أذكر أنه في زمننا نحن الذين درسنا في السبعينات، وفي كل الأقسام الدراسية من الابتدائي، فالإعدادي، ثم الثانوي تباعا، كنا ننتظر على أحر من الجمر أن يعلن أستاذنا مدرس اللغة العربية عن النص الذي سنتناوله بالتفسير والتمحيص والتحليل والمناقشة المستفيضة لإدراك جمالية النص ورصانته من حيث الأسلوب والمعنى اللذان صيغ بها النص المختار بدقة حسب أستاذنا المبجل.
وكان إحساسنا يومها عميقا، بنفس عمق تلك النصوص الجميلة التي تعرفنا فيها على الرافعي، والمازني، وطه حسين، والعقاد، ومعروف الرصافي، وأحمد أمين، والمتنبي، وغيرهم من فطاحلة الأدب والشعر العربي. وكانت بالفعل مقتطفات من ورود ورياحين زاهية نشتم شذاها وعبيرها ونكلأ بها أحاسيسنا ووجداننا قبل عقولنا.
وكل هاته النصوص، أو بالأحرى جلها، لا تكاد تخلو من معان غزيرة استعملت فيها كل المحسنات البديعية والمجازات والاستعارات والمقارنات والتشبيهات التي ألفناها واعتدنا على استثمارها في مادة التعبير الإنشائي وتتضمن مواضيع قريبة من عالمنا الصغير، ومن وجداننا ورغباتنا التواقة إلى التحليق بعبدا في الأفق، إلى عالم تسوده المشاعر الفياضة والشعور بالأمان والطمأنينة.
وحسبك أن ترى التلاميذ كلهم شوق إلى رفع الأصابع والمشاركة بكل حرية في النقاش، كل يدلي بدلوه وأستاذنا المحترم يقف هناك في زاوية من القسم مشدوها أمام التدخلات التي تنهال واحدة تلو الأخرى مع الحرص على توظيف الحجاج وأسلوب الإقناع المناسب.
والآن، وبعد مرور خمسين سنة تقريبا على هذا الوضع الجميل، تغيرت المناهج والبرامج والكتب المدرسية والمضامين، وأصبحت في خبر كان، وأخذت مكانها نصوص أخرى علمية، وتفسيرية، وتصويرية، وموضوعية تفتقر إلى الخيال الإبداعي وإلى الأسلوب الأدبي الرفيع. ومن تتلمذ وكان له الحظ أن يكون من الجيل الذي درس في سلسلة “اقرأ” يعرف ما أريد قوله…
واحسرتاه على ماض كانت فيه قلوب التلاميذ معلقة بين أستاذ كفء متعدد الثقافات متمكن من مادته، يمنح متعلميه، كل يوم، باقة من أدب جميل يقدمه لفائدة أذواقهم ورغباتهم وتطلعاتهم دون كلل ودون تصنع أو ابتذال أو تقصير في رسالة التعليم النبيلة…وبين ساعة من الزمن نخشى أن تنقضي كلمح البصر دون أن نرتوي من شلال المعرفة والعلم.
كان خطاب أستاذنا الجليل يمر إلى التلاميذ سلسا، رقراقا، لا تعيقه أي معيقات، وأي خروج عن النص الأدبي.
حينها لم نكن نتضجر أو نتبرم أو نمل من سويعات من الزمن “زمن التعلمات” من مادة اللغة العربية. الكل متحمس لإجابة، تارة بإسهاب، وتارة بأفكار نيرة تمتد إلى العمق الفلسفي لتطرح جاذبية في المعنى يستحسنها مدرسنا وعلامات الرضا ظاهرة على محياه وعلى وجهه البشوش بصفة عامة.
وأتذكر جيدا تلك الجدالات الأدبية التي كانت ترقى أحيانا إلى درجة قصوى حين يحتدم الصراع والتنافس ليحضى كل واحد بحقه في تقديم فكرة أو دحض فكرة قرينه. وكل هذا في حدود اللياقة الأدبية والتنافس الذي لا يفسد للود قضية، وأيضا في حدود ما يسمح به أستاذنا المتتبع لشذرات أفكارنا وإرهاصاتنا وعثراتنا كذلك.
وأحيانا يكون الحظ مثاليا عندما يجتمع ثلة من التلاميذ الأذكياء والمتميزين وأستاذ كفء على درجة عالية من التمرس والريادة والقيادة داخل الفصول الدراسية، في نفس القسم الذي ستحتضن جدرانه، طيلة سنة كاملة، مبارزات أدبية تنتهي بتفوق أغلبية التلاميذ وتميزهم في مساراتهم واختياراتهم وتوجهاتهم .
وأنا الآن، وبين أسطر هاته الكلمات، أشعر وكأنني عدت الى ماض دفين لأنفض عنه غبار السنون واستعيد الذكريات ومعها نوستالجيا جودة التعليم الذي كنا نتلقاه على يد أساتذتنا والذي ساعد فيه رغبة التلاميذ في تشرب كل أصناف المعرفة والأدب وآدابه.
وليس الأمر بدافع المقارنة ما بين التعليم في زمننا والتعليم كما هو الآن. وليس كذلك من باب التغني بأمجاد الماضي وإظهار البون بين تعليم وتعليم، ولكنه فقط مجرد حنين إلى حقبة خلت ولازالت محفورة في الأذهان.
لذلك أملنا كبير في أن يستعيد التعليم عافيته كما كان من قبل، ويستفيق من وهنه ويسترجع أمجاد الماضي لأننا نكن له كل الاحترام ونحافظ على الود معه ونعتبره من أسباب رقي الأمم والمضي قدما إلى الأمام، في عالم محموم بالتسابق إلى التكنولوجيا والتموقع كبلدان متقدمة في كل المجالات.
عبد الصادق أغرابي*
- أستاذ متخصص في علوم التربية وعلوم التدريس