كثيرا ما كانت جدتي رحمها الله تُردد في شهر “رمضان الكريم” عبارة هنيئا لك يا بنيتي تعرفين القراءة والكتابة، دون أن تُقدم أي تعليل أو تفسير أو كلمة زائدة، فكنت أتفهم قصدها فيما يتعلق بالقراءة، وغبطتها لصديقاتها اللواتي ولجن المدارس، وتعلمن الأبجديات الأولى للقراءة. في حين تخلفت هي عنهن لظرفها الخاص، لعل عشقها رحمها الله “للقرآن الكريم” كان يُنبئ عن سر تلك الغبطة؛ ولعل ذلك ما جعلها تحفظ ما تيسر منه باعتبارها فقيهة تسهر على إدارة مسجد صغير في حينا وهبت نفسها لخدمته حيث كانت تمضي أغلب وقتها هناك، لعل مصدر حسرتها الكبيرة أنها لم تكن تستطيع على امتداد وقتها أن تمسك “المصحف الشريف” بيديها الصغيرتين، وأن تنتشي بقراءة ما تيسر من “الذكر الحكيم”. كانت تنزوي في ركن قصي بعيدة عن زميلاتها لتعوض عن خسارتها بالتسبيح والتهليل والصلاة، لكن حسرتها الكبيرة على الكتابة هي التي ظلت غامضة في نفسي وعالقة في ذهني، وكنت أتمنى لو أمد الله في عمرها قليلا لأستشف سبب ذلك.
كانت كلما دخلتِ المنزل، ووجدتني في غرفتي منهمكة في الكتابة تجلس بجانبي متكومة على نفسها، تراقب رسم الحروف من غير حوار يجمعنا وكأنها تدرك سرّ استغراق الفرد لحظة الكتابة دون الالتفات لمن حوله، لعلها كانت تتساءل في حوار داخلي خاص بها، كيف لهذه الخطوط أن تتحول إلى أصوات ناطقة؟ كيف لها أن تعقد حوارا في جلسة ثنائية من غير محاور؟ ربما كانت ترغب في عقد حوار خاص وفردي لا يعلمه أحد غيرها؟ كم من ذاكرة نسكن عندما نمارس فعل الكتابة؟ لماذا نكتب؟ وما الهدف من الكتابة؟ وهل الكتابة ترف فكري أم سلطة ضرورية؟ كل هذا الزخم من الأسئلة وغيرها قفز لرأسي وأنا أتذكر جدتي في ذكرى وفاتها، رحمها الله، من دون أن أفلح في العثور على جواب شاف أو رد قاطع.
إن الكتابة بوصفها ترميزا للغة منطوقة في شكل خطي على الورق تُشكل حيرة حقيقية بالنسبة للذين لا يعرفون القراءة والكتابة، لعلهم يتساءلون عن سر العلاقة القوية التي تربط بين أشكالها المختلفة، ويريدون أن يعرفوا أي نظام صارم يحكم تلك العلاقات؟ وكيف اصطلح عليه من قبل أصحاب هذه اللغة أو تلك؟ وفي أي زمان ومكان؟ فنحن نجد لكلّ شكل من هذه الأشكال مقابلا صوتيا لغويا يدل عليه، يهدف إلى نقل الأفكار والآراء والمشاعر إلى الآخرين، باعتبارهم الأداة الأساسية لتحقق عملية الاتصال، إذ أنّ فعل الكتابة لم يقف عند حدود نقل ما يجول بخلد الكاتب بل غدا في عصرنا الحالي ضرورة من ضرورات الحياة، وطريقة من طرق قضاء الحاجات، ناهيك عن كونه وسيلة من وسائل التأريخ وتخليد الذات.
لقد أدرك الإنسان منذ القدم أهمية التدوين، ففكر في سُبل تخليد وجوده وحفظ ذاكرته وقهر سطوة الزمن وامتداده، فلم يكن ابتكار “السومريين” لأقدم أسلوب للتدوين في تاريخ الحضارات القديمة حدثاً عارضاً في التاريخ الإنساني، بل كان وبحق من أَعظم الإنجازات التي شهدها تاريخ البشرية. فقد وضع حداً فاصلاً بين مرحلتين أساسيتين من مراحل التطور الحضاري. إذ باكتشاف الكتابة انتهت مرحلة عصور ما قبل التاريخ لتبدأ بعدها مرحلة العصور التّاريخية. وقد عُرف هذا الأسلوب من التدوين أو الكتابة باسم (الكتابة المسمارية) نظراً لأشكالها التي تُشبه المسامير، علماً أنه لا يصح إطلاق هذه التسمية على المراحل البدائية الأولى من ظهورها، بل في مراحلها اللاحقة بعد أن أصبحت العلامات المكتوبة تأخذ أشكالا مخصوصة بذاتها نتيجة شكل وطريقة الكتابة بالأقلام. وكانت الأقلام تُصنع في الغالب الأعم من القصب، وتدون على ألواح الطين الذي شكل المادة الأساسية للكتابة، نظرا لتوفره وخفة وزنه فضلا عن سهولة تشكيله بأشكال وأحجام مختلفة حسب الحاجة. من دون أن نغفل الكتابة على الحجر ومواد أخرى أيضا وذلك وفق ما وفرته المرحلة والظرفية التاريخية، ولعل الشيء نفس ينطبق على الكتابة المصرية القديمة أي الهيروغليفية مع اختلاف في طريقة الكتابة وأدوات التدوين.
إن اختراع فعل الكتابة حفظ لنا تاريخا ممتدا وذاكرة كبيرة غيبها النسيان وطول الأمد، فلولا الكتابة لما تعرفنا على الحضارات القديمة واللغات التي كانت سائدة في منطقة الشرق الأدنى القديم كاللغة السومرية والأكادية والعيلامية والفارسية القديمة… حيث كشفت لنا الأبحاث الأركيولوجية عن مئات الرسائل المدونة على الألواح الطينية بالخط المسماري، والتي أبانت عن طبيعة العلاقات السياسية التي كانت بين تلك البلدان خلال هذه الفترة ونوع العبادات التي كانت تمارس والمعاملات التجارية والعلاقات الاجتماعية….
لكن الفعل الحقيقي للكتابة والتدوين سينطلق مع اكتشاف الفينيقيين للكتابة الهجائية الحرفية أو ما يُعرف بالأبجدية الفينيقية في منتصف الألف الثاني ق.م، ليطورها بعدهم الآراميون فتصبح الوسيلة البديلة للكتابة المسمارية التي أخذت بالانحسار تدريجياً.
لقد كان للكتابة الفضل في حفظ القوانين التي تنظم العلاقات حيث عكست لنا عمق النضج الفكري والتجربة الحياتية داخل المجتمعات القديمة، والتي تطورت إلى علاقات معقدة بعدما تحولت من الأسرة والقبيلة إلى المدينة والدولة؛ نتيجة ازدهار العمران واتساعه وما رافق ذلك من تبادل للمنافع والاتجار وتنظيم إداري، ولنا في “قانون تل حرمل” و”قانون حمورابي” أقدم مثال لسن وتدوين القوانين، هذا الأخير الذي أصدر أوامره بتدوين مجموعة القوانين والتشريعات على مسلة كبيرة من حجر “الديورانت الأسود”، بلغ عدد بنوده 282 بندا بلغة بابلية وبخط مسماري، كان الهدف من وراء ذلك ضمان حقوق كل الأجناس التي كانت تحت سلطة إمبراطوريته الشاسعة. ولعل هذا يكشف لنا عن السلطة الرادعة والقهرية لفعل الكتابة في المجتمعات القديمة، ودورها في بسط العدل من خلال سن التشريعات ورقنها على النصب أو على الألواح لتكون وثيقة حية ودامغة يجب على الكلّ الامتثال لها.. وليس بعيدا عن هذا نجد فعل الكتابة الذي ارتبط بالكتب الدينية سواء تعلق الأمر بالديانات السماوية أو الوضعية، تلك الكتب التي ظلت لعهود طويلة تتناقلها الأجيال شفهيا إما لانعدام وسائل التدوين أو لرغبة أصحابها في ذلك.
غير أن القرن السادس قبل الميلاد سيُشكل علامة فارقة في تدوين الكتب الدينية إذ ستعرف هذه الفترة تدوين عدد من الكتب مثل كتاب “الفيدا” عند “الهندوس”، وكتاب “الأفيستا” بالنسبة “للديانة الزراديشية”، و”التوراة” في “الديانة اليهودية”، ولعل الهدف الأساسي يتمثل في الحفاظ عليها من الضياع والتأثر بديانات أخرى مجاورة لها، فقد صاحب تدوين الكتب الدينية ظهور طبقة اجتماعية في سلم الكهنة يتحدد دورها الأساسي في تدوين وتدقيق هذه الكتب مع وضع قوانين للقراءة.. ومن ذلك نشير، على سبيل المثال لا الحصر، إلى حركة “الماسورة” في “الديانة اليهودية” والتي جعلت من إخراج النّصّ التّوراتيّ وتحقيقه وظيفتها الرّئيسة، وإن كنا لا نعلم متى بدأ استعمال لفظ “ماسوريّ”. ولكن في نحو سنة (800م) أُطلق هذا الاسم بدلاً من وصف واسم “الكتبة” الذي كان سائدا من قبل، ولا نعرف ـ على وجه اليقين – تاريخ ظهور هذه الحركة؛ كما أننا نجهل كل شيء عن مرحلة ركودها. وقصارى ما يُمكن أن يُقال بشأنها هو أن عملها استغرق عدة قرون، وإنه كان مع حلول القرن العاشر الميلادي في حكم المنجز. وإذا كان هذا العمل قد استطاع خلال أمد طويل أن يُنقل من جيل لآخر بكونه تراثاً شفاهيّاً، فإنّ تراجع اللّغة العبريّة على مستوى الاستعمال والظّروفَ التّاريخيّة التي مرّت بها اليهوديّة؛ كانا سبباً في بداية تدوين قواعد قراءة التّوراة وكتابتها على يد أصحاب الماسورة، وذلك ما بين القرنين السّابع والحادي عشر في كلّ من بابل وفلسطين. ولقد كان لحركة “الماسورة” الفضل في الحفاظ على نسخ التوراة من الضياع.. فإلى حدود الأمس القريب كانت أقدم نسخ للتوراة هي “النسخة الماسورطية” والتي تعود للقرن العاشر الميلادي، لكن ستتضح لنا قيمة التدوين والكتابة بعد اكتشاف “مخطوطات قمران” أو “مخطوطات البحر الميت” ما بين سنتي 1948م/1956م داخل كهوف الجبال الواقعة غربي البحر الميت حيث تم اكتشاف ما يزيد عن 900 مخطوطة في 11 كهفًا قرب خربة قمران؛ وهي عبارة عن لفائف مدونة على الورق البردي، دُونت باللغة العبرية والآرامية واليونانية. ضمت مكتبة كاملة لفرقة يهودية تدعى بـ “الآسينيين”، واشتملت المكتشفات على أسفار أصلية من العهد القديم وكتابات أخرى. تُعد مخطوطات البحر الميت بدون منازع حتى عصرنا هذا أهم مخطوطات دينية في العالم؛ إذ يرجع تاريخ تدوينها إلى ما بين القرن الثاني قبل الميلاد والقرن الأول منه. ولولا هذا الاكتشاف المهم لظلت نسخ الماسورة هي أقدم شاهد على تدوين العهد القديم. مع مخطوطات البحر الميت توفرت لنا نسخ جديدة وأقدم من الناحية التاريخية ساعدت الباحثين في دراسة التوراة ومقارنة النسخ في إطار ما يعرف بعلم نقد الكتاب المقدس، من هنا ندرك أهمية التدوين في الحفاظ على التراث الديني والإنساني.
فإذ كانت السلطة في الماضي موزعة ما بين السلطة السياسية التي يُجسدها الحاكم، والسلطة الدينية ممثلة في الكهنة، فإن سلطة الكتبة لا تقل أهمية عن السلطتين السابقتين. فقد أدركنا اليوم أن سلطة الكتابة قد تفوق سلطة الحاكم. وليس صدفة أن الحاكم نفسه تنبه مبكرا لقيمة الكتابة، فقرب الكتبة منه لتخليد تاريخه، وتسهيل تسيير دواليب حكمه إذ نجد أن أغلب الوزراء كانوا من الكتبة والمؤرخين، ولعل الشيء نفسه أدركه الكهنة حينما توصلوا ولو في وقت متأخر إلى أهمية الكتابة في الحفاظ على الدين من الضياع، وتأثره بباقي الديانات المجاورة، ودورها في ترسيخ ممارسة الشعائر الدينية؛ فاضطلع الكهنة بمهمة جديدة عززت مكانتهم الاجتماعية والدينية تمثلت في امتهانهم لسلطة الكتابة مدركين أنها السلطة الراسخة على مر التاريخ وامتداد الزمن.
هل كانت جدتي تدرك، فعلا وبعفويتها المعهودة، حقيقة سلطة الكتابة لذلك تحسرت كثيرا على عدم امتلاكها؟ أم أنها، رحمها الله، كانت تحسبها ترفا فكريّا فتحسرت لتفوق صديقاتها عليها بهذه الملكة؟
رحم الله جدتي وكل رمضان وأنتم بألف خير.
بقلم: دة. كريمة نور عيساوي
* أستاذة تاريخ الأديان وحوار الحضارات/
كلية أصول الدين/ جامعة عبد المالك السعدي، تطوان