“نْزاهْةْ العينْ” عند بن سماعيل أو تحوّل نظرة فوتوغرافية تشكيليّة

تعتبر “العين”، النظرة، منبعًا للذاكرة وانبجاسًا للماضي. وبهذا المعنى كان أفلاطون، رسّام عصور حياة الإنسان، قد وضع تلازما بين النظر والتفكير لأنهما يحيلان على بعضهما إلى ما لا نهاية له، كما أكد أن مختلف أنماط الحياة تطابق مختلف أنواع البشر. وبذلك تكون الطفولة بالنسبة إليه استعدادا قبليا لاستقبال الجديد وفصلا تُهَيْمِنُ عليه الرؤية. وهذا ما ينطبق على سيدي أحمد بنسماعيل، الفنان ثنائي التعبير، سليل عائلة اشتهرت بالعلم من حومة سيدي بنسليمان الجزولي التي كبر في كنفها في جو من الحيوية والمغامرة والاحتكاك بالواقع العيني. وقد قامت معرفته أول ما قامت على معرفة العين التي تحاول التقاط اللحظة الهاربة في محيطه. وبمعنى آخر طريقة للقبض على تفاصيل الفضاء وعلى تقاسيم الأجساد أيضا. إن فنّ سيدي أحمد بنسماعيل يبسط مادته على جدران مراكش في عرض مباشر تتأكد فيه إرادة الفنان لإخراج مسرح يومي، “متحف متخيَّل” خاصٍّ به. ولا يخفى أن سيدي أحمد بنسماعيل يعبّر على نحو مختلف بالرسم والصباغة والصورة الفوتوغرافية.
وهذا ما يفضي إلى التساؤل عن مدى وجود ثوابت مفهومية في أشكال التعبير المختلفة هذه. كيف يُفَكَّرُ إيثوس هذا التقاطع عند الفنان؟ أين تستقر الحدود عنده بين السردية الخاصة والسردية العامة؟ الواقع أن الفنان يعيد إنتاج روح عصره، وفنّه يكون في خدمة انفعال “داخلي”، ويساعد أيضا على فهم الواقع السطحي لليومي، كما أنه تصوُّرٌ مغاير للمنظور الذي يشكل خلفية عمله الفني.
فنحن نجد فيه ثيمات تهوي إلى النبرة الماتعة. إنه الومض الغامض لاستلهام اجتماعي يشتغل بالضرورة ويمارس تأثيرات غير مباشرة. ولئن وقع اختيار الفنان في الغالب على الأبيض والأسود في صوره، فربّما لكي لا يضادّ مجال الرسم، وهذه الصور ليست مجرد معاينات بل هي لوحات، لوحات تعرض أشكالا هندسية مع أسهم وأرقام عصية عن التأويل.
في هذه الحالة يتعلق الأمر بترسُّخٍ زمكاني داخل الآخر، وبعملية استسبار متقطِّع. أما على الصعيد التقني فإن ثبوت الصورة الفوتوغرافية، التي أُخِذَتْ في إطار استقرار شكل اللوحة، يقترح للمتفرج تجربة فيها مواجهة. والميل لألوان مراكش، خاصة الأحمر بمساعدة الصبغات الطبيعية، يساهم في تأجيج مشاعر الحنين مع استرداد عالم جوانيّ ومسار متحرك. وربّما أن الصورة الفوتوغرافية تكشف عن المسلك الإبداعي للرسام أو العكس، مع السماح بكشف أسرار عمل باطني. وبذلك فإن العلاقات بين الصورة والرسم على مرّ حياته الفنية تكون موضوع نقل مستمر يسفر عن روابط وعمليات إغناء متبادلة ورغبات ترنو إلى الاتحاد. ويمكن للصور وأعمال الرسم أن تظهر على أنها مرايا فاتنة. وهذا الانتقال بالمعنى الحَرْفيّ بين وسيطين فنيين يحوّل النظر وينتج تحولات بين النمطين كلّما وقع تقاطع بينهما.
أكيد أن الصور تختلف على صعيد عدّة الإخراج، فيما يخص الميزات التقنية من تدبير التفاصيل، وجودة الإنارة، وفجائية الوضع، ولكنها تحركها نفس الدوافع التي تحرك أعمال الرسم. في هذه الأخيرة ثمّة عمل طرسي كبير، لأن الفنان يمحو فيه المعالم الفوتوغرافية ليعيد كتابة نفسه بالذات في اندفاع يخلو من أيّ ادّعاء فني. وتغيير بعض الموتيفات (أزهار الرسوم تغيب عن صوره) من وسيط لآخر يندرج في تناغم مع التوترات والتطورات المجتمعاتية. ويكمن التحدي في توضيح ما يجعل شروط صورة، أو تمثيل، قادرة على ترجمة مفهوم أو دينامية. هكذا تنقل صورة سيدي أحمد بنسماعيل الانفعال وتلطِّفُ اللوحةُ الواقعَ المنفلت من عقاله في تجريد مستساغ. ولئن كانت الصورة تزيل عن الرسم هاجس الزمن، فإن السمة الثابتة للوحة تقحم شحنة زائدة من العلامات الرمزية.
بين الشكل الفوتوغرافي المثبت والتشفير التشكيلي المجرد يبلور سيدي أحمد بنسماعيل، الفنان المتيم بالتراث الحي، مشروعا وتصورا. فهو يرنو في البدء إلى إعادة إدماج رؤى رمزية مختلفة ومتناثرة في كُلِّية، كليّة وجود تتقاسمه جميع الكائنات وهوية جماعية تشق طريقها إلى عرفان اجتماعي. فعلاوة على الصورة اللحظية التي تلتقطها عين الفنان ثمة ما هو خالد، وخلف العلامات الظاهرة والرمزية للوحات ثمة وجود لامرئي. وربما أن تجاوز الهويات يخفي أشياء لا تتغير. كل كائن يلتقيه أو كل مشهد يلتقطه له بُعْدٌ يتجاوز مظهره. يتحدث جان فرانسوا كليمون عن “تصوف كامن” في عمل سيدي أحمد بنسماعيل، ولكن الفنان يتوجه إلى المتفرج ليثير انفعاله ورؤاه بعيدا عن كل تفييء محدد مسبقا. بالإمكان أن نظن أن هذين النتاجين الإيقونوغرافيين يتواجدان لتضميد بعض الجراح، خاصة اغتيال شقيقه عبد العزيز سنة 1982. فبتحويله لتأثير مسؤول ما عن هذا الفعل الهمجي يسمح أحمد بنسماعيل لمجتمع سلمي بالوجود بطريقة أخرى تخلو من العنف. والفن بالنهاية يوفر فهمًا أحسن للواقع بتلطيفه من خلال عيون الروح.

  • “نزاعة العين” معرض للفنان أحمد بنسماعيل
    يقام بمناسبة تكريمه يوم 29 يناير الجاري
    بدار الشريفة بمراكش على الساعة الخامسة مساء.

Top