محمد الصابر: أوثر فكرة الواجب الشعري الذي يتحقق به العدل!

محمد الصابر (1957) شاعر مغربي، ولد في الحي المحمدي الأشهر في مدينة الدار البيضاء، حيث فتح عينيه على حاضرة تموج بالمتناقضات، وتسمع إلى حلقات الفقراء وأصوات المغنيين الشعبيين وناس الغيوان والطقوس الجنائزية ونواح النساء وسرد “العدادات” وكان من حيث لا يدري يتعقب “نجمة الفجر” وينفخ فيها عبر طريق لا تنتهي. امتهن المحاماة، وكان هذا درس آخر ليجعل من أثره الشعري حصة العدالة المنشودة، وواجب الدفاع عنها بالكلمات وبالاستعارة التي تستوفي الجوهر وتنشد الإعمار، بلا يأس أو مهادنة. داخل شعره ثمّة احتفاء نوعي بالسرد الذي لا يسلب أنا الشاعر صوته الفردي، بقدر ما يتواشج مع ما هو جمالي ومطلق في بناء ممارسته الشعرية، حيث يتجاور السحر والدين والفنون والفلسفة والأيديولوجيا والمسرح في أرومة واحدة تصهر عظمة الإنسان وهشاشته معا.

صار من الدارج أن جيل الثمانينيات الذي تمثل أحد شعرائه الأساسيين، حقق طفرة أساسية في سياق تحديث الشعر المغربي. في نظرك، ما هي أهم المكاسب والآثار التي تنسب له؟ وماذا تذكر من تلك الحقبة؟

إن صح أن الأمر يتعلق بجيل، أي بمعتقد شعري جديد ذي ملامح تميزه عن ملامح الجيل السابق، يشترك في إرسائه عدد من الشعراء من فئة عمرية متقاربة من غير اتفاق فيما بينهم، فإن المعتقد الشعري الثمانيني في رأيي هو رفض الأدبية باعتبارها حاضنة للعنف البلاغي، والانتصار للشعرية باعتبارها حاضنة للقول الحر. جيل الثمانينيات هو جيل الشعر الشعري. الجيل المقيم دوماً في طيّات الموج. بالنسبة إليّ، كانت تعاضدية طلبة كلية الحقوق في الدار البيضاء، هي أول من دأب على دعوتي إلى أمسيات الأسابيع الثقافية في السنوات الأربع الأخيرة من سبعينيات القرن الماضي، وأذكر أنني عندما قرأت قصيدة عن المرحومة سعيدة المنبهي في قاعة كنيسة “القلب المقدس” في شارع إدريس الحريزي، الملآى عن آخرها، كان الجمهور يقاطع قراءتي بالتصفيق وشعارات المرحلة. لقد نعمت إلى حد ما بالفرح بالشعر، لكن ملاحظة الشاعر عبد الله راجع، أنّ هذا النوع من الشعر تغلب عليه الهتافية، سيجعلني أعيد طرح السؤال حول ما أكتب، وما زال هذا الهتاف حاضراً في قصائدي ولست أعتبره مشيناً، إذ هو مكون من مكونات السرد الذي يجعل النص أكثر إشراقا.

أصدرت باكورتك الشعرية “زهرة البراري” سنة 1989. كيف تستعيد تلك اللحظة وحماس الشاب في العشرينيات؟

في نهاية الثمانينيات ألحّ الشاعر عبد الله راجع على إصدار مجموعتي الشعرية الأولى، إذ، كما قال “آن أوان هذا المنجز” وهو عين ما كان يقوله للصديق الشاعر محمد بوجبيري، وهكذا سيأتي “زهرة البراري” و”وعاريا أحضنك أيها الطين” في ظرف زمني واحد. في “زهرة البراري” نص بعنوان “أنشودة الساحل الغربي” وهي قصيدة المدينة؛ قصيدة الدار البيضاء بأحيائها وشوارعها وبمعالمها الثقافية وبأسماء مقاوميها. سيحتفل أبناء حي البرنوصي بـ”زهرة البراري” وسيقيمون للكتاب حفلا بديعا، وسيعدون عملا مسرحيا وسيلحنون بعض المقاطع ويتغنون بها. لقد وجدوا اسم حي البرنوصي المهمل والمسروق والمغضوب عليه بعد أحداث 1981، حاضرا في هذا الكتاب الشعري، وسيقوم في ما بعد فقيه الفرجة الصديق محمد قاوتي بقراءة “أنشودة الساحل المغربي” بصوته، بينما الكاميرا تجوب أحياء الدار البيضاء وساحاتها ومعالمها في تصوير سينمائي رائع ما يزال محفوظا على رفوف إحدى القنوات التلفزيونية حيث كان ينتج برنامجه الثقافي المشهور “مقامات” سنة 1989. هذا هو الأثر الذي خلفه كتابي الأول: “زهرة البراري”. بالموازاة، سيكتب عنه الشاعر صلاح بوسريف كلمة يتيمة في إحدى الصحف المغربية، ما أزال أحتفظ بها كحجة كتابية على ذلك الإحساس المرعب بخيبة الأمل، الذي ينتاب المناضلين الحزبيين الشباب وهم يتأملون بمرارة مجيء الإبداع من الضفة الأخرى. إن جوهر الإقصاء الذي مورس على الشعر الحق كان كامناً في تلك الكلمة بالذات.

من خلال مجموع أعمالك الشعرية التي انتظمت في الصدور؛ مثل “الورشان” (1993) و”ولع بالأرض” بجزأيه (1996/1998) و”وحدي أخمش العتمة” (2002) و”الجبل ليس عقلانيا” (2007) زاوجت بين التفعيلي والنثري، وانحزت للغنائية، بما هي إيقاع الذات الكاتبة التي تعكس انشغالاتها بقضايا ميتافيزيقية ووجودية. هل ما زالت الغنائية في نظرك قادرة على إنتاج المعرفة بالشعر وتشييد رؤيته الخاصة لعالم تراجيدي يتهاوى باستمرار؟

عادة ما نسمع من قراء الشعر “إن هذا النص الشعري لم يحرك فيّ ساكنا”. لقد كتب الشاعر عبد الكريم الطبال يوما يقول: “لا أستطيع مواصلة قراءة شعر فلان الفلاني” ما المقصود بذلك؟ المقصود بذلك أن النص الشعري الذي لا نستطيع مواصلة قراءته، فقد فشل في تحقيق الغاية المنشودة من القارئ، والتي هي نقله من وضع السكون الذي لا تقبله الطبيعة إلى وضع الحركة الذي هو وضع استثنائي، تتضافر فيه حواسه ومخيلته ومعارفه وحدوسه، لخلق شعور غامض أشبه ما يكون بالرحمة أو بنشوة من يستقبل البريد بعد طول انتظار، أو نشوة الغزو التي تتحقق بمصاحبة الشاعر في رحلته عبر أهوال الكلمة. إذا كان هذا الشعور هو أعز ما يطلب، إذا كان الشعر البارد لا يترك أي أثر في قارئه، فإن أحد مرادفات الشعر هو الغنائية.

ومع ذلك، دعني أقول لك إن الشعر رديف الاستغناء، إنه على رحابة صدره يضيق بالولاءات وبالتصنيفات و(الإتيكيت). إن غلبة حصة الشعر هي ما يجعل هذا النص أو ذاك، قاب قوسين أو أدنى من الشعر. هذا ما أسميه “الدنوّ من الشعر” ولكم أخشى أن تصبح الغنائية وصفا قدحيا سهل التناول، ممن يخلون بواجب الشعر، وممن يزينون لهم أعمالهم ممن يرفعون شعار الحداثة والكونية في الشعر العربي، من غير أن ينتبهوا إلى أن بلادهم العربية لم تعرف الأنوار، ولا عرفت الثورة الصناعية، ولا عرفت فصل الدين عن الدولة، وممن لا تعرف جامعاتهم أقسام الفلسفة، وممن لزموا الصمت بعد حذف أقسام الفلسفة، وممن فاتهم أن “الكونية” هي مصطلح جاء به عصر “الأنوار” وكان القصد منه التصدي للتمييز الذي تبناه الإغريق عندما اعتبروا من هم دونهم “بربرا” يعتبر التخلص منهم أمرا إلهيا؛ هذا التمييز الذي تنحدر منه فكرة الرجل الأبيض، الفكرة التي ما تزال نافذة.

لا علاقة للكونية مطلقا بالسعي إلى الشهرة كما يعتقد بعض شعراء العربية بواسطة ترجمة أعمالهم إلى لغات أجنبية، وبالتنقل بين القارات لحضور المهرجانات، المسماة عالمية. لا.. هذه صناعة إشهارية، وهي عمل محمود إذا كان مرده إشباعا ماديا لدى أصحابها، لكنها ليست مجدا شعريا أو كونية. الكونية هي تحقق حصة “العدل” في الأثر الشعري، العدل بما هو القيام “بالواجب الشعري” على الوجه الذي يبدو مستوفيا شروط الواجب، لأن حصة العدل في الأثر شعريا كان أو غيره، هي التي تجعل القارئ يقول “هذا رائع” أو “هذا جميل” ذلك أن العدل هو الجمال: كلما كان الأثر عادلا أي مشحونا بالواجب كلما تحقق الجمال، والذي ليس سوى “الدنوّ من الشعر”.

في الشعر أعتبر الاستعارة موطني. هذا لا يعني أن الكتابة التي تقصي الاستعارة ليست شعرا: إن من شروط قصيدة الهايكو تجنب الاستعارة، وهذا لا يمنعها من أن تكون شعرا، لكن قصيدة الهايكو هي شعر ياباني يعكس تقاليد ومعتقدات وطموحات ومآسي الشعب الياباني، ولذلك لا يسعنا سوى الابتسام عندما نسمع “هايكو عربي”. ولست أذكر الشاعر الذي قال إن الواقع هو أقوى الاستعارات، وهو قول صحيح إذا ما أخذنا في الاعتبار أن الواقع متحرك باستمرار، وأنه في حركته الأبدية هو الأكثر إصابة بجنون الارتياب، الذي يقل منسوبه عندما يقوم “البيان” والبلاغة والنظم بعملية السطو على القصيدة. لقد كتبت قصيدة “الأنواء” (لا كالوميض.. لا كحطام الضوء) وهي قصيدة طويلة نسبيا، كتبت بجمل اسمية، فقط أقصد لم ترد فيها جملة فعلية واحدة، وكانت القصيدة كلها استعارة واحدة. أيقنت بقراءتها أن الواقع هو ترجمة سيئة للاستعارة، لكن لم ينتبه إلى “الأنواء” أيّ ناقد. ومع ذلك، أوثر فكرة “الواجب الشعري” الذي يتحقق به العدل. هذا الواجب المشحون بالرهبة البدائية وبقوة فيزيائية موجهة، هو الذي يعطينا عملا شعريا تلقائيا رشيقا خاليا من الجهد والتكلف ومحشوا باللامبالاة، شبيها بوميض البرق أو سرعة النهر أو ضراوة الوحش، أي العمل الشعري بما هو الرهبة في رشاقتها وظهورها المفاجئ. إن شاعرا مثل مبارك وساط هو واحد من هؤلاء الذين لا يتوانون في القيام بالواجب الشعري على النحو الذي ذكرت.

في ديوانيك الأخيرين “لا كالوميض لا كحطام الضوء” 2015 و”يغنون وهم يفكون القمر من شباك الصيد” 2022، ثمة – بصورة أوضح- سأم الشاعر ورغبته في التخلي. هل هي لا جدوى الشعر ويأسه من كل شيء؟

يوماً ما قال محمد الماغوط “سئمتك أيها الشعر أيها الجيفة الخالدة”. إنها حالة تنتاب الشاعر عندما يصعقه الواقع ويصيبه بالحبسة، عندما يستنجد بالشعر فيخذله، وهي حالة مألوفة لدى كل الشعراء. لكن في ديوان “لا كالوميض لا كحطام الضوء” ستجد اشتغالا لا يشي بهذه الحبسة، ولعلك قرأت قصيدة “المشاؤون” مثلا، الحافلة بالمشي وبالإصرار على الحياة. إنها قصيدة الشعوب المضطهدة بإرادة رجل واحد اسمه “الرجل الأبيض” المدجج بالأسلحة الفتاكة وبمنظماته الدولية، وبصناديقه النقدية وبنوكه في سائر أرجاء المعمورة؛ قصيدة الأفكار المحبوسة التي تقمع قبل أن تفقس في ذهن المضطهدين. إنه الشعر، المنحة الإلهية، أجمل الاختراعات. ولعلك قرأت في ديوان “يغنون وهم يفكون القمر…” قصيدتي “رواق” و”الأغنية الأخيرة لرسام الخيول” إنهما تتصاديان إلى حد ما مع قصيدة “المشاؤون”. كلا. الشعر لا ييأس شريطة قيام الشاعر بواجبه الشعري، وبالمقابل الشعر يخذل عندما يستعمل مطية لغايات غير شعرية، هذا هو الشعر كما صحبته وكما أسر لي به.

انتبهت إلى قيمة البعد الجمالي بدل الأيديولوجي الذي كان يسلب الشاعر صوته الفردي، في بناء ممارستك الشعرية. وضمن هذا البعد احتفاؤك بالتجريب في جماليات الكتابة، وبالمكون السيرذاتي في صميمها. كيف تنظر إلى تسريد ما هو ذاتي وشخصي في سياق الشعر؟ أو ماذا يبقى من سيرة الأنا الشعري، وماذا يُضاف إليها؟

لقد انتبهت مبكّراً إلى تحقق الشعر عبر السرد بمفهومه الواسع، حيث تصير القصيدة دولة ذات سيادة يتجاوز فيها التفعيلي والنثري، السحري والخرافي والديني والسير- ذاتي، فقصيدة “وميض الهمس الأول” (الورشان، 1993) ثم قصيدة “الأسلاف والأمهات” ( ولع بالأرض 2، 1998) وقصيدة “رواق” (يغنون وهم يفكون القمر من شباك الصيد، 2022) حققت حصة السرد، بما هو طموح الرومانسيين الألمان إلى تحقيق الفن الكوني، أو الأثر الفني الشامل، حيث يتجاور السحر والدين والعقل والشعر والموسيقى والمسرح والفلسفة والأيديولوجيا والشرائع والتاريخ والرحلة.. في رقصة واحدة معقدة ومفهومة في الآن نفسه، تختزل عظمة الإنسان وهشاشته معاً، وما تزال مهمة إعمار الشعر هي شغلي الشاغل جنباً إلى جنب مع شعراء جيلي ومن جاء بعدهم. إن البعد الأيديولوجي حاضر في كتاباتي، لكن من حيث هو أحد مكونات السرد الشعري الرحب، الذي يتحول فيه العالم إلى معزوفة واحدة، متناغمة، مثلما هو حاضر البعد الديني، والبعد السياسي، والبعد النفسي، وكلها أبعاد لا تزيد الشعر إلا رسوخا.

ما هي طقوسك الخاصة أثناء الكتابة، وهل تعود إلى تنقيح ما تكتبه؟

كتابة الشعر ليست تدوينه بالخط على الورق، أو رقنه بواسطة الكمبيوتر، إنها نشاط ذهني، انشغال نحيا به، إنها علة وجودنا، وهويتنا وسلوكنا؛ أي انشغالنا باختراع أنفسنا، سواء عمدنا إلى تدوينه أم لم نعمد إلى تدوينه على الورق، ولذلك في إمكاني القول إنه ليس للكتابة طقوس على الإطلاق. ربما يقتضي تدوين الشعر طقوسا معينة، تختلف من شاعر إلى آخر. هناك من يختار المساء للتدوين، وهناك من يستحم بالماء الدافئ، وهناك من يتعطر، وهناك من يضبط الإنارة في مستوى معين ويضبط ضجيج الشارع، وهناك من يفعل ذلك ويضيف عليه سجائر وفنجان قهوة، لكن في الأخير تبقى هذه الطقوس أعمالا تحضيرية أقرب إلى انتظار المعشوقة منها إلى القبض على الحالة الشعرية تدوينا أو رقنا. لقد قمت مرة بشيء أشبه بهذا: سافرت من دمشق إلى “معلولا” وهي بلدة توجد على بعد حوالي 60 كيلومترا شمال شرق دمشق، ظنا مني أنني، وأنا أستمع إلى البسطاء يتكلمون اللغة الآرامية التي انحدرت منها العبرية والعربية، سأرى عبور الحرف العربي في الجيولوجيا وفي الشقوق التي تخترق كهوفها وسقوفها. ربما كان ذلك شكلا من أشكال الطقوس، غير أنني لم أظفر من تلك الرحلة سوى بلقاء راهب شاب اسمه سركيس كان يسقي الماء للدير، تبادلنا كلاما مقتضبا، وأذكر أنني قلت له إن بلادنا أرض التسامح.

بإيجاز، لماذا تكتب؟ ولمن تكتب؟

لدي نص في (لا كالوميض لا كحطام الضوء) بعنوان “أكتب حتى تصير الشمس خدعة”. إن الاستعارة هي الأصل، وليس الواقع سوى ترجمة سيئة للاستعارة، ولذلك يتوجب تصحيحه؛ هذا التصحيح هو الخدعة الأبدية. الشاعر هو الكائن الوحيد الذي عندما يكتب عن الطيور، فإنما ليخبئها في كلماته، ليحميها من القناصين، هو الوحيد الذي باستطاعته أن يشفق على الطغاة لأنهم في الواقع نزلاء مشافٍ هربوا منها للتو، وباختصار إنه كائن مريض بالكلمة ولا يتداوى إلا بالكلمة. دعني أقول لك إن في ملحمة «المهاباهارتا» ما يشبه هذا الكلام، فاستخدام فنون الخداع هو من الامتيازات التي تختص بها الآلهة.. وأوديسوس إنما حُكم عليه لأنه شارك الآلهة في الخداع. ولعل من أشكال الخداع التحقق الفلسفي في الشعر، أو ما يسمى «بالميتاشعري» التحقق الفلسفي في الشعر من حيث هو التوضيح المنطقي لحرفة الشعر عدة ومتاعا. إنها رسالة الشاعر التي حملها على عاتقه منذ الرهبة الأولى التي انتابت الإنسان الأول، حتى قبل أن يسكن المغارات ويرتدي الجلود.

حاوره: عبد اللطيف الوراري

(عن القدس العربي)

Top