مطارحة قانونية بخصوص الحياد الإيجابي للقاضي المدني

عن علي كرم الله وجهه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثه إلى اليمن قاضيا فقال له: (إذا جلس بين يديك الخصمان، فلا تقضين حتى تسمع كلام الآخر كما سمعت كلام الأول، فإنه أحرى أن يتبين لك القضاء) رواه الترمذي وأبو داود (1)
لما كان القضاء من أجل الرسائل قدرا، وأشرفه ذكرا، وأعزه مكانا، فهو مهمة الأنبياء، وإليه المفزع في الشكوى والخصومات، فإن هذه العظمة لا تنجلي لعموم المواطنين إلا إذا استشعرها القضاة في نفوسهم أولا، وقويت بها عزائمهم، وظهرت من خلالها شمس الحق ساطعة في أحكامهم.
ولعل ما يُظهر ذلك جليا، حضور الدور الإيجابي للقاضي أثناء جريان الخصومة القضائية، باعتباره حارسا للعدالة يذب عنها كل المصائد والمكائد، حتى يصل بها إلى مرحلة تنجلي له فيها الحقيقة القضائية، وكلما قربت هذه الأخيرة من الحقيقة الواقعية إلا وكان العدل مقترنا بأحكامه.
وقرب الحقيقة القضائية من الحقيقة الواقعية، يختلف باختلاف المناهج المعتمدة في نظرية الاثبات أمام القضاء، فالمنهج المطلق يعطي للقاضي دورا إيجابيا وسلطات واسعة للتدخل في الاثبات إلى حد البحث عن الدليل، وهنا تظهر الحقيقة القضائية قريبة حد التطابق مع الحقيقة الواقعية، أما المنهج المقيد فيغل يد القاضي ويجعله مجرد مُشاهد لمباراة بين خصمين، ينتظر انتهائها ليتعرف على الفائز فيها، فيكون حياده حيادا سلبيا لا يضيف للخصومة أي شيء، وقد تظهر الحقيقة القضائية فيه بعيدة عن الحقيقة الواقعية، فتبتعد بذلك أحكامه عن العدالة.
أما المنهج المختلط فهو منهج وسط يأخذ من كلا المذهبين السابقين، ومقتضاه أن يكون القاضي محايدا، مع منحه دورا إيجابيا في تسيير الخصومة بما يضمن حقوق الأطراف وبلوغ العدالة، وقد فصل العلامة عبد الرزاق السنهوري في كل منهج مع بيان مؤيداته وعوارضه في كتابه الوسيط في شرح القانوني المدني الجديد لمن أراد أن يطلع على هذه المناهج بشكل مفصل. (2)
أما المشرع المغربي فقد اعتمد المنهج المختلط، فأعطى للقاضي دورا إيجابيا في الاثبات وفي تسيير الدعوى القضائية من خلال قوانينه المسطرية والموضوعية، إلا أن الظاهر من خلال الواقع العملي أن حياد القاضي أسيء فهمه، فأصبحت كل حركة في اتجاه تجهيز الملف وبلوغ العدالة، بحكم منصف يبت في جوهر النزاع تُجابه بعبارة حياد القاضي، وساهم في ذلك أن المحكمة في كثير من الأحيان تخلت عن دورها الايجابي، حتى أصبح هناك واقع فرضته بعض الممارسات العملية يقترب إلى حد كبير من المنهج المقيد، والحال أن لها من الدور الايجابي الذي منحه لها المشرع ما يسعفها في أداء مهمتها بكل حزم، في سبيل تتبع طريق ظهور الحق، وقطع الطريق في وجه أصحاب النيات السيئة، الذين يخالفون دلالة عبارة المادة 5 من قانون المسطرة المدنية الموجبة على كل متقاض ممارسة حقوقه طبقا لقواعد حسن النية.

فما هو المقصود إذن بهذا الحياد ؟ وما هي حدوده؟ وماذا يقصد بالدور الإيجابي للقاضي؟ وماهي مظاهره في قانون المسطرة المدنية ؟

يستعمل فقهاء القانون عبارة حياد القاضي عند الحديث عن نظرية الاثبات باعتباره مبدأ من المبادئ الرئيسية التي تقوم عليها، إضافة إلى مبدأ النظام القانوني للإثبات، ومبدأ حق الخصم في الاثبات.
ومفهوم حياد القاضي؛ ألا يقضي إلا بما يظهر له من إجراءات الدعوى المعروضة عليه، ولا يجوز له أن يستجمع الأدلة وإنما يقتصر على ما يعرض عليه منها، ولا يقضي بدليل قدمه أحد الخصمين إلا بعد أن يمكن الخصم الأخر من مناقشته، ولذلك منع القاضي من الحكم بعلمه الشخصي، لكون علمه يشكل دليلا في القضية ومن حق أطراف الدعوى مناقشته، مما سيضع القاضي في منزلة الخصوم، فيكون بذلك خصما وحكما وهذا لا يجوز.(3)
أما الدور الإيجابي للقاضي؛ فمُنطلقه تبني المشرع المغربي المنهج المختلط في الاثبات، على غرار المدرسة اللاتينية التي تعطي للقاضي حركية إيجابية في تسيير الدعوى والأمر بإجراء التحقيقات وتقدير أدلة الاثبات، واستكمال الأدلة الناقصة، وفهم موضوع النزاع من خلال استجواب أطراف الدعوى، وكل ذلك يشكل مفهوما للدور الإيجابي للقاضي المدني.
وتبقى مهمة القيام بهذه الحركية موكولة للقاضي، عن طريق تفعيل النصوص القانونية التي تخوله السير بالدعوى في مسارها السليم حتى يتحقق الاطمئنان لأطراف الخصومة بحكم عادل استنفذ جميع مراحله القانونية المتاحة داخل أجل معقول، فتعود آثاره بعد ذلك على المجتمع من خلال تحقيق الاستقرار وتعزيز ثقة المواطن في القضاء.
ونحن سنعرض لأهم مظاهر هذا الدور الإيجابي من خلال قانون المسطرة المدنية، باعتباره المحرك الرئيسي للدعوى بما تضمنه من نصوص إجرائية في مختلف أقسامه وأبوابه.
وتحدد المادة الأولى من هذا القانون أول هذه المظاهر بنصها على ضرورة انذار القاضي للطرف بتصحيح المسطرة، ومؤدى ذلك أن ينذر القاضي المدعي لإثبات صفته أو أهليته أو مصلحته، إذا تبين انتفائها من خلال اطلاعه على الملف أو إذا كانت محل دفع من طرف المدعى عليه، ويترتب عن عدم إصلاح المسطرة بعد الإنذار الحكم بعدم قبول الدعوى.
إلا أن تطبيق هذا النص يختلف من محكمة لأخرى بخصوص صيغة الانذار، فتجد بعض المحاكم تنذر الطرف المدعي لإثبات صفته بالعبارة التالية ” المحكمة تقرر إنذار المدعي لإثبات صفته أو مصلحته ” أو ” المحكمة تقرر إنذار المدعي لإصلاح المسطرة ” دون بيان للوثائق والأوراق التي يجب الإدلاء بها بعلة حياد المحكمة، فتصدر حكما بعدم قبول الدعوى إذا لم يصلح المسطرة.
والظاهر أن دلالة عبارة الفصل الأول من قانون المسطرة المدنية لا تحتمل هذا التفسير، طالما نصت على إنذار الطرف بتصحيح المسطرة داخل أجل تحدده، فهي بذلك لم تمنع المحكمة من تحديد المراد بتصحيح المسطرة، فلا ضير في تحديد ما يجب على المدعي أن يدلي به، وحتى يتضح المقصود من ذلك نسوق المثال التالي : تقدمت زوجة بدعوى في مواجهة زوجها تطالبه فيها بنفقتها ونفقة أبنائها، وعند حضورهما للجلسة تبين للقاضي عند اطلاعه على الملف أنه يتضمن مقال الدعوى فقط دون الوثائق التي تثبت صفة المدعية، فهنا نكون أمام أمرين؛ إما أن ينذرها لإصلاح المسطرة، ويخبرها بضرورة الإدلاء بعقد الزواج وعقود ازدياد الأبناء، أو ينذرها بالعبارة التالية فقط : ” المحكمة تنذر المدعية لإصلاح المسطرة بإثبات صفتها في الدعوى” دون توضيح للوثائق التي يجب الإدلاء بها، مع استحضار أن المتقاضي غالبا لا يستوعب المقصود من تلك العبارات القانونية.
لا شك أن الإجراء الأول الذي حدد للمدعية الوثائق التي يجب الإدلاء بها يوافق منطوق النص وروح العدالة، كما أنه مختصر للوقت ومقلل للجهد ومقتصد في المال، فما الغاية من إصدار حكم بعدم قبول الدعوى وتعليله بما يستوجب الادلاء به، وقد كان بالإمكان تحديد تلك الوثائق للمدعية للإدلاء بها خلال الجلسة، فإذا أحضرتها تم الفصل في جوهر النزاع، فلا تُرهَق المحكمة بإعادة المدعية فتح ملف جديد لتجاوز هذه الاختلالات الشكلية التي جاء ذكرها في الحكم بعدم قبول الدعوى !!!
وعليه فلا تعارض بين حياد القاضي ودوره الإيجابي الذي يستمده من مقتضيات الفصل الأول من قانون المسطرة المدنية، خاصة إذا علمنا أن الصفة مستقلة عن ثبوت الحق أو عدم ثبوته. (4) وما دام أن جوهر العدل يتحقق عندما تتصدى المحكمة للبت في جوهر النزاع وليس بصدور حكم بعدم القبول.
وبالانتقال إلى الفصل 32 من قانون المسطرة المدنية، نجده ينص صراحة في فقرته الأخيرة على أن القاضي المقرر أو المكلف بالقضية يطلب عند الاقتضاء تحديد البيانات غير التامة أو التي تم إغفالها، كما يطلب الإدلاء بنسخ المقال الكافية وذلك داخل أجل يحدده تحت طائلة عدم قبول الدعوى.
وإذا كانت محكمة النقض فسرت هذا المقتضى على أنه لا يلزم القاضي بإنذار الأطراف للإدلاء بالوثائق التي تعزز دفوعهم، بل بالبيانات الناقصة أو التي تم إغفالها، حتى لا يخرج القاضي عن الحياد المفروض عليه (5)، فإن الفصل 334 من قانون المسطرة المدنية نص على ما يلي: ” يتخذ المستشار المقرر الإجراءات لجعل القضية جاهزة للحكم ويأمر بتقديم المستندات التي يرى ضرورتها للتحقيق في الدعوى … ”
فهذا النص أعطى دورا إيجابيا للمحكمة امتد إلى جعلها تأمر بتقديم المستندات التي ترى أنها ضرورية في التحقيق، على اعتبار أن وظيفتها تتعدى الفصل في النزاع إلى الفصل في الخصومات وفق القانون وبناء على معطيات دقيقة، وذلك ما يستشف من خلال منح المحكمة صلاحية الأمر تلقائيا بأي إجراء من إجراءات التحقيق؛ من قبيل البحث والخبرة والمعاينة وتحقيق الخطوط. ولا يعتبر عملها هذا صناعة للحجج والأدلة، بل إن من أوكد وظائفها تحقيق الدعوى للوصول إلى الحقيقة، واستجواب الأطراف عن طريق طرح الأسئلة، وأمرهم بتقديم المستندات الضرورية في التحقيق وطرحها للمناقشة والرد بين الأطراف، في إطار حق الخصوم في مناقشة الأدلة التي تقدم أثناء سريان الدعوى.
فكم من ملف ضعت بداخله مذكرة جوابية للمدعى عليه تضمنت دفعا بانعدام صفة المدعي، سعيا لإبعاد المناقشة عن مسارها الطبيعي بالعبارة الأكثر كتابة في المذكرات وهي: ” وحيث إن مقال المدعي جاء مخالفا لمقتضيات الفصلين 1 و32 من قانون المسطرة المدنية مما يتعين التصريح بعدم قبول الدعوى ” دون أن يجيب في جوهر النزاع، وعند استجواب المحكمة للمدعى عليه في جلسة البحث يقر بعلاقته بالطرف المدعي، من قبيل وجود علاقة كرائية أو أنه مدين له بمبلغ معين على سبيل المثال، لذلك، فالأوامر التلقائية التي تصدرها المحكمة استنادا إلى الفصل 55 من قانون المسطرة المدنية، في إطار حركة إيجابية للوصول إلى الحقيقة، تسعف في كثير من الدعاوى ليصل صاحب الحق إلى حقه دون تماطل، إضافة إلى قطعها الطريق أمام من يريد أن يجعل من القواعد الإجرائية غاية في حد ذاتها، وليست وسيلة للوصول إلى العدالة.
وقد ذهبت محكمة النقض في قرار لها إلى أنه ” يمكن للمحكمة حتى في حالة كون دعوى المدعي مجردة من الإثبات أن تأمر بإجراء خبرة، دون أن يشكل ذلك إخلالا بمبدأ الحياد، ولا أن يشكل إقامة للحجة لطرف في مواجهة الآخر، ما دام الفصل 55 من قانون المسطرة المدنية يعطي للمحكمة صلاحية الأمر تلقائيا أو بناء على طلب الأطراف أو أحدهم بأي إجراء من إجراءات التحقيق . ” (6)
ومن القضاء المقارن نجد قرارا فريدا لمحكمة النقض السورية جاء فيه : ” وحيث إن القضاء مؤسسة عدل وإنصاف وليست مؤسسة اصطياد المتقاضين بأخطاء لا قيمة لها على شكليات وموضوع الحق المدعى به وكان على المحكمة مصدرة القرار الطعين – المطعون فيه – أن تكلف الجهة المدعية إبراز صورة عن هذه الشهادة المحفوظة لدى جهات رسمية ووثائقها لها حجة على الكافة لا أن تقرر رد الدعوى استنادا على القول بانتفاء شكلية قانونية معينة هي موجودة أصلا بظاهر الأوراق مما يجعل قرارها موضوعا يعيب مخالفة القانون وعرضة للنقض . “(7)
ومن مظاهر التدخل الإيجابي للقاضي في الدعوى المدنية، إمكانية توجيهه اليمين المتممة تلقائيا للطرف الذي لم يعزز ادعاءاته بالحجة الكافية بقوة الفصل 87 من قانون المسطرة المدنية.
كما أن اليمين الحاسمة التي نص عليها الفصل 85 من قانون المسطرة المدنية، لم تعد ملكا للأطراف يوجهونها ولو لنقض ما جاء في حجة كتابية، بل تدخلت محكمة النقض وأعطت للقاضي إمكانية رفض توجيه اليمين الحاسمة في الحالة التي يظهر له وجود تعسف في توجيهها، فجاء في أحد قراراتها ” لئن كانت اليمين الحاسمة من وسائل الاثبات، فإنه يبقى من سلطة المحكمة التدخل لمنع المتعرض من التعسف في استعمال الحق في توجيهها لطالبي التحفيظ الذين أدلوا بما يثبت ملكيتهم للمدعى فيه ” (8)
والحق يقال أن الدور الايجابي للقاضي في تسيير الخصومة القضائية وتحقيق الدعوى بالشكل الذي يحفظ للأطراف حقوقهم، ويصل بهم لحكم يكون عنوانا للحقيقة، ينقله من حياد سلبي إلى حياد إيجابي، باعتباره يتولى حماية حقوق الأشخاص والجماعات وحرياتهم وأمنهم القضائي والتطبيق العادل للقانون بقوة الفصلين 110 و 117 من دستور المملكة.

المصادر والمراجع

> انظر كتاب مقاصد الشريعة الإسلامية لفضيلة العلامة الامام محمد الطاهر بن عاشور ص 194 مطبعة دار السلام و دار سحنون للنشر والتوزيع – الطبعة الثانية 2007
> الوسيط في شرح القانون المدني الجديد الجزء الثاني نظرية الالتزام بوجه عام الاثبات – آثار الالتزام ص الصفحات 26 -27-28-29-30
> انظر الوسيط في شرح القانون المدني الجديد الجزء الثاني نظرية الالتزام بوجه عام الاثبات – آثار الالتزام للدكتور عبد الرزاق السنهوري الصفحة 34-33
> انظر قرار محكمة النقض عدد 4806 الصادر بتاريخ 30/10/2012 في الملف المدني عدد 343/01/02/2012
> انظر قرار محكمة النقض عدد 213 الصادر بتاريخ 13/02/2014 في الملف الاجتماعي عدد 404/05/01/2013
> انظر قرار محكمة النقض عدد 2622 الصادر بتاريخ 13/09/2006 في الملف المدني عدد 1769/01/05/2005
> قرار محكمة النقض السورية – رقم الأساس 231 رقم القرار 200 بتاريخ 02/05/2018 منشور بصفة الأستاذ عارف الشعال على موقع التواصل الاجتماعي فايسبوك.
> انظر قرار محكمة النقض عدد 259 الصادر بتاريخ 30/04/2013 في الملف المدني عدد 4999/01/01/2012 منشور بالصفحة القانونية Jurispresso على موقع التواصل الاجتماعي فايسبوك.

 بقلم: ذ. محمد الكوسي 

قاض بالمحكمة الابتدائية بتيفلت

Related posts

Top