يزداد المشهد الفلسطيني تعقيداً. ومثلما كان الفلسطينيون على مر تاريخهم، كلما سمعوا وعداً بشيء أفضل، يحلّقون بأجنحة الأمل، ويرتّبون أحلامهم صورة صورة، فقد صبروا طويلاً على أرجوحة المصالحة، بل جعلتهم سنوات الجدب ينتظرون خطاب رئيسهم أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، يوم 27 سبتمبر المنقضي، بينما لا هو، ولا تلك “الجمعية”، قادرين على رفع أكوام الركام التي تراكمت في واقع حياتهم وفوق قضيتهم. كانوا على موعد “كلمة الرئيس″ علماً بأن الرئيس طرح كل ما لديه ارتجالاً ومن نصوص كتبت له.
انقسم الفلسطينيون إلى قسمين، واحد يراهن على أن الرجل سيقول جديدا مدويا، وفي ذلك السياق تطوع بعض مساعديه بتعويم هذا الرهان أو تعزيزه، قائلين إن الرئيس سيتخذ قرارات يبدأ تنفيذها في صبيحة اليوم التالي. وقسم ثانٍ راهن مسبقاً على العكس، وتوقع أن يكون الخطاب أفرغ وأكثر بؤساً من خطاب السنة الماضية. وسُمع الخطاب مساء يوم الخميس الماضي، فإذا به خالٍ من أي قرار يتعلق بإشكالية التعنت الإسرائيلي، ويلمّح إلى قرار يتعلق بإشكالية ما يراه تعنتاً من حماس.
ارتسم المشهد في خطاب محمود عباس. فمن جهة، هو يحاول تلطيف الكوابيس الإسرائيلية التي تقض مضجع سلطته، فيروي للجمعية العامة للأمم المتحدة، حكاية الطواعية والرهان الحصري من جانبه على التسوية التي تساندها وتتمناها الأمم المتحدة، وكيف أنه فعل كل ما ينبغي أن يفعله، لكي تتحقق هذه التسوية، لكن الانحياز الأميركي لإسرائيل، تجاوز عن مواقفه، وساند السلوك الإسرائيلي على الأرض، وهو سلوك لا يُبقي أرضاً للتسوية، وذهب الأميركيون إلى حد الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، ونقل سفارة الولايات المتحدة إليها!
من جهة أخرى انعكس تطيّر عباس من حركة حماس جليا في خطابه أمام المنظمة الدولية، وكرر موقفه المتشدد حيال من يسيطرون على غزة، علما بأن مشكلة حماس تُعد فلسطينية داخلية.
وقد تحفظ كثير من الفلسطينيين على طرح موضوع حماس على المستوى الدولي. ولا يجافي الواقع من يقول إن المشروعية الوطنية التي تقوم عليها السلطة في رام الله، فقدت وجاهتها مع تنكر الحكم للمؤسسات الدستورية وللعدالة الاجتماعية ولتطابق الشعار مع السلوك على أصعدة الإدارة ومنهجيات التصرف بالمال العام وشواهد الترف والقبضة الأمنية.
حركة حماس، بدورها، ما زالت تدفع بقوة الكوابيس المتعلقة بمصيرها. ولا يختلف اثنان، على كونها سجلت فشلا ذريعا في الحكم، وربما تكون هي نفسها على قناعة بهذه الحقيقة، لولا أنها تخشى فقدان السيطرة فينقض عليها ذوو الشكايات من الناس الذين قُتل أبناؤهم أو عُذبوا أو أطلق الرصاص على مفاصل أطرافهم لإعاقتهم. ثم إن مشروعية المقاومة أصيبت في الوجدان الشعبي لأن المقاومة التي لا تكرس العدل لن تلقى تأييد الشعب، مهما سال من دماء.
وبهذه النتيجة تكون حماس التي تأذت من انتسابها للمشروع الإخواني ومن ثقافته، قد زادت مأزق الإخوان عمقاً، لأن حُكمها كان أنموذج حكم أتيح للجماعة ففشل وظهرت عورته، على النحو الذي يصف به أعداء الجماعة في الإقليم العربي مآلات الحكم الإخواني في أي بلد. ولا يختلف اثنان، على استحالة أن يحكم الإخوان، أو حتى أن تتاح لهم المنافسة على الحكم، وهذا ما جعل قيادة الجماعة في غزة تسجل مقاربة للتفاهم مع مصر، بغير رضا القيادات الإخوانية المنتشرة في عواصم الاستضافة.
حماس ما زالت تمتلك ورقتين، لم يظهر حتى الآن أنهما كافيتان لضمان انسحاب آمن من المشهد السياسي. أما عباس فلم يتبق له سوى ورقة الاعتراف به دولياً، كرئيس للشعب الفلسطيني. لكنه رئيس من نوع مختلف، إذ يتحدث باسم شعب ليس لديه إجماع عليه، سيما بعد أن انتهت ولايته منذ سنوات، وبعد أن أطاح بمؤسسات السلطة وعبثا حاول أن يؤلف برلمانا غير منتخب من خارج إطار السلطة وهيكليتها، واتكاءً على منظمة التحرير التي لم تعد لها حيثيات مؤسسية.
ورقتا حماس هما السلاح والأسرى الإسرائيليون الأحياء أو الجثامين. الورقة الأولى هي التي يحاول عباس أن ينتزعها منها، ظناً منه أن هذا هو الصنيع الأخير الذي سيُكافأ عليه إسرائيلياً وأميركياً. والفلسطينيون، حتى معظم أولئك الذين يبغضون حماس، لا يوافقون على نزع السلاح، وهذا نتيجة إحساسهم بأهمية الدفاع عن النفس في حال شن الإسرائيليون حرباً لاجتياح غزة. فالذاكرة الجماعية لسكان غزة، تختزن الكثير من الحروب التي تعرضوا فيها للقتل سواء كانوا مسلحين أو عُزّل.
بالمحصلة أصبح الفلسطينيون يعيشون تحت وطأة طرفين لا يقبل كل منهما التنازل للشعب الفلسطيني عن شيء من حقوقه، وأهمها حقه في تفويض من يحكمونه. وهذه معضلة لا يحلها خطاب لعباس من فوق منبر دولي، ولا خطابات لحماس من فوق منابر المساجد، ولا يحلها الوسطاء.
الأمور تتجه الآن إلى مبادرة شعبية فلسطينية، قوامها الاحتشاد قبل الانفجار. إن عوامل هذا الانفجار موجودة جميعها في غزة، وموجودة بدرجة كبيرة في الضفة الفلسطينية، لكن الانفجار سيكون محفوفاً بالمخاطر. لذا تتجه النخب الفلسطينية المستقلة أو المتخففة من قيود فصائلها، إلى تشكيل هيئة تنسيق وطنية تتولى إخراج المبادرة الشعبية بالشكل الحضاري، لكي يضطر طرفا الخصومة اللذان استعصى عليها التوافق، إلى التمكين للإرادة الشعبية!
> عادل صادق