قراءة نقدية لرواية “تيانو” أو نوفيلا المشترك الإنساني

إن ما تقدمه رواية ” تِيَانو” للأديب والإعلامي الجزائري مصطفى بوغازي، الصادرة حديثا عن دار غراب للنشر والتوزيع، طبعة أولى 2021، القاهرة ، ليس مجرد توثيق لواقع اضطهاد الأقليات ،ممزوجا بفتح صفحات أكثر توغلا في دراما منافي ما وراء البحار، بقدر ما هي نوفيلا سردية تتماهى مع لبّ لغة الضاد وتنتصر للمشترك الإنساني، متخطية فخاخ الكلاسيكيات الحكائية المقيدة بانحسار الرؤيا والخطاب الاصطفافي والمنحاز، كون هذا المنجز الباذخ والعميق أول ما قصف، مثل هذه التباينات والمفاضلات العقدية والألسنية والجغراقية الضيقة، محتفيا بهوية إنسانية لامّة.
إنه سرد الرغبة بصيغة وأنساق التعدد، يهيمن على أسلوبية هذا العمل المُختزل والمترع بحمولات إدانة التوظيفات الملغومة وغير البريئة للديني والسياسي.
سرد الرغبة من قلب العاصفة، الرغبة في التحرر والتجاور والانطلاق.
مذ أول أحداث فصول الرواية وحتى آخر لحظات إسدال الستار عن تفاصيل تاريخ شبه منسي، أو على الأرجح مغيب لأنه يناهض وبشراسة جوانب العتمة والبربرية والتحجر العقلي في الكائن، كي يُشرع المصائر على أفق إنساني محض وقزحي مغذ لتقاطعات الثقافي والعرقي الإيديولوجي والديني، ضمن حدود رمزية وذروة في المثالية للتحّاب والتعايش والتساكن.
تغازل الرواية بتنويع الأحداث والشخصيات ،كما تغرق في اللعبة الزمكانبة ، مسخّرة قواميس اللغة القشيبة لمعان ومتون ودوال غاية في الخلق والجدة والابتكار.
بذلك نجزم القول أنها رواية النفس الواحد المنصاع لخيوط ناظمة لامرئية توفر على المتلقي وعثاء استشعار تبدبل محطات المطالعة، مؤججة فضول المتابعة من غير رتابة أو ملل.
لا تفيد النوفيلا الاقتصاد المعجمي فقط، أو ركوب موجة السرد ما بعد الحداثي، عدل ما تروم غايات تهذيب الرؤيا وقصديات تشذيب الدال الروائي وتكثيفه قدر الإمكان، كما هو الشأن مع الروائي الجميل مصطفى بوغازي.
نقتبس للسارد القول التالي:
(جعل سياسته كحاكم جديد، تعتمد على تحسين ظروف الحياة، حتى لا تبقى الجزيرة وجهة عقابية ، بقدر ما تصبح الأجواء محفّزة للبقاء ،فقد أتى الجزيرة في 9مارس 1876،وخلال إقامته نظم الإدارة، وقاد سياسة الأشغال العامة، فشق شبكة الطرق ، وإمدادات المياه إلى “نوميا”، وفتح مسالك في الغابات والمناطق الوعرة، كما مد الأسلاك بين المراكز للتواصل والإشارة.
أراد ” بريتزبوير” أن يكرس الاستيطان فيها بدافع الرغبة أكثر من غيره، وظل اهتمامه منشغلا بتعمير الجزيرة، وجعل الكفة تميل لصالح المستوطنين، على حساب السكان الأصليين.)[1].
هذا هو دأب التفشّي الحكائي، منذ بدايات الولوج فيه باعتماد المكون الطبيعية بؤرة أو نواة أولية للسرد، ما بعد هدوء وانقشاع غضب الطبيعة في أقصى تمثلات هيجان وغلو العواصف، الذي أودى بشخصية نموذجية وهشة ما انفكت تصنع أجواء الجمال وتغذي الأسماع بعذوبة العزف على الكمان، “ريمون”، كشخصية فنية تحيل على المشترك الإنساني والهوية الكونية ، باعتبار الموسيقى لغة عالمية، لذا كان التأثر بفقدانه موجعا وكارثيا وثقيلا على كل من هم على ظهر السفينة “نافرين” من الفرنسيين وغيريهم.
تعريجا على ذكر العنصر العربي المبعد والمتجلي في أسماء جزائرية ،قاومت الغزو والظلم والاضطهاد ، إلى جانب من آمنوا بالحرية والكرامة والعدالة الإنسانية والاجتماعية بحيث شكلوا معارضة سياسية للنظم الديكتاتورية القائمة ،علما أنهم من طينة الأبيض أنفسهم ، مرورا بمحطة الجشع الاقتصادي اليهودي ،ومَرَضية المجدّفين في دوائره . تقول الذات الساردةعلى لسان الزوجين “آرون” و”أوهانا” بعد تعافي ابنيهما على يد معلم الكتّاب والمبعد عمار، ضمن حوارية معبّرة غالبا ما تدفع ضريبتها الطفولة والانسانية :
( ـــ أي حماقة وأي بلاء، يدفعان بنا إلى هذا التصرف الأرعن والجشع اللامحدود؟
ـــ يحاول الاقتراب منها قليلا لتهدأ ،وهو لا يجد كلمات تلملم هذا الموقف من التشنج الحاد بينهما، فتدفعه عنها بقوة وهي تصرخ:
كيف لنا أن نترك باريس؟ أي عرق نحن اليهود؟ دماؤنا يجري فيها المال، وقلوبنا لا تتراقص إلاّ لرنين النقود، ولمعان الذهب؟
يقاطعها: هذا كله لأجل مستقبل ابنينا.
تحملق في وجهه بزاوية عين حادة: دعك من هذا العراء ، لنا ما يكفي لحياة سعيدة، هذا الذي نعيشه تهور وليس طموحا، عليك أن تعترف أن جشعك يسد عين الشمس.)[2].
انتهاء بقلب الموازين في الحرب ضد الكاناك كسكان أصليين لجزر ما وراء البحار، الدائرة حولها أحداث الرواية، فبعد صولات واستشراس القائد البربري والبدائي ” أتاي” يتم دحره بهجوم منظم عرف إشراك العديد من الأطراف بما فيها منفيو الجزائر ، لتقطع رأس زعيم المتمردين ” أتاي” عن طريق أحد الخونة من بني جلدته ثم تُرسل إلى القيادة العليا بباريس.
بيد أن المثير في هذا العمل السردي ،هو التوفق في انتقاء عتبته ، على الرغم من زخم التيمات التي بصمها الحضور السياسي والديني على حد سواء، بحيث جاء العنوان نابضا بتوقيعات الأنثوي ، وضاجا باسم بولينيزي : تيانو،مرجّحا لغة الحب والعاطفة كلبنة أساس في بناء عالم متوازن ومتصالح قائم على ثقافات وديانات وإيديولوجيات التعايش والتلاقح والتكامل والتسامح.
البطولة الأولىفيه ،لكوبل يحقق سائر هذه المعادلات الإنسانية الكبيرة.
بحيث تطغى وتطفو قصة حب ما بين الجزائري يوسف والبولونيزيةتيانو ، والتي تفيد معنى عزلة الأرض البعيدة ، على اختلاف ديانتيهما ، كي يؤسسان لاشتراكية إنسانية مذوبّة لكامل هذه المعضلات.
يقول السارد:
( ــ لن أعود ” تيانو” ، أنت وطني ، إني أشعر بأن الحياة التي كتبت لي بعد تلك الرحلة الطويلة ، لن يسعفني الحظ مرة أخرى في الوصول إلى هناك، ولا أظنني أستطيع معاودة التجربة ،لا أجد من يستقبلني بالأحضان ،أو يدللني كما تفعلين.)[3].
إنه وطن الإنسانية في أقصى صور الذود سرديا عن الانتماء إليه، مثلما تجسد ذلك الكثير من المواقف، من بينها تلكم المغامرة المجنونة وغير محسوبة العواقب التي خاضتها “سوزان” بحثا عن شقيقها المُبعد “سارجيو”، ومثل ذلك من محطات الإنساني في الرواية جلي وغزير.
الجدير بالذكر أن الرواية صدرت باللغة الاسبانية أيضا، وهي قيد الترجمة إلى الفرنسية والإنجليزية.

هامش:
[1] الفصل الأول من الرواية، نوميا { كاليدونيا الجديدة }، صفحة 48.
[2] الفصل الثاني من الرواية ، صيف الانتفاضة 1878، صفحة 86.
[3] فصل الرواية الثالث والأخير، صفحة 92.

بقلم: أحمد الشيخاوي

Related posts

Top