في البدء
يسوّغ نظام التبعية أيديولوجيا ومعرفيا عم طريق المؤسسات الثقافية والإعلامية. فمع الرساميل والغذاء والسلاح نستورد الأخبار والكتب والأفلام والمسلسلات والإعلانات، التي تعمل بدون هوادة على تكوين العقول والأمزجة وأنماط الحياة، بحيث تتلاءم مع النظام وتستجيب له، بل بحيث يصبح العيش بدونه أكثر فأكثر صعوبة.
والواقع أننا لم نعد بحاجة إلى “استيراد” الثقافة، فهي لا محالة تبث بواسطة الأقمار الصناعية التي تسيطر عليها وكالات الأنباء التابعة بدورها للشركات متعددة الجنسيات. وتقوم (وبغرابة لا مثيل لها) الفئات الحاكمة المحلية بتأكيد المفاهيم والقيم وأنماط السلوك التي تخدم استمرار سيطرتها على رعاياها (وليس مواطنيها). ويساعد للأسف، انتشار الأمية، والانشغال في متاعب الحياة اليومية على عزوف الناس عن الثقافة الجادة. بل ويصبح المصدر الوحيد “الثقافي” هو التلفزيون، الذي يقوم عبر جميع برامجه بما فيها برامج التسلية والترفيه، بالدور الأكبر في تكريس التبعية الثقافية، وبوجه خاص في نشر وتكريس وتعميق نمط الحياة الاستهلاكية المتخلفة.
أليس مثيل هذا ما نعيشه بالمغرب؟؟
في استشراء خطر الفئات الطفيلية
في تداعيات إنتاج وإعادة إنتاج نظام التبعية لطبقاته وفئاته الاجتماعية التي تتكون مصالحها عبر تكريس وتعميق هذا النظام. تتّسع (وهذا أساسي) الطبقات والفئات الطفيلية ويستشري بالتداعي خطرها، وتتضاءل أهمية الطبقات والفئات المنتجة. وهذه العملية تجري سواء بالنسبة لـ “الطبقات” الحاكمة أو المسودة المضطهدة. فالبورجوازية التي تقوم بدور الوسيط، الذي يسهل للرأسمال الاحتكاري الأجنبي الهيمنة والتحكم بمفاتيح الاقتصاد الوطني، تصبح (وهذه مفارقة؟) “الطبقة الأهم” بين “الطبقات العليا”، بينما يتضاءل حتى يكاد ينعدم دور “البورجوازية الوطنية؟ التي وظف بعضها رساميل في بعض الإنتاجات الوطنية الاستهلاكية الخدماتية في المرحلة التي تلت الاستقلال السياسي، قبل أن تتحول إلى كومبرادور تبعي في السنوات التي تلت. الأهم أنه مع تضاؤل دور “البورجوازية الوطنية” وتعاظم دور البورجوازية الطفيلية، تتغير، وقد تغيرت بالفعل، بنية الطبقة العاملة، وأصبح وزنها في المؤسسات الوطنية أقل، وذلك (أيضا) بترافق مع تختّر وترهل النقابات وفساد بعضها. تزامن كل هذا مع تزايد الفئات الهشة والرثة المرتبطة بالمؤسسات غير الإنتاجية. ومع تراجع الإنتاج الزراعي وعدم كفايته لتلبية الاحتياجات الأساسية للفلاحين، تتزايد، وقد تزايدت بالفعل، هجرة الريفيين إلى المدن وتعاظمت فئات المهمشين والباحثين عن العمل، العاملين في القطاعات غير النظامية.
ومع التزايد المطرد لدور الدولة في الحياة الاقتصادية والاجتماعية والتضخم الهائل للمؤسسة العسكرية، تتعاظم أهمية بورجوازية الدولة بمختلف فئاتها، الفئات التي تنزع بطبيعتها إلى تسخير مؤسسات الدولة بما فيها القطاع العام (كما هو الحاصل الآن بالمغرب؟) لمصالحها الخاصة، والاستئثار بقسم من الفائض الاقتصادي. وفي ظل غياب الرقابة الديمقراطية ومع تزايد الاحتكارات الأجنبية تتحول هذه الفئة إلى شريك أساسي للبورجوازية الاحتكارية، بل وتصبح في بعض الحالات أهم سند اجتماعي محلي لتلك البورجوازية.
في الختم الغير نهائي
في اعتقادنا، إن ما أسلفاه، تحليل سريع لحالة التبعية التي تعيشها البلدان العربية (ومنها المغرب بدون ريب) بما فيها البلدان الإسلامية الأخرى. وهي الحالة التي بسببها نقول: إن أولى الأولويات المطروحة أمام القوى السياسية الوطنية في البلاد العربية هي أولوية التخلص من التبعية (هكذا نأمل بمعية المتفائلين ) لأن التناقض الرئيس اليوم هو بين أنصار التبعية وأنصار التحرر. وإن القوى الاجتماعية يجب أن تتحالف لحل هذا التناقض لصالح التحرر في جميع الطبقات والفئات الاجتماعية التي تتناقض مصالحها مع استمرار التبعية.
هذه الحالة تطرح بديهيا عدداً من الأسئلة الأساسية التي لابد لأية قوة سياسية تقدم نفسها كممثلة للطبقات والفئات الشعبية، كمعادية لقوى الاستعمار الجديد الاحتكاري من أن تطرحها وتضع تصوراتها الخاصة بالإجابة عنها. أسئلة عن كيفية معالجة أشكال التبعية: التجارية والمالية والغذائية والثقافية وغيرها… وعن طابع النظام السياسي القادر على تلك المعالجة.
كيف نحل المسألة الزراعية وفق الآليات الملائمة لتطور الإنتاج الزراعي.؟ ما هي الصناعات الملائمة لبلداننا وما هي التكنولوجيا الملائمة؟ كيف يمكن التخفيف من الاعتماد على الخارج في نقلها؟
ما هي السياسات الاقتصادية والمالية التي تساعد على تخفيف عبئ المديونية تمهيدا للتخلص من التبعية المالية؟
كيف نواجه سيل التدفق الإعلامي والثقافي الأجنبي دون أن نخسر الإنجازات الحضارية التي وصلت إليها البشرية؟.
وغيرها من الأسئلة الأخرى الرئيسة وليدة لحظتها وراهنيتها.
< بقلم: عبد الله راكز