إلى حد قريب كانت أعمال مريم مزيان (1930-2009) بقدر ما تثير فيَّ الإعجاب بقدر ما تجعلني أحس أمامها بحيرة كبرى. فأعمالها المعروفة والمتداولة تكاد تندرج في ما نعتته غير ما مرة بالاستشراق الداخلي. غير أن اطلاعي على عدد أكبر من لوحاتها ورسومها ومنحوتاتها جعلني أغيّر هذه النظرة من غير أن تنمحي في ذهني بعض معطياتها.
هذه المرأة الأرستقراطية الآتية للفن من الشمال المغربي، كانت أول امرأة مغربية ترتاد ميدان التصوير الفني. ولعلاقة جدها وأبيها بالإسبان أثر كبير في ذلك، فأبوها من أعيان المؤسسة العسكرية، توج ماريشالاً في 1974 على يد الحسن الثاني ملك المغرب حينها، وجدّها حظي باهتمام عاهل إسبانيا في بدايات القرن الماضي.
عاشت مريم مزيان بين مدينة مليلية المحتلة ونواحي مدينة الناظور في وسط يشكّل الفن فيه مادة دسمة للرقي الاجتماعي. وتعلمت فنون الرسم في مدينة العرائش بشمال المغرب قبل أن تستقر بمدريد وتبدأ في العطاء والعرض منذ سنة 1953.
لم يكن لهذه المرأة الشابة التي تتقن الرسم والتقاط تفاصيل الوجوه والأجسام، أن تمر في دراساتها العليا بالطريق الذي سلكه أندادها. فقد تم قبولها في الدراسات العليا بكلية الفنون الجميلة سان فرناندو بمدريد من غير أن تمرّ بالمرحلة الدراسية التحضيرية بمدرسة سانت إيزابيل بإشبيلية، تقديرا للمهارات التي اكتسبتها قبلاً.
المرأة ومسرحة الجسد
كانت مريم مزيان أول امرأة ترسم نساء غير متحجبات، وهو أمر كان في مغرب بداية الخمسينيات علامة على الحداثة والتحرر، وتوقِ المغربيات آنذاك للاندماج في مغرب يطمح لآفاق جديدة اجتماعيًا وسياسيًا واقتصاديًا بعد أربعة عقود من الاستعمار. وهكذا، كان معرضها في تلك المرحلة بالرباط (وهو المعرض الذي افتتحه آنذاك جلالة الملك الحسن الثاني حين كان لا يزال وليًا للعهد) أول معرض لامرأة فنانة مغربية ذات تكوين أكاديمي. ولهذا فقد أثار مسيرها انتباه ناقد فرنسي هو سانت إينيان، الذي يعتبر أول من أرخ للحركة الفنية الشابة، التي كانت آنذاك تتضمن فنانين من قبيل أحمد اليعقوبي وفريد بلكاهية ومولاي أحمد الدريسي ومحمد الحمري وحسن الكلاوي.
انصب اهتمام مريم مزيان مذ بداياتها على المرأة. فتراها ترسم لوحات للمرأة المغربية من الشمال إلى الجنوب مركزة على نوع اللباس والحلي بالأخص، وعلى الملامح والنظرة. وهذا التركيز لم يكن ضربًا من الواقعية الفجة، بالرغم من أن بعض لوحاتها تكاد تخرج من عالم دولاكروا وتصوره للنساء العربيات. إنها نظرة تتراوح بين الإمساك التناظري والمرجعي بالكيان الأنثوي وبين التأويل الشخصي الذي يعبر عن التصور والفكرة. هكذا تمسرح مريم مزيان الجسد وتمنحه وضعيات تمكنها من ضبطه والتحكم به. إن هذه النظرة الاستعراضية تحيل طبعا إلى الفوتوغرافيا وتمكن الفنانة من خلق نماذج شبيهة بالنماذج الاستشراقية. بيد أنها تسعى أحيانا إلى التحرر من هذه الواقعية الرومانسية التي تمنح طابعًا مثاليًا للمرأة وتجردها من سياقها، عبر التركيز على الكيان لا على هوية الشخص. يتم ذلك من خلال الأسْلبة التشكيلية أحيانًا وتبسيط الملامح والوضعية ومداورة المرجع الواقعي.
الأطلال هندسة تجريدية للخراب
انصب اهتمام مريم مزيان مذ بداياتها على المرأة. فتراها ترسم لوحات للمرأة المغربية من الشمال إلى الجنوب مركزة على نوع اللباس والحلي بالأخص، وعلى الملامح والنظرة.
بيد أن ما يشدنا أكثر لدى هذه الفنانة، هو تصويرها للمناظر الطبيعية التي تغدو بألوانها الداكنة أشبه بالفضاء الهندسي التجريدي الموحي بالعزلة والكآبة التي تفصح عن الحساسية التي بها تتعامل الفنانة بها مع الفضاءات المفتوحة.
من ناحية أخرى خصصت الفنانة بعضًا من أعمالها للجنوب المغربي وكأنها ترثي للقصور المتهاوية التي تعبر عن حضارة تليدة بدأت تترك المجال الريفي والواحات للاستقرار بالمدن. هذه القصور، عبارة عن قلاع شاهقة مبنية بالطين كانت تحتضن حيوات تتمتع بدفء علاقات اجتماعية حطمتها الدور الصغيرة المبنية بالإسمنت المسلح، ومعها تفككت تلك العظمة التي كانت تطبع الحياة الجماعية. تبدو الأطلال في منظور مريم مزيان عبارة عن هندسة تجريدية للخراب وللامعنى، وتعبيرًا عن دورة الحياة التي ينتهي فيها العدم إلى الإمساك بالحياة. وفي هذه الكآبة التي تنضح بها تلك اللوحات نعيش دورة المعنى كما نعيش مع الفنانة قدرتها على التأقلم مع موضوعها كي تجعله منبعًا لإلهام تشكيلي جديد يخرجها من الواقعية إلى تخوم التعبيرية.
البورتريه الشخصي .. فتنة وافتتان
لكن ما يمنح لتجربة الفنانة سحرها هو سلسلة البورتريهات الشخصية التي خصصتها لنفسها. فقد تركت لنا مريم مزيان عددًا هائلاً من البورتريهات بالزيت والغواش وبالقلم لكافة مراحل حياتها. وهذه العلاقة المرآوية العاشقة للذات تفصح عن كون التشكيل والرسم هو رغبة نابعة من تخليد الذات قبل الانفتاح على العالم. كما أنه افتتان شبه نرجسي بجمال الوجه وملامحه ومرآة من خلالها ترصد الفنانة بواطنها. بل إن هذه العلاقة لن تنحصر في البورتريه الذاتي، بحيث حين يدقق المرء في وجوه ذلك العدد اللانهائي من النساء اللواتي رسمتهن الفنانة، يكتشف أن لا لوحة تقريبًا تخلو من وجه الفنانة، سواء كانت المرأة المرسومة من الشمال أم من الجنوب. وكأن هذا الوجه الشخصي يسكن وجوه كل النساء اللواتي تمسك بهن الفنانة بمخيلتها في اللوحة. هل هي الرغبة في إضفاء طابع الوحدة والهوية على المرأة عمومًا في انتمائها؟ أم هو سعي الفنانة إلى التعدد تعبيرًا عن شساعة ذلك الانتماء؟
القليلون ممن يعرفون إنتاج مريم مزيان لم يطلعوا على العديد من لوحاتها التي ترسم فيها الجسد الأنثوي العاري، بالكثير من الحساسية الجمالية. هذه الأعمال، إن كانت تخرج ظاهريًا عن الاهتمامات الاجتماعية والإثنوغرافية للفنانة، فهي تمنحها مع ذلك أحيانًا طابع الانتماء لعملها، من خلال العلامات المحلية التي يُخفى بها جزء من الجسد العاري. كما أن الفنانة إن كانت قد تركت رسومًا كثيرة تخصصها لموضوعاتها الأثيرة، فإنها أيضا تركت لنا العديد من المنحوتات التي تستعيد فيها شخصياتها المفضلة بالكثير من الدقة، خاصة في التعبير عن الحلي والملابس.
يحق للتاريخ القصير للفن المغربي الحديث والمعاصر أن يتباهى بفنانة فتحت المجال لبنات جنسها لارتياد التعليم والممارسة الفنية بقوة حداثية، تركت لنا معه ريبيرتوارًا غنيًا ارتاد كل النماذج الاجتماعية. وهي خلافًا لمعاصرها حسن الكلاوي، الذي بلور أسلوبًا فرديًا، ظلت وفية لتعليمها الكلاسيكي من غير أن تغرق فيه، مانحة لنا تجربة متعددة وغنية، تتسربل بنظرتها وحكايتها الشخصية، كما بأحلامها وعشقها للآخر.
فريد الزاهي