نكبة العصر الذهبي النضالي.. وانتصار الزمن القصديري الشعبوي

معلوم أن الأحزاب السياسية (مع استثناءات قليلة)، منذ أن اتخذت لعبة الانتخابات أساسا لوجودها، بعد تشرذمها وانشطاراتها البركانية، قد نجحت في نحت مفاهيم ومصطلحات جديدة، أضافتها إلى قاموس العلوم السياسية مثل: “الأعيان”، و”مول الشكارة”، والشناقة”،  و”المناخبية”، و”الحيتان الانتخابية”، و”السماسرة”.. وذلك بسبب تفشي التدافع النفعي/ الوصولي و التخلي عن مفاهيم عريقة مثل “التنظيم السياسي/ الهياكل التنظيمية” باعتبارها الأداة المعبرة عن الإرادة الشعبية، و”القاعدة الشعبية” التي تتكون من مجموعة من الأفراد والتنظيمات (المنظمات الموازية والجمعيات والمناصرين والمتعاطفين والمتطوعين..، إلخ) الحاملة لرسالة التنظيم والفاعلة في الحركية والأنشطة السياسية التي تربط بين التنظيم والقواعد.
كما نجحت في اعتناق العقيدة “الميكيافيلية” التي ترى أن أهم هدف في السياسة هو الحصول على السلطة والحفاظ عليها بعد الوصول إليها  بكل الوسائل الممكنة وفق منطق (الغاية تبرر الوسيلة)، بعيدا عن الأداة التي تسرع الحتمية التاريخية للتطور، باعتباره التعبير الصحيح عن الإرادة الشعبية، من دون أن ننسى تفوقها في صناعة العازفين، والمحايدين، والصامتين، والمتربصين والانتهازيين والفاسدين.. 
وإذا كنا نعيش اليوم لحظة تاريخية استثنائية للتحولات السياسية والاقتصادية الاجتماعية والثقافية المكثفة بسرعة الأرقام التي حصلنا عليها في العديد من المجالات في زمن قياسي، فإن نتائجها النفعية، للأسف، كرست التفاوتات الاجتماعية بين مغرب المركز ومغرب “الحاشية السفلى”، وعمقت اللامساواة الاجتماعية والمجالية، وعملت على  خلق حماية نفعية للكراسي واحتلالها عبر الالتصاق الأبدي بها، من أجل تكريس الريع والنفوذ والمحسوبية والزبونية. 
وفي هذا الصدد نذكر بأن سقوط الاشتراكية عام 1989 تمخض عنه نوع من الميوعة السياسية وأنواع من الحرية السلبية في العمل السياسي، كالحق في تدبير الشأن العام حتى ولو تطلب الأمر شراء الذمم، تبعا لمفاهيم السوق. 
والأمر الخطير الذي لم ينتبه إليه الفاعل السياسي في ما مضى واليوم هو  التغير الذي أحدثته الثورة التكنولوجية في الاتصالات واقتصاديات المعرفة، التي غدا معها “حبل الكذب قصير”..
وبما أن الأحزاب سياسية بطبعها، والسياسة أمر وتدبير، فإن هذا التعريف للأحزاب يعني ضرورة جعل فعلها متجددا ومتغيرا وليس راكدا كما هو الحال عليه. كما لا يمكنها أن تؤدي مهامها إذا لم تكن قادرة على أن تتجدد وتنمو.
وعلى ضوء هذه الشظايا، نقول: إن أي حزب له نص تأسيسي يحدد تنظيمه الداخلي يجب احترامه، كما من المفروض أن يكون له نشطاء وقاعدة يجب الاحتكام إليها ديمقراطيا، بل وعليه أن يساهم في النقاش العمومي وفي التعبير عن القضايا الجوهرية، الأساسية والمهمة، التي يعيشها الوطن، كما يجب عليه احترام السيادة الوطنية والديمقراطية، وتنفيذ القوانين والمبادئ المنصوص عليها في الدستور، كما يتعين عليه أن تكون ممارسته العملية مستدامة بحيث يحافظ على علاقات منتظمة ومتنوعة مع الرأي العام وليس الاكتفاء بالظهور في المناسبات الانتخابية فقط، وأن يحصل على التأييد الشعبي ببرنامجه السياسي وليس بالولاءات والإغراءات والتملق والكذب والغوغائية، والتمييز بين ممارسة السلطة وبين التأثير عليها باستبلاد المواطن البسيط بالخطابات الشعبوية وبالتخويف والتحريض والتيئييس والتهييج وخلط الأوراق، أو “ضرب شي بشي” بالتعبير الدارج. 
 من هنا، ينبغي للأحزاب السياسية أن تكون مؤسسات، منتجة للأفكار والمقترحات مقابل دعم الناس لها. أحزابا تصنع القرار وتنضبط له، وليس مجرد أحزاب تنفيذية. أحزاب بتمويل مستقل وشفاف بين أعضائها وقواعدها. أحزاب تقوم بانتخابات أولية بين قواعدها وأعضائها قبل تقديم ترشيحاتهم الوطنية، وهذه هي المساهمة الحقيقية في البناء الديمقراطي الحقيقي. وهذه هي الأحزاب التي ينبغي أن تليق بها صفة أحزاب وطنية لأنها ذات وظائف ثلاث مرتبطة بتقدم الوطن، ونعني بهذه الوظائف الثلاث: إنتاج البرنامج السياسي والدفاع عنه، صناعة الرأي العام واختيار النخب السياسية.
فالأحزاب السياسية وفق هذا التصور، تعتبر مؤسسات وساطة داخل المجتمع، ومؤسسات انتخابية تحترم الديمقراطية الداخلية والخارجية، وفي خدمة المصلحة العامة دائما، لأنها بمثابة أداة تمنحها الطبقات الاجتماعية نفسها للدفاع عن مصالحها وبلورتها اقتصاديا وسياسيا وثقافيا داخل المجتمع.
كما على الأحزاب أن تعزز ظهور طبقة سياسية وطنية ومواطنة، مسؤولة وقادرة على تحمل المسؤولية وتدبير الشأن العام.
وعلى الأحزاب السياسية أن تكون رافعة للدولة الديمقراطية قولا وفعلا، وأن تساهم في الإرادة السياسية للشعب عن طريق احترام إرادته، وليس عن طريق إثارة النعرات الانقسامية والقبلية والعصبية.
وعلى الأحزاب السياسية التي تنشد محاربة الفساد، أن تقضي على المفسدين لا أن تكون حاضنة لهم، ويجب عليها أن تعلن عن إستراتيجياتها المتكاملة لعموم الناس لحماية مقومات الديمقراطية وأسس سيادة القانون.
وأخيرا، وأمام ما يحدث الآن في الساحة السياسية من تنابز وشخصنة للصراع بين بعض الأحزاب السياسية، فإن ذلك يدفعنا إلى وضع علامات استفهام محيرة بين انتكاس العصر الذهبي النضالي، وانتصار الزمن القصديري الشعبوي، بأفول نجم أحزاب بعينها.. تستغل الفراغ وانعدام الثقة، لتزرع ما يكفي من الشك والقلق باسم الشرعية والولاء للأمة والوطن.

< بقلم: د. المصطفى المر يزق

* مؤسس الطريق الرابع

Related posts

Top