة. يخرجها من أعماقه ويكتبها بدمه ويقدسها. يريدها نارا وبركانا لا يخبو. يقدس القصيدة ويتماها معها، يداعبها ويغيب فيها وكأني به عبد الرحمن باكو في ليالي كناوة وهو يحاور الهجهوج أو يقوم بالجدبة. يقول فهمي في مقطع من قصيدة ” لقصيدة”:
“قدست مدادك
الشارباه الورقة دم
فليلة حضرة لكلام
وخلا شلا وشام
مرسومة غم
على صدر الكُلب”

اذا كان الزجال يحمل هم مدينة القنيطرة فهو أيضا يحمل هم الوطن. بل إنه شاعر كوني. صاحب رؤية. عطاؤه نابع من الجيشان الداخلي للبحث عن الانسان. إنه الإنسان الشاعر الحائر الذي يبحث في الكلمة ومدلولها وفي خلق شكل جديد للقصيدة. عبد الرحمن فهمي في بحث دائم عن مرساة سفينته.

< بقلم: أمينة السحاقي

Related posts

Top