مبدعون مازالوا بيننا – الجزء الثاني-

في ما يلي السلسلة الثانية لهذه المختارات من التجارب التشكيلية للفنانين المغاربة الراحلين التي تمثل بعض المعالم النموذجية الأكثر دلالة في مشهدنا البصري. فهي عتبات تتحدث أبجدية أخرى، وتراهن على مستقبل لا مجال فيه لنزعات التغييب، والطمس، والموت الرمزي. إنها تجارب إبداعية تتسم بفرادتها، شكلا ومضمونا ورؤية، لأنها فضاءات تبوح بهمومنا الصغرى والكبرى، وتكشف عن عوالمنا المرئية واللامرئية، وتشاكس تطلعاتنا وانتظاراتنا الجمالية والمعرفية.

في حضرة هذه التجارب المتعددة والمتباينة، نستشف أن الكم هائل كجزيرة لا حدود لتخومها، أو كصحراء لا نهاية لمتاهاتها. ألم يقل الأديب الروائي جبران خليل جبران: “في موت المبدعين حياتهم”؟ فكل افتتان بمنتجي الصور الجمالية الذين مازالوا بيننا هو في حد ذاته افتتان بالذات المهووسة بالحق في الحلم وفي الحياة، وفي المستقبل… فهؤلاء هم الذين يصالحون المتلقي مع الأثر الجمالي. أليس الأثر، بتعبير أمبرتو إيكو، بديلا عن الكون (الأثر المفتوح)؟

محمد الدواح:  فنان الظل المكابر – الحلقة  20-

لسان حال لوحاته يتحدث عنه

يندرج اسم الفنان الاستثنائي محمد الدواح (1966-2009) ضمن قائمة المبدعين المغاربة البوهيميين الذين اختاروا الظل مقامهم الوجودي بعيدا عن الواجهات والأضواء الساطعة أمثال محمد الخياري، والعربي الصليط. بدأت رحلة تكوينه الشيقة بمدرسة الفنون الجميلة بتطوان التي تخرج منها عام 1992، ليتابع دراساته الموازية وحلقاته التدريبية بفرنسا، مستأنسا بكل التقنيات الصباغية، ومعالجا عدة مواضيع اجتماعية وواقعية بلغة تشخيصية جديدة تتوزع بين الأداء الانطباعي والحس التجريدي.

ظل طيلة حياته خارج الدروب المطروقة والقوالب المسكوكة، فهو لا يشبه إلا ذاته، ولا ينصت إلا لصوته الباطني، متمردا منذ البداية على كل تقليد واجترار وتنميط. نخاله فنانا منبوذا أو مجنونا، والحال أنه منسجم مع ذاته الصغرى والكبرى معا، منخرطا، جسدا وروحا، في جغرافية عمله الفني الذي يتملكه ليلا ليتخلص منه نهارا (يحكى أنه كان يعرض لوحاته على بعض عشاق الفن وجماعي روائعه ولم تجف بعد ألوانه الوحشية أو المتوهجة). ليس منبوذا أو “ملعونا” بالمعنى القدحي للكلمة لأنه فرض التقدير والامتنان داخل أوساط إقامته الاختيارية خاصة بالرباط، بدل التعرض للاستخفاف والاستهانة. لم يكن ذلك المنبوذ الثائر أو الفوضوي، بل التزم بميثاق ثورة الإبداع ولا شيء غير الإبداع، مستميلا ذائقة المولعين المتهافتين على اقتناء أعماله الفنية بعد مساومات قد تبدو في معظم الأحيان تبخيسية، ولا ترقى إلى مستوى قيمتها المادية واللامادية، لتصيبنا الصدمة فور علمنا ببيعها في المزادات العلنية بأثمنة باهظة داخل المغرب وخارجه. عاش عفيفا متحليا بالتواضع والإباء والكتمان، يترك لسان حال لوحاته يتحدث عنه دون تبجح خطابي أو افتعال تواصلي ترويجي.

انبعث عمله كفينق من رماده

لازم محمد الدواح محترفه المتنقل كما لازم أمكنة أهوائه وملذاته الهامشية، منتشيا برائحة مواده الصباغية وبتراكيب لوحاته الناطقة انتشاء روحيا ووجدانيا قبل أي انتشاء وضعي آخر… الغريب أنه في عز حياته آثر أن يصور عشاق إبداعه لوحاته اللامتناهية والفياضة بدل تصوير ذاته، وهذا ما يفسر لا محالة ندرة صوره الشخصية والعلائقية. يا لغرابة المقارنة العجيبة! نعثر على الصور الخاصة بالرائد المكي مورسية في حين لا نعثر على لوحاته التعبيرية، في الوقت الذي نعثر فيه على لوحات محمد الدواح ولا نعثر على صوره الخاصة.

لا ندري لماذا تطالعنا صورة جيلالي الغرباوي وموته المأساوي على مقعد عمومي في حديقة “شان دومارس” بباريس بعد تجرعه نكسة اليتم والغربة والعزلة دير تومليلين نواحي أزرو حد محاولات الانتحار اليائسة؟ تنضاف إلى هذه الصورة الصادمة صورة عباس صلادي وأزماته النفسية والعقلية، ومصير بيع لوحاته بساحة جامع الفنا على يد أخته بأثمنة زهيدة لا تتعدى بعض الدريهمات، ونوباته المتصاعدة بمستشفى ابن النفيس، ملخصا وضعه العصيب في صورة صومعة الكتبية الشامخة وقد انحنت وانبطحت أمام نوائب الدهر وآفاته. صورة مجازية أخرى تراود متخيلنا الجمعي ونحن ندبج هذه السطور حول محمد الدواح، ألا وهي صورة أحصنته الوديعة التي أنسنها، وأضفى على عيونها كل معاني الطفولة البريئة والعذراء… صورة تبعث على الشفقة والأسى، ترانا علنا نراها بجوارحنا، وبعين بصيرتنا لا يعين بصرنا. رحيل مأساوي بلغة الوجع والألم، حيث سيصاب باختناق حاد على متن حافلة نقل تستقله كالعادة من مركز الرباط في اتجاه تكيته الزاهدة والمتداعية بفضاء هرهورة، سيلتمس من السائق التوقف، لكن بمجرد نزوله قبل محطة وصوله سيلفظ أنفاسه الأخيرة… جثته الهامدة تراءت كلوحة حية تختزل كل شيء: مقاومته الرمزية في وسط اجتماعي وفني تجشم فيه عناء التموقع وتأكيد شخصيته المعنوية… أليست الحافلة في معناها الاستعاري كناية عن المجتمع بكل متاهاته ومفارقاته؟

يذكر الأستاذ الباحث والفنان التشكيلي سعيد أعطار في حوار إذاعي أجراه معه الكاتب الإعلامي أديب المشرفي على أمواج الإذاعة الوطنية بالرباط بأن الطلاق المبكر لأمه من أبيه أثقل كاهل الفنان محمد الدواح، وخلف أثرا بالغا في حياته كفنان شاب يشق طريقة بحزم وعزم. يصرح سعيد أوعطار في هذا السياق: “تخرج من مدرسة الفنون الجميلة بتطوان عام 1992، وسرعان ما تميز بأصالة عمله الإبداعي، وتلقائيته وخصوصيته النوعية. فأسلوبه الفني استثنائي ومتعدد: لوحاته حول الفروسية فريدة للغاية، وتجاري بخفة ومرح لوحات غاستون مونتيل، مشاهد الأوساط المدينية مكتومة وساكنة، وحية، وخلابة، وتضاهي مشاهد هنري جون بونتوا، أعماله التجريدية الثرية مذهلة، وهذيانية ومؤثرة. أثناء معاشرته، تمتع الفنان عاشقا ومعشوقا بحياة مبتهجة، مفعمة، مكثفة، جموحة وبدون تخوم. عجل حسه المرهف وبراءته وسخاؤه بنهايته. كان قادرا على إبداع لوحات في ظرف قياسي، وبيعها، وتوزيع عائداتها على الفقراء الذين يصادفهم في الشارع، وكذا على منادميه. الفنان منفرد يتحلى بنبوغ التعبير عن روائع في لوحاته بسرعة صاعقة وكاسحة. يمكن التأكيد على أن العمل الذي خلفه فناننا وصديقنا العزيز، الراحل محمد الدواح، سينبعث كفينق من رماده، وسيشهد كل مجده في تراثنا الوطني”.

أطلق عنان خياله كحصان مجنح

لا غرابة، إذن، أن يقيم محمد الدواح معرضه الفردي الوحيد في أوج عطائه، خمسة أشهر قبل وفاته، أهداه كليا إلى الخيول كموضوعة محورية وحصرية لأعماله الفنية الأخيرة التي تتوق، في دلالاتها العامة، إلى الانعتاق والحرية. رسم كطائر حر، وأطلق عنان خياله كحصان مجنح. عرضت أعماله التعبيرية في إطار معارض جماعية بعدد من المدن المغربية، وكذا في أوساط دولية خاصة بباريس وبوردو، وهي أعمال اخترقت الحدود الفاصلة بين الأساليب الفنية والاتجاهات الإبداعية. كان يقارب التشخيص بالتجريد، والتجريد بالتشخيص، وكان يسائل الواقع بالخيال والخيال بالواقع (نتذكر لوحة كائن عجائبي نصفه العلوي صدر امرأة عار، ونصفه السفلي حصان، استوحاها من أسطورة القنطور الإغريقية التي اعتبرت هذا الكائن بريا من فصيلة الخيول الجامحة). لقد قدس الفنان الحصان على خطى الحضارات الإنسانية، واعتبره رمز خير ونور لا رمز شر وظلام.

عاش، كما يحكي أصدقاؤه وأترابه، مرارة الحرمان والفقر المدقع. كابد وتجاسر، حاملا جراحاته النفسية والاجتماعية الغائرة، فأعماله لم تحظ بموقعها الاعتباري داخل المعارض الجماعية الوطنية، ولم يلتفت إليها أي إطار جمعوي يعنى بشؤون الفنون الجميلة، لتجد ذاتها بين مخالب تجار “البازارات” و”الجوطية” مع بعض الاستثناءات طبعا من الذين قدروه حق قدره، وتجاوبوا معه بدون وساطات أو مساومات. أليس هذا مصير معظم فناني الظل مثله على الصعيدين الوطني والدولي؟

ملوّن مدهش، هو محمد الدواح الذي سخر لغته التلوينية لاستغوار عوالم الطقوس الڭناوية والأجواء البدوية (لوحة “بدوية وابنتها” نموذجا)، والمشاهد اليومية بمختلف تمظهراتها الواقعية والرمزية معا.

قلب جواد لا يموت أبدا !

كتب الأستاذ الباحث والفنان التشكيلي سعيد أوعطار على إثر تلقيه المباغت لفاجعة رحيل صديقه محمد الدواح كلمة مؤثرة باللغة الفرنسية تحت عنوان “قلب جواد لا يموت أبدا” ارتأينا أن ننقلها إلى اللغة العربية: “في هذا اليوم الذي يجل عن الوصف من شهر فبراير، الحافلة التي تقوم برحلة الرباط –هرهورة- الرمل الذهبي، المتحركة بالكاد، توقفت بشكل مفاجئ على طول الساحل، إنسان فريد نزل وأمام البحر وافته المنية، موته أعلن النهاية، هذا اليوم، العاصفة خيمت على الهواء منذ الصباح، كانت السماء رمادية وواهية، اهتز للتو، محمد الدواح، الإنسان الذي نزل من الحافلة توفي بغتة على قارعة الطريق الشاطئية التي أعزها كثيرا.

السماء على طول هذا الساحل أصبحت قاتمة جدا، الأمواج الهائلة الجامحة عادة هدأت وغرقت محتضرة في قاع البحر. أوراق الأشجار ارتجفت على أغصان شاحبة… النوارس لا تحرك ساكنا في الأجواء، الحيوانات حائرة تتهيج والسماء بكاملها أثقلت معلنة عن هذه العاصفة المرعبة. وحدهم الأدميون، المنساقون مع الحاجيات اليومية العابرة للحياة يتيهون في انشغالاتهم التافهة. مات في مقتبل عمره، رحل بدون ألم، رحل إلى الأبد… الدواح، فقيدنا، فناننا الكبير.

أنت، رفيقنا، خليلنا، الكائن متواضع المتواضعين…رحلت وحيدا، وبسكينة وكرامة، واصلت طريقك دون أن تنبس بكلمة، أنت البريء، أنت الكتوم، رحلت على طول الساحل الذي تولعت به، واصلت رحلتك نحو الآخرة… خلانك أسيانون، مغتمون ومذعورون بهذا الرحيل الفظيع… أنت الذي حظيت بأصدقاء من مختلف الشرائح الاجتماعية، من المعوزين إلى الميسورين جدا. كلهم يرثون فقدانك. أجل…لقد عرفت أن تجعل، بصداقتك ولطفك، الكثير من الناس سعداء، ناس الشعب، الأطر، الفنانين والمثقفين. بعضهم الذين يتحدثون عنك، ولم يعرفوك أبدا، ولم يرافقوك، ولم يتقاسموا معك لا وجباتك ولا اللحظات البهيجة من حياتك، ولم يعانقوك، هذا لا يحتفظ سوى بالإشاعات الحالكة، سامحهم الله… أنت، المبدع الضال، أنت الذي فعلت الفن لا للمجد، ولا للثراء، بل فقط في سبيل العيش. نعم، الحياة، رسمتها، عشقتها، أحببتها بشكل رباني، كنت جذلا، بشوشا ولطيفا. أنت الإنسان السخي، المتحفظ، المتذلل وذو الحس المرهف كنت موهوبا، موهوبا للغاية دون صخب ما دمت لم تتق أبدا إلى فخر ولا إلى أمجاد… قدمت لنا درسا في التواضع والجسارة… وهبت للجميع بأريحية وأبيت كل عون مصر بوسعه أن يغير مجرى حياتك… كنت صنديدا، أردت أن تبقى وفيا للحياة التي ارتضيتها، لفنك ولروحك كفنان. خلفت فراغا هائلا… وكنت بالفعل تنتمي لحظيرة الكبار.

عزيزي محمد الدواح، بوسعك أن تعتز بأسرتك، بالحب الذي تكنه لك، بكل أصدقائك، بكل الفنانين الذين عرفوك ورافقوك إلى مثواك الأخير، يعزونك ويرثونك في صمت. محمد ستظل دائما حيا بيننا، ولوحاتك الفريدة هي هنا لتشهد على إبداعيتك، على قريحتك، وعلى سمو روحك.

محمد الدواح، صديقنا، ارقد في سلام، أنت الذي عشت جيدا فنك، حياتك، أهواءك… ستظل خالدا بأعمالك الفاتنة، ستعيش أكثر منا جميعا، لأن قلبا جوادا لا يموت أبدا… لذلك نقول لك، ارقد في سلام، ندعوا لذاكرتك الراسخة والأبدية. “رحمك الله”. حياة الفنان محمد الدواح جديرة بأن توظف سينمائيا على غرار حياة مبدعي الظل وناسكيه، سواء على المستوى الروائي أو التوثيقي.

< إعداد: عبد الله الشيخ ـ ابراهيم الحيسن

Top