هل صار أدب الخيال العلمي متجاوزا؟

مقدمة المترجم:

 يقدم هذا المقال وصفا ذكيا ودقيقا للمشهد العام لأدب الخيال العلمي ولأهم الفاعلين والمبدعين فيه، وكذا لآفاقه ومستقبله. وترى كاتبته أن كل ما تنبأ به أدب الخيال العلمي في القرن العشرين أصبح اليوم في طريقه إلى التحقق. بحيث تشير إلى أن من بين المراهقين الذين كانوا يعشقون أدب الخيال العلمي والذين كبروا اليوم، هناك أسماء معروفة مثل: بيل غييتس، وستيف جوبس، ومارك زوكربيرك. وقد صاروا يسيرون شركات كبرى تولي لهذا الأدب أهمية خاصة لتطوير التكنولوجيا ويساهمون بشكل غير مباشر في تطوير الآفاق الإبداعية لهذا الأدب. ويفتح الذكاء الصناعي والبيوتكنولوجيا، حسب الكاتبة، آفاق خصبة أمام أدب الخيال العلمي، إلا أن مرحلتنا هاته مازالت تنتظر، برأيها، مبدعين كبار مثل جورج أوريول أو ألدوس هوكسلي.

نص المقال:

يصعب وضع تعريف لأدب “الخيال العلمي”. ويغامر أحد كبار المبدعين في هذا المجال وهو إسحاق أسيموف بتقديم التعريف التالي: “هو جنس من الأدب يهتم بإيجاد أجوبة للإنسان على تطور العلم والتكنولوجيا” (1). وقد ولد هذا الأدب مند زمن طويل بحيث سجلت بعض إشاراته الأولى منذ ملحمة جلجامش (في القرن 18 قبل ميلاد المسيح)، وعرف في بداية القرن التاسع عشر انتشارا مفاجئا يعكس تسارع التطورات التقنية. ومن المهم أن نميز داخل هذا الجنس الأدبي بين نوعين: فهناك الخيال العلمي الروائي، وهناك الخيال العلمي الخاص بالقرب وآخر تجلياته هو: “السيبيربونك”Cyberpunk . ويضم النوع الأول عدة أصناف، منها ما يسمى: “أوبرا الفضاء” Spaceopera وأحسن مثال عليها هي رواية “كثبان” Dune للكاتب فرانك هيربيرت (1965). كما يضم صنفا يسمى: ما بعد القيامة وتجسده رواية “العصابة الواقية” للكاتب الفرنسي ألان داماسيو ( 2004)، أو رواية “الطريق” للكاتب الأمريكي كورماك ماكارثي (2006). هذا النوع الأول “كثيرا ما يوصف بعبارة البعيد والقريب” (أي أنه استكشاف للفضاء وكذا للمستقبل البعيد). وفي المقابل، فإن نوع السيبرنوك Cyberpunk “يريد أن يتحدث عن العالم الحالي، وعن عنفه وعن تكنولوجياته الصاعدة” (2).
ويمكن القول إن الخيال العلمي الروائي الذي يأخذنا بعيدا عنا وعن العالم الذي نسكنه، ما زال أمامه مستقبل واعد. ولكن ماذا يمكننا القول عن شبيهه الذي يهتم بالمستقبل القريب والذي نقوم بالإعداد له اليوم. إن هذا الصنف الآخر من الخيال العلمي هو ما يمكن تسميته بأدب “السكن”: وهو أدب يحاول ترويض التقدم والتطور قبل أن يقع، وأن يسبقه من خلال عالم الفكر قبل أن يصبح واقعا حيا وملموسا في حياتنا. بحيث أن المؤلفين يختارون، مثلا، اختراعا علميا معينا ما يزال في طور التكون والولادة داخل المختبرات ثم يحملونه ويبدؤون في التجوال به وكأنه فانوس علاء الدين السحري، فيسلطون بواسطته الضوء على نسيج المجتمع ومكوناته. وهذا الضوء هو الذي يسمح للقراء بالتفكير بشكل جماعي حول مستقبلهم. وهكذا تم إبداع روايات كبرى تحمل العديد من التنبؤات. وهي روايات كانت تراهن على وقوع تطور تقني كان ما يزال في بدايته ولكنها استطاعت أن تتنبأ، وقبل وقت طويل جدا، بما يحمله هذا التطور من تحول في النماذج وفي الرؤى القائمة. ونذكر كمثال على ذلك رواية “1984” للكاتب جورج أورويل الصادرة في 1949 والتي تتحدث عن اجتياح شاشات التلفزة والحاسوب لجميع الأمكنة تقريبا في العالم (كانت توجد في فرنسا في 1949 حوالي 4000 شاشة فقط). كما نذكر رواية ويليامز غيبسون “نورومانسيان” (1984) التي تخيلت مجيء “عالم الأنترنيت ومعارك القراصنة والهاكرز ضد الشركات العالمية” وذلك في وقت كانت شبكة الأنترنيت لا تضم سوى حوالي 1000 كمبيوتر فقط” (3).
ورغم امتلاكه لهذه القوة والقدرة على التنبؤ بالمستقبل، فإن أدب الخيال العلمي له سمعة سيئة أو يبدو وكأنه أدب غير جدي. فهو يبقى على الهامش أو محصورا في إطار تلك الحدود التي يهاجر إليها الحالمون، والكتاب التافهون المخربشون، والطليعيون. ويعتبره البعض “جنسا أدبيا غامضا متروكا على رفوف مكتبات المراهقين الذين لا يجدون من يفهمهم” (4). لكننا اليوم نجد أن من بين هؤلاء المراهقين السابقين الذين كانوا يعشقون أدب الخيال العلمي والذين كبروا اليوم، نجد أسماء معروفة مثل: بيل غييتس، وستيف جوبس، ومارك زوكربيرك. وبالتالي، أصبح من الصعب الحديث عن أدب من الهامش. لأن قراء هذا الأدب اليوم هم من حاملي الشهادات العليا الذين يواصلون، أمام الملأ، تحقيق ما يمكن تسميته بأحلامهم الكهربائية. فصاروا ينظمون ندوات ومهرجانات، وينشئون مراكز للبحث العلمي يدعون إليها دائما أدباء الخيال العلمي. ويمكن أن نذكر، مثلا، “وكالة البيئة والتحكم في الطاقة بفرنسا” التي وجهت الدعوة في 2015 إلى كاتبي الخيال العلمي طوماس داي، وجيرار كلاين للمناقشة وللحديث معهما حول الأدوات والمواد التي ستستعمل في المستقبل في مجالات التكنولوجيا وغيرها. كما يمكن أن نذكر “منتدى أخلاقيات علم الأحياء” الذي استضاف الناشرة سطيفاني نيكو، أو نذكر “المختبر الأوربي” الذي استضاف خلال السنتين الماضيتين الكاتبين ألان داماسيو، و نوربير ميراخانيان، والأمثلة كثيرة في هذا الباب.
وبموازاة ذلك، أصبح المهرجان الدولي لأدب الخيال العلمي في مدينة نانت بفرنسا ينعقد تحت رئاسة عالم الفيزياء رولان لوهوك، ولكن تشرف على إدارته الفنية الكاتبة جان ديباتس، وهو مهرجان يستضيف، بشكل متزايد، العلماء إلى جانب الفنانين والكتاب. ونفس العدوى لحقت بالحقل الجامعي بحيث أن العديد من الجامعات صارت تقترح القيام بأبحاث علمية واجتماعية مرتبطة بأدب الخيال العلمي. وحتى الأدب والرواية بشكل عام، أصبح يتأثر بهذه الموجة، كما هو الحال مع عدة عمليات لاستنساخ واستلهام الرواية الشهيرة “جزيرة ممكنة” للروائي الفرنسي ميشيل ويلبيك وهو ما يجعل أدب الخيال العلمي يصبح تقريبا مثل الأدب الكلاسيكي بحيث صار أدبا يخرج من عالم الهوامش ليصبح “أداة حقيقية للتقدم الاجتماعي”، يستعملها “مطلقو الإنذارت التكنولوجية” (5). لقد أصبح، أخيرا، يحظى باعتراف بقيمته التنبوئية وبقدرته على فهم الواقع. ولكن هذا الانزلاق أو التحول من الطليعة أو الهامش إلى المؤسسات ألا يعني في الواقع تراجعا للقدرات التنبؤية لهذا الأدب؟
ما نلاحظه اليوم هو أن شاشات التلفزة التي تنبأت بها رواية “1984” قد أصبحت واقعا معيشا في كل المنازل. كما أن الشركات متعددة الجنسيات أصبحت تستثمر أموالا كبيرة في مجال معالجة جينات “أفضل عالم” في الوجود على حد تعبير عنوان رواية الكاتب ألدوس هوكسلي. ونلاحظ أيضا أن غوغل، من بين شركات أخرى، أنشأت وكالة متخصصة في البيوتكنولوجيا اسمها “كايكو” تهتم بمكافحة شيخوخة الإنسان. كما سبق للكاتب الأمريكي “فيليب ديك” في رواية بعنوان “لو كان بيني سيمولي غير موجود” أن تنبأ بتحول “نيويورك تايمز” الشهيرة إلى جريدة يكتب فيها صحفيون عبارة عن روبوهات. وهو ما بدأنا نشاهد اليوم بدايات وقوعه خاصة في الصحف الأنجلوساكسونية (6). وباختصار، يمكن القول إن كل ما تنبأ به أدب الخيال العلمي في القرن العشرين، أصبح اليوم في طريقه إلى التحقق.
أما أدب الخيال العلمي في القرن الحادي والعشرين، فإنه يدور بالأساس، وبشكل يائس، حول “ثلاثة” مواضيع محورية تتعلق بما بعد الإنسان(7) وهي: الخلود، والبيوتكنولوجيا، والذكاء الصناعي. وهو أدب، يحلل بتوجيه من الشركات الكبرى، (مثل غوغل – أبل – ميكروسوفت – أمازون – فايسبوك) الآثار الاجتماعية والاقتصادية والإنسانية المحتملة لهاته الشركات على عالم الشغل مثلا. ومن خلال هذا التحليل، يستنتج هذا الأدب “إسقاطات مبالغ فيها” حسب تعبير الباحث أرييل كايرو، ويقوم بإبداع روايات تتناول الذكاء الصناعي مثل رواية “بنت الأوطوماط” لمؤلفها باولو باكيغلوبي (2009)، أو تتناول موضوع الشركات متعددة الجنسيات الشرسة في رواية “لوفسطار” لمؤلفها زولما (2002). لكن هذا الأدب لم يستطع أو لم يعد يستطيع الخروج من هذا النموذج الخيالي من أجل إبداع نموذج آخر جديد.. ويبقى من المؤكد أن استغلال الإمكانيات التي يتيحها الذكاء الصناعي والبيوتكنولوجيا يفتح آفاق أدبية خصبة، إلا أن زمننا هذا مازال ينتظر بروز مبدعين كبار مثل جورج أوريول أو ألدوس هوكسلي ليذهب بعيدا نحو تلك الآفاق. كما أن هذا الأدب يعاني، وهو أمر مرتبط بالشرعية النسبية التي حصل عليها، من مرض اسمه “التكلف والتصنع”، وهو مرض قاتل بالنسبة لجميع الحركات الفنية. إنه تصنع تتراجع طاقته من خلال المبالغة وهو، في نفس الوقت، يبالغ لأن طاقته تتراجع.
لكن أدب الخيال العلمي قد لا يكون مسؤولا بشكل كلي عن تراجع طاقته، وإنما قد يكون المسؤول عن ذلك هو الواقع نفسه الذي أصبح يتسارع من حوله، فالأفكار التي كانت في السابق عجيبة وغريبة، لم تعد تعيش فقط في خيال الفنانين والأدباء. ويمكننا أن نشير هنا إلى بعض الأمثلة: سيناريو إعادة البناء العضوي الذي جاء في فيلم “العنصر الخامس” للمخرج لوك بيسون، أو مثال: خلود الإنسان عبر تحميل اللاوعي من الأنترنيت الذي تتناوله القصص المصورة للكاتب “روجي لولو”، بعنوان: “الشموس الثلاث لفينييا”. وهي كلها أفكار بديهية أصبحت في طريقها إلى التحقق والإنجاز بفضل الإمكانيات التي يتوفر عليها أشخاص مثل بيل غييتس وريمون كورزويل مدير الهندسة في شركة غوغل، أو إيلوم موسك مدير “تيسلا موتورز” ومؤسس “نورالينك” التي تشتغل حاليا على ربط الدماغ البشري بدوائر مطبوعة. ومن ثم يمكننا أن نتساءل: هل وصلنا إلى مسألة “الخصوصية” التي تحدث عنها الكاتب فيرنور فينج، وهو عالم وأديب خيال علمي أمريكي كتب في 1993 عن فرضية تقول إن البشرية قد تخترع في 2050 ذكاء صناعيا سيتجاوزها لتضع بذلك نهاية للعصر الجيولوجي المسمى “الأنتروبوسين”؟ (8). فهل افتقدنا إذن قدرتنا على التفكير وعلى الخيال بشكل أسرع من العلم الذي نخترعه؟ إنه لأمر معقد أن نعترف بذلك، وما هو أكثر تعقيدا هو تراجع طاقات أدب الخيال العلمي. ويمكننا، في هذا الصدد، أن نستعير ما قاله “ليو هنري” مؤلف رواية “سرقة الاستمرارية” (2014): “لقد أصبح أدب الخيال العلمي يصطدم مباشرة بحائط الواقع”.
إلا أننا لا يمكن أن ننفي أن هذا الأدب ما يزال أمامه مستقبل واعد. لأن هناك حقولا كاملة ما زال العلم لم يسيطر عليها وما زالت تنتظرها اكتشافات جديدة مثل: مجال التفكير والدماغ. فرغم إشعاعها وشهرتها، فإن علوم الدماغ التي تبدو اليوم في خدمة الأنظمة لا تكشف عن كيفية صناعة المعنى أو عن الرهانات الكبرى للسياسة وأسرارها. وقد كتب في هذا الصدد العالم الفرنسي جون روسطان في 1954 في كتابه “أفكار عالم في البيولوجيا” عن الحدود التي يتوقف عندها التقدم حيث قال: “سيأتي يوم نقوم فيه بتحرير طاقات الذرة، وبعلاج مرض السل والسرطان، وسنقوم بالسفر عبر الكواكب، وسنمدد عمر الإنسان. ولكننا لن نجد الوسيلة الكفيلة بان يحكمنا أقل الناس استحقاقا”. والحقيقة هي أنه في هذا المجال، هناك الكثير مما يستدعي وضع بعض الفرضيات. وعلى العموم، يمكن القول إن أدب الخيال العلمي سيعرف كيف يبقى تلك “المادة الفكرية اللاصقة التي تربط الرغبات بالواقع” إذا ما قام، باستمرار، بمساءلة كل ما يجعل من الإنسان إنسانا. (9)

هوامش:

* كاترين دوفور كاتبة فرنسية في أدب الخيال العلمي وحاصلة على عدة جوائز. من بين مؤلفاتها: “ذكور شاحبة”، “غدا العمل”، “مذاق الخلود”. هذا المقال نشرته مجلة “لوموند ديبلوماتيك، عدد يوليوز 2017.

-1 إسحاق أسيموف. رواية “دافيد سطار، سبايس رانجر”.
-2 انظر حوارا مع روني مارك دولهين: “أدب الخيال العلمي والصحة: من الخلود إلى الإنذار التكنولوجي” 2017. انظر الرابط التالي: https://mnhgroup.blog 
-3 نفس المرجع السابق.
-4 كليمونتين سبيلير “كيف انتقم الخيال العلمي من العالم” مقال في موقع novaplanet.com يوم 26 يناير 2017
-5 نفس المرجع السابق.
-6 أرييل كايرو، “إعادة اختراع الشغل بدون العمل”. ملاحظات معهد ديدرو. باريس. مارس 2017.
-7 كتاب ماتيو طيرانس “نزعة ما بعد الإنسان هي تطرف”. منشورات لوسير. باريس 2016
-8 الأنتروبوسين عصر جيولوجي جديد من صنع البشر يعتبر بعض العلماء أنه بدأ في القرن 18 بعد الثورة الصناعية. ويتميز بقدرة الإنسان على التأثير على المناخ والبيئة، مما أدى إلى: فقدان التنوع البيئي، وتغير المناخ والتعرية…
-9 عن بيرتلان ميسكو في مقال: “كيف انتقم الخيال العلمي من العالم”. مرجع سابق.

ترجمة بتصرف: محمد مستعد

Related posts

Top