عرضت الفنانة التشكيلية صوفيا أعبي مؤخرا جديد تجربتها الإبداعية بالمركب الثقافي محمد السادس بمدينة شفشاون في إطار المهرجان الدولي الثاني للفن التشكيلي المقام بشفشاون بمبادرة من مركز “رواسي فلسطين للثقافة والفنون”، وذلك بمناسبة ذكرى مرور 68 عام على نكبة الشعب الفلسطيني، إذ تم تكريم كل من الشاعر عبد الكريم الطبال، والمخرج السينمائي عبد الكريم الدرقاوي، والفنان التشكيلي محمد حميدي.
في عز طفولتها الحالمة، اكتشفت المبدعة صوفيا أعبي الرغبة الملحة في القول التشكيلي، فداعبت عددا وافرا من الأساليب الصباغية، كما خبرت مجموعة من التقنيات والمهارات في مجال التلوين والتركيب، لتتوج هذه الإرهاصات الأولى بتكوين رصين بالمدرسة العليا للفنون الجميلة بالدار البيضاء.
تواصلت بعد ذلك حلقات الارتواء الفني الفياض، وتوالت معه مقامات التحديث والتجريب لتتشكل في صيغة لغة تعبيرية رمزية تمتح من التجريد الإيحائي والتشخيص الجديد معا. تتملك صوفيا أعبي رغبة جامعة في ترجمة أحاسيسها الوجدانية، وهواجسها الفكرية في حضرة اللوحة، مسكنها الرمزي وكيانها الوجودي. إنها تمنحنا بسخاء الأطفال الحالمين مثلها علامات ورسائل مبطنة مشبعة حتى الثمالة بالتنوير الذي يخترق انسيابية الأشكال والألوان، ويقترح فضاء تصويريا مغايرا يتسم بالحيوية. صوفيا أعبي تجسر على خوض مغامرة التشكيل الصباغي بعين المصممة التي تنصت لصوت دواخلها، مراهنة على هندستها الروحية التي يتراجع معها كل تسطيح أو تنميط. يبقى اللون المنساب هو سيد اللوحة ومقومها الجوهري، إذ يرحل بالناظرين إلى أعماق ذواتهم وواقعهم عبر ضفاف تعبيرية لا متناهية. لا تتقيد هذه المبدعة الشابة بالمفاهيم التشكيلية المسكوكة والمتوارثة، كما أنها لا تخضع متخيلها البصري للمحمولات الأكاديمية. إنها تلتزم بميثاق الإحساس المباشر والخام في لحظة إنشاء اللوحة، وتأثيث عوالمها المشهدية. عندما تباشر متاهة اللوحة، تطلق العنان لمخيالها الرمزي، وما تراكم من انطباعات عامة وخاصة في عينها الداخلية، هي التي تدرك جيدا بأن اللوحة تنتقل من الرؤية إلى الرؤيا بفعل الإحساس والحدس معا، جاعلة من فضاء اللوحة متعة ذهنية تخاطب كيمياء الروح. فهي تحلم ولا تحلم في وقت معا.
على ضفـاف اللوحـة
امتلأت هذه الفنانة بالتشكيل رغم أنها اختارت التصميم الإشهاري شعبتها الدراسية بالمدرسة العليا للفنون الجميلة بالدار البيضاء. فالصورة الأكثر اجتلاء لديها في ما يتصوره المتتبعون من عشاق اللغة التشكيلية هي أنها مبدعة جوالة ليس فقط في الأماكن والوضعيات الإنسانية، وإنما في التجارب الأسلوبية، والاتجاهات البصرية. صوفيا أعبي مشبعة بالحضور، متفاعلة مع سحر اليومي بكل مقوماته الطبيعية والبشرية. هكذا، تستجلي بأسلوبها الغرائبي عوالمنا المؤسطرة بلغة إيحائية لا تقريرية فيها ولا منبرية فوتوغرافية. الأمر شبيه بتعليق شعري على كياننا الوجودي الذي أرادته الفنانة أن يكون مسكنا للعصافير والموتيفات النبانية والمائية، وكأن بها تعيدنا إلى أسطورة الميلاد الأول. ألسنا بصدد شهادة تشكيلية لفنانة آثرت الرؤيا والكشف، وتجاوزت جوهريا التسجيل والرصد ؟
بـوح متعـدد
صوفيا أعبي تشكيلية الظواهر الآنية والآتية معا بريشة الرائية، وعين العارفة، وحس الخبيرة، ومعرفة المجربة التي حولت لوحتها إلى مختبر الإيحاء والتشذير والمجاز. كل لوحة عبارة عن تحصيل حاصل، لأنها بكل بساطة بؤرة للإيقاعات المنسابة، والصيغ الإبلاغية المختلفة. يصبح الفعل الصباغي لديها ارتجالا لحظويا باللون والشكل معا، فهو خزان تلقائي لتدفقاتها الشعورية المكثفة.
تشكيلة المكان والكيان، هي صوفيا أعبي التي راهنت منذ البداية على بلاغة التكوين والارتقاء، والتعدد والتنوع. هل تكتب سيرتها المتخيلة ؟ هل الألوان والأشكال أصوات بصرية ؟
ناسجة أحلام جماعية، تكتب بعين عازفة سيفونية طبيعية وحالمة على أثر الرومانسيين الجدد الذين رفعوا شعار “أنا أحس، إذن أنا موجود” بدل “أنا أفكر، إذن فأنا موجود”. فكل لوحة أغنية صامتة، وكل أغنية لقطة بوح ونشدان (أتذكر أغنية الزمن المتحول “ساعات” للشاعر الكبير عبد الرحمان الأبنودي).
تفوقت هذه المبدعة الشابة في اجتراح لغة شاعرية، لونا وتركيبة، ورؤية : لغة مرسلة كأنها تناجي ذاتها فيما تناجي كائناتها وأشياءها المحيطة بها. يجد المتلقي نفسه أمام نص بصري متعدد، استبدلت الفنانة كلماته بالشطحات اللونية والمشهدية التي تحضر كعلامات، وإشارات، وإيحاءات. إنها النقطة الذهبية التي تسعى الفنانة جاهدة للدنو منها لكي ترقى إلى إشراقات البوح في التشكيل والتأويل معا.
صمـت الروح
لوحة صوفيا أعبي عالم أيقوني مركب تتجاور فيه التداعيات وتتماهى، وكأننا إزاء “أكواريوم” يعكس صورنا الملتبسة، وهواجسنا الداخلية (أتذكر فلسفة المهندس الياباني طويو إيطو). أخالها ترسم مباشرة من الذاكرة انطلاقا من الأوراق التمهيدية. ألم يقل أفلاطون : “المعرفة تذكر، والجهل نسيان”. يا له من شرط وجودي خفي كله شوارد وفواصل. إنها تبدع على صورة المنشدة، والحاكية، والمتذكرة، والمرتجلة. تبدع صمت الروح الذي هددته نزعات الحروب والصراعات الواهية. اللوحة لقاء : لقاء مع الذات الفردية والجماعية معا. اللوحة طاقة متجددة : طاقة مندمجة في كيمياء الأشياء والكائنات ذات الألوان الزاهية والمرحة. هذا هو المسكن الرمزي الأثير الذي خبرت الفنانة صوفيا أعبي زخمه، ووهجه، ولحظاته الخاطفة، ونوافذ إطلالاته التعبيرية. هنا بدء الذات ومنتهاها، إذ اللوحة تذكر واستحضار وجود لا نقل أو التقاط أو محاكاة !
للتذكير فإن الفنانة التشكيلية صوفيا أعبي عرضت مؤخرا ضمن فعاليات المعرض الدولي الكبير برواق باب مراكش بالصويرة، كما بصمت أعمالها الفنية سجلات الدورة الثانية لمعرض “نظرات نسائية” احتفاء بذاكرة الفنانة الراحلة بنحيلة الركراكية في رحاب رواق مؤسسة مسجد الحسن الثاني بالدار البيضاء بدعوة من جمعية “إبداع وتواصل”.
عبد الله الشيخ :”ناقد فني”