حلول الذكرى الخامسة والعشرين لعيد العرش يمثل مناسبة لاستعراض الحصيلة الوطنية في مختلف المجالات المرتبطة براهننا الوطني وتطلعات بلادنا، وهو ما يفرض كذلك أن نتذكر، نحن «قبيلة الصحفيين» مهنتنا وتحدياتها وواقعها وآفاقها، وذلك صلة باستحضار المنجز الوطني العام بمناسبة ذكرى اعتلاء جلالة الملك للعرش.
ونحن في العام الخامس والعشرين بعد اعتلاء جلالة الملك، يجدر اليوم أن نعيد قراءة الرسالة الملكية التي كان قد وجهها جلالته للصحفيين في اليوم الوطني للإعلام سنة 2002، وشكلت حينها خارطة طريق للقطاع والعاملين به.
لقد أكد جلالة الملك أنه «لا سبيل لنهوض وتطور صحافة جيدة دون ممارسة لحرية التعبير(…)، وأنه لا يمكن للإعلام أن يكتسب المصداقية الضرورية وأن ينهض بالدور المنوط به ويتبوأ المكانة الجديرة به في حياتنا العامة ما لم تمارس هذه الحرية في نطاق المسؤولية…»
وأضاف جلالة الملك في الرسالة ذاتها مبرزا: «لقد اعتمدت بلادنا التعددية السياسية خيارا لا رجعة فيه ومنهجا قارا لبناء مجتمعها الديموقراطي…»، ثم لفت إلى أنه: «ذلكم هو الاختيار الذي آلينا على نفسنا المضي به، بشكل لا رجعة فيه…».
بعد ذلك، أكد جلالة الملك أنه: «لذا فإننا ندعو حكومتنا أن تنكب، في أقرب الآجال وبتشاور مع المنظمات المهنية للقطاع، على دراسة الإجراءات التي من شأنها الارتقاء بصحافتنا إلى مستوى من التقدم والاحترافية يؤهلها للاضطلاع بدورها كاملا في تشييد المجتمع الديموقراطي…»، وشدد جلالته على أنه: «ينبغي أن ينصب التفكير، بصفة خاصة، على تحيين الإطار التنظيمي المتعلق بمساعدة الدولة للصحافة، إضافة إلى تشجيع الاستثمار في هذا القطاع والتحفيز عليه، وكذا النظر فيما يمكن أن يساعد على إيجاد صحافة جهوية جيدة».
عندما نعيد قراءة الرسالة الملكية لعام 2002 ونتمعن في التوجيهات الواردة فيها، ندرك حجم راهنيتها، وكم هي معبرة اليوم عن معظم انتظارات القطاع وتطلعاته.
من المؤكد أن مكتسبات تحققت منذ تلك السنة، وأن إنجازات رأت النور فعلا، وأن كامل المنظومة القانونية والمؤسساتية المرتبطة بالقطاع خرجت في ذلك الوقت ومن روح هذه الرسالة الملكية وأفقها، ولكن معضلات السنوات الأخيرة تنبع كذلك من إغفال ثوابت ومحددات الإصلاح الواردة في رسالة جلالة الملك.
حرية التعبير، ربط الحرية بالمسؤولية، تشاور الحكومة مع المنظمات المهنية للقطاع، التعددية السياسية، الصحافة الجهوية الجيدة، المصداقية الضرورية للإعلام، مساعدة الدولة للصحافة، تشجيع الاستثمار في القطاع والتحفيز عليه…، هذه ثوابت تضمنتها التوجيهات الملكية منذ ثلاث وعشرين سنة، وهي ذاتها مظاهر فشل الحكومة الحالية في مقاربة إصلاح القطاع.
ومن توجيهات الرسالة الملكية يجب أن ينطلق تفكير الحكومة اليوم لبلورة مداخل الإصلاح والتأهيل والارتقاء، أي عبر الحوار الجاد والمنتج والحقيقي مع المنظمات المهنية الحقيقية للقطاع، وعبر تطوير الدعم العمومي وتشجيع الاستثمار في القطاع، وعبر الوعي بثابت التعددية السياسية في الاختيار الديموقراطي للمملكة، وأهمية وجود الصحافة الجهوية بدل السعي لإعدامها.
وحيث أن بداية العهد الجديد جسدت تفاؤلا شعبيا ومجتمعيا واسعا في بلادنا، وبرزت ديناميات عامة تسعى للتطوير والتحديث في مختلف تجليات حياتنا العامة، فإن الدستور الجديد لسنة 2011 كرس، بالنسبة لمهنتنا، ذات التوجيهات التي تضمنتها الرسالة الملكية في 2002، وجاء فصله الـ 25 مؤكدا على أن «حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها»، كما نص الفصل 28 على أن «حرية الصحافة مضمونة، ولا يمكن تقييدها بأي شكل من أشكال الرقابة القبلية»، ثم حدد الفصل نفسه على أن يتولى الصحفيون تنظيم مهنتهم بكيفية مستقلة وبشكل ديموقراطي، ما أتاح لاحقا ظهور أول مؤسسة وطنية للتنظيم الذاتي عبر قاعدة انتخاب المهنيين لممثليهم.
وهنا أيضا لا بد من العودة إلى أحكام دستور البلاد، وربط ذلك بالدينامية التفاؤلية العامة التي كرسها العهد الملكي الجديد، وعبرت عنها، بوضوح، رسالة الملك للصحفيين سنة 2002، واعتبار ذلك أفقًا ديموقراطيا وتحديثيا اختارته بلادنا لمستقبلها، والانتباه، في الوقت نفسه، إلى أن ما يجري اليوم حوالينا، وما يحاك ضد مهنتنا، هو تراجع على كامل هذا النفس التطويري والديموقراطي الذي تضمنته توجيهات جلالة الملك منذ سنوات عهده الأولى.
لم نعد اليوم نتكلم عن هذه القضايا الأساسية والمبدئية في مهنة الصحافة، وتكرس بداخلنا تشرذم غريب وغير مسبوق، حتى أن أحدا لم يعد يتكلم بهدوء مع أحد، والسلطات العمومية المكلفة بالقطاع لم تعد لا مبادرة للحوار وللإصلاح، ولا ميسرة لأي تقارب وسط الجسم المهني، وبدل ذلك جررنا لكي نغرق في الأشياء الصغيرة والتافهة.
ولما أمعن بعضنا، مع الأسف، في تتفيه النقاش عن مهنتنا بحساباته الأنانية الصغيرة، وتفشت ممارسات ريعية فاسدة، وغاب الدور الحكومي العاقل، شاعت حوالينا وبداخلنا سلوكات مرفوضة وضعفت الجدية وغاب العقل وبعد النظر وسادت القضايا الصغيرة فوق رؤوسنا كلنا، وهنا كل من ود التذكير بالقضايا الجوهرية المرتبطة بالمهنة ومستقبلها وبمصلحة البلاد وأفقها التنموي والديموقراطي يصير مرفوضا ومنبوذا، وتستهدفه هجمات بعض الصغار جدا.
في غمرة تخليد ذكرى تربع جلالة الملك على العرش، واستحضارا لما أورده جلالته في رسالة 2002 وما نص عليه دستور 2011، هل نأمل اليوم أن تدرك الحكومة وبعض قبيلتنا المهنية أن الرداءة بلغت مداها، وأن كل المناورات البسيطة في السنوات الأخيرة ارتطمت بالجدار و…. فشلت، ولم يعد أمام الكل اليوم سوى تجريب مدخل الجدية وترجيح العقل والتفكير بحجم مصلحة الوطن ومستقبله، والدعوة إلى حوار حقيقي لتأهيل القطاع وتطويره لنوفر لبلادنا الصحافة التي تستحقها، أي ذات الجدية والمصداقية ووضوح النظر.
الكلمة إذن للحكومة…
<محتات الرقاص