يزة جينيني تختتم جولتها السينمائية بمكناس

اختتمت مساء الجمعة 23 يونيو 2023 بالمعهد الفرنسي بمكناس (قاعة المسرح الكبرى) الجولة السينمائية لفيلم “سوق الخميس د الكارة” (2022)، جديد المخرجة الوثائقية المغربية/الفرنسية يزة جينيني (81 سنة). وقد نظمت هذه الجولة من طرف المعاهد الفرنسية بالمغرب تحت إشراف السيدة شانتي آمبلار، المكلفة بمهمة متعلقة بالسمعي البصري والسينما، وتم خلالها عرض ومناقشة هذا الفيلم بحضور مخرجته بكل من الرباط والدار البيضاء والجديدة ومراكش وأكادير وطنجة وتطوان والقنيطرة ومكناس.
ولإغناء برنامج هذه الجولة تم عرض الفيلم/التحفة “الحال” (1981/81 د) من إخراج المبدع أحمد المعنوني وإنتاج يزة جينيني، إلى جانب فيلم “سوق الخميس د الكارة” (52 دقيقة)، بكل المعاهد الفرنسية المذكورة، مع تكريم خاص ليزة والمعنوني بأكادير (مساء الجمعة 9 يونيو 23 بقاعة سينما الصحراء) في إطار أنشطة الدورة 14 للمهرجان الدولي للشريط الوثائقي (فيدادوك) بتنسيق مع المعهد الفرنسي بعاصمة سوس. إلا أن إدارة المعهد الفرنسي بمكناس، اختارت عرض فيلم “الملحون.. الكلام الموزون” (1989/25 د)، إلى جانب فيلم “سوق الخميس…”، عوض فيلم “الحال” نظرا لكون هذا الأخير تمت برمجته في مناسبات سابقة ضمن أنشطتها السينمائية، ونظرا أيضا لكونه صور بشكل أساسي بمدينة مكناس بمشاركة وجوه فنية مكناسية (منشدين وعازفين) لها مكانة وحضور بارزان في فن الملحون من قبيل محمد الوالي والراحل الحسين التولالي وتلميذه سعيد المفتاحي وغيرهم. ومما أضفى لمسة إنسانية حميمية على اللقاء، الذي نشطه الناقد السينمائي المتميز سعيد المزواري وشارك فيه بفعالية مدير المعهد الفرنسي بمكناس السيد فابريس مونجيا والمدير الفني لمهرجان “فيكام” النشيط دوما محمد بيوض، قبل وبعد عرض فيلم “الملحون”، حضور وتجاوب بعض من شاركوا في هذا الفيلم منذ أكثر من ثلاثين سنة بأسئلتهم وترحيبهم بمخرجته وإنشادهم لمقاطع من قصائد الملحون احتفاء بها وبالحضور النوعي، وضمنه عشاق هذا الفن الأصيل وبعض الفنانين الكبار كالممثلة فاطمة عاطف والمسرحي بوسلهام الضعيف، الذين حجوا للقاء بها وإحياء صلة الرحم الثقافي والفني معها ومع أفلامها الوثائقية المفيدة والممتعة.
لقد أصبح فيلم “سوق الخميس د الكارة” بمثابة وثيقة سمعية بصرية تذكرنا بجوانب من مظاهر الحياة الاجتماعية بمغرب منتصف التسعينيات وبوجوه فنية رحلت عن عالمنا (الحاجة الحمداوية نموذجا) أو كانت شابة آنذاك (أولاد البوعزاوي) وغير ذلك. كما أصبح فيلم “الملحون” بدوره وثيقة تعرف بهذا اللون الغنائي/الموسيقي الشعبي وبرموزه الكبار بالعاصمة الإسماعيلية.
وبمناسبة اختتام هذه الجولة السينمائية الممتعة أقترح هذه الورقة عن يزة جينيني وأفلامها، التي أعددتها في إطار اشتغالي على قاموس خاص بالمخرجين السينمائيين المغاربة، وذلك لتقريب القراء من المجهودات الجبارة التي قامت بها هذه السيدة على امتداد ما يفوق  الأربعين سنة في التوثيق لجوانب عدة من تراثنا الغنائي والموسيقي الغني والمتنوع:

يزة جينيني.. مغربية حتى النخاع

يزة جينيني منتجة ومخرجة وموزعة مغربية فرنسية عملت طيلة مسيرتها السينمائية على توثيق ألوان مختلفة من التراث الغنائي والموسيقي المغربي، بالصوت والصورة، والتعريف بها وطنيا ودوليا. وبهذا التوثيق السمعي البصري ساهمت في حفظها، علما بأن كل جهات المملكة تزخر بالعديد من الأهازيج والرقصات والأغاني والنغمات الموسيقية التي تعتبر بمثابة كنوز ينبغي الحفاظ عليها عبر تدوينها ودراستها وتطويرها…
تنحدر هذه المخرجة العصامية، التي أعادت اكتشاف جذورها المغربية عن طريق السينما، من أب وأم مغربيين يهوديين تزوجا سنة 1910 بقرية أولاد مومن (قرب واد الحجر بنواحي مراكش) وأنجبا ثلاث بنات ثم انتقلت الأسرة إلى الكارة حيث ازداد ابن وبنتان وبعد الاستقرار بالدار البيضاء ولد الباقون. هي أصغر أخواتها وإخوانها التسعة، قبيل ميلادها، يوم 27 مارس 1942 بأحد الدروب القريبة من ساحة فيردان بالدار البيضاء، هاجرت أختها الكبرى إلى فرنسا وتلاها باقي الإخوان والأخوات بشكل فردي وإرادي، أما هي (آخر العنقود) فقد قضت طفولتها ومراهقتها بالعاصمة الاقتصادية للمملكة وكانت ترافق والدها وهي صغيرة كلما سافر لزيارة الكارة أو أولاد مومن، حيث ورثت عنه حبه الجنوني للمغرب والمغاربة. كان هذا الأب بائعا متجولا للفواكه والزيتون والزيت ثم الحبوب فيما بعد، يشتري غلة الحقول ويبيعها في الأسواق، إلا أنه اضطر سنة 1959 رفقة زوجته وابنته يزة، وعمرها آنذاك 17 سنة، إلى اللحاق ببناته وأبنائه بإلحاح منهم. ومنذ ذلك التاريخ ويزة مستقرة بباريس، التي تابعت بها بعد حصولها على الباكالوريا دروسا جامعية في الأدب واللغتين الأنجليزية والروسية بالسوربون والمعهد الوطني للغات والحضارات الشرقية (إنالكو)، كما تزوجت وأنجبت.
لم يكن في نية يزة جينيني أن تصبح سينمائية متعددة التخصصات (مستغلة قاعة، موزعة، منتجة، كاتبة ومخرجة)، بل لعبت الصدفة دورا كبيرا في امتهانها للسينما في أبعادها المختلفة. فعندما كانت طالبة جامعية اضطرت للاشتغال كمضيفة ومكلفة بالاستقبال والعلاقات الخارجية بمهرجاني تور وآنسي الدوليين للأفلام (من 1966 إلى 1970) بفرنسا، وبعد ذلك أصبحت مديرة لقاعة “نادي 70” السينمائية الخاصة بالمهنيين، إلى حدود سنة 1986، وفي سنة 1973 التقت صدفة في حفل عشاء بالروائي والناقد السينمائي الفرنسي جان لوي بوري (1919- 1979)، الذي حثها على مشاهدة الفيلم المغربي الجديد والجيد آنذاك “ألف يد ويد” (1972)، وبالفعل زارت الدار البيضاء بعد ابتعادها عنها لأكثر من عقد من الزمن وشاهدت الفيلم والتقت بمخرجه سهيل بنبركة، واكتشفت لأول مرة أن هناك سينما مغربية، وبعفوية اقترحت عليه توزيعه بفرنسا بدءا من قاعة “نادي 70″، دون أن تكون لها دراية كافية بعوالم توزيع الأفلام. أسست لهذه الغاية شركة “صوجياف”، التي تحمل حاليا إسم “أوهرا”، بغية إنعاش وتشجيع الأفلام المغربية بالخصوص، توزيعا وإنتاجا، والتعريف بها خارج المغرب إلى جانب الأفلام الإفريقية عموما. كانت البداية بفيلم بنبركة الأول “ألف يد ويد” وفيلمه الثاني “حرب البترول لن تقع” وفيلمه الثالث “عرس دم”، الذي شخصت فيه يزة دورا صغيرا إلى جانب الممثلة اليونانية إيرين باباس. ثم بعد ذلك جاء دور فيلمي “أليام أليام” (1978) لأحمد المعنوني و”جرحة في الحائط” (1978) للجيلالي فرحاتي اللذين تم اختيارهما للمشاركة في مهرجان “كان” السينمائي: فيلم فرحاتي في قسم “أسبوع النقاد” وفيلم المعنوني في قسم “نظرة ما”، المحدث لأول مرة سنة 1978، ومن هنا انطلقت العروض الدولية لهذا الفيلم الأخير، الذي اكتشفت يزة لأول مرة من خلاله غناء وموسيقى “الغيوان” اللذين افتتح بهما الفيلم. بعد هذه الأفلام وزعت “الحال” (1981) لأحمد المعنوني (من إنتاجها) و”أموك” (1982) لسهيل بنبركة و”حادة” (1984) لمحمد أبو الوقار و”الزفت” (1984) للطيب الصديقي… كما وزعت أيضا بفرنسا أفلاما إفريقية ووزعت بإفريقيا أفلاما جلها ذات طبيعة موسيقية.
تجدر الإشارة إلى أن زوج يزة الراحل جيرار (توفي سنة 2013) وابنتهما جوهان، سبق لهما أن شاركا كممثلين في فيلم “الزفت” لحظة تصوير بعض مشاهده بباريس سنة 1983، الأول في دور شرطي وأب والثانية في دور صديقة الكريمي، الشاب المغربي المهاجر، الذي شخص دوره باقتدار الكوميدي نور الدين بكر. وتعترف يزة جينيني، التي ساعدت في إنتاج هذا الفيلم، بأن مخرجه وصديقها الكبير الطيب الصديقي هو الذي فتح عينيها خلال عودتها للمغرب نهاية السبعينيات على غنى الثقافة المغربية وهي اليهودية المغربية التي كانت تتحدث العربية مازجة بين السين و الشين ولولاه لما كانت أبدعت كل ما قامت به.
بعد توقف قاعة “نادي 70″، شرعت يزة جينيني منذ سنة 1987 في كتابة وإخراج وإنتاج سلسلة “المغرب جسد وروح”، التي تتكون من 11 فيلما وثائقيا قصيرا، وأردفتها بأفلام وثائقية أخرى تتراوح مدة كل منها بين 26 و90 دقيقة، ضمت بعضها إلى بعض في مجموعات بعناوين “جذور يهودية مغربية” و”أصوات المغرب” و”ألحان بالأرض الأمازيغية” و”المغرب الموسيقي”. هذا بالإضافة إلى نشرها للعديد من المقالات والنصوص حول الثقافة المغربية وبعض الكتب من بينها “المغرب” (1995) و”المغرب مملكة 1001 حفلة” (2001)…
نذكر من أفلامها، التي قارب عددها العشرين، والتي تتمحور مواضيعها حول محورين أساسيين هما: التنوع الموسيقي المغربي والمكون اليهودي لهوية المغرب الاجتماعية والثقافية، ما يلي: “العيطة” (1987/26 د)، “متعة الطرب على العود” (1987/26 د)، “أمداح” (1988/26 د)، “إيقاعات مراكش” (1988/26 د)، “الملحون” (1989/26 د)، “أناشيد مطرزة” (1989/26 د)، “أغاني السبت” (1989/26 د)، “كناوة” (1990/26 د)، “موسم” (1991/26 د)، “اهتزازات من أعالي الأطلس” (1992/26 د)، “أعراس الأطلس المتوسط” (1992/26 د)، “العودة إلى أولاد مومن” (1994/50 د)، “كونشيرتو 13 صوتا” (1995/90 د)، “طريق السدرة” (1997/26 د)، “من أجل متعة العينين” (1997/52 د)، “طبول قارعة” (1999/52 د)، “قصص إلكترونية” (2001/30 د)، “نوبة الذهب والضوء” (2007/80 د)، “سوق السبت د الكارة” (2022/52 د).
لقد دفعها عشقها اللامحدود للسينما والموسيقى المغربية بألوانها المختلفة إلى إنتاج وإبداع هذه السلسلة من الأفلام الوثائقية، بكاميرات 16 و35 ملم والفيديو، لتعكس من خلالها جانبا من غنى المغرب الموسيقي والثقافي برؤية خاصة لامرأة معتزة بانتمائها إلى أرض أبويها وأجدادها. كما دفعها إلى إنتاج أو المشاركة في إنتاج وإتمام أفلام مخرجين آخرين، في النصف الأول من عقد الثمانينات، ساهمت في حفظ جانب مهم من ذاكرة المغاربة الموسيقية والثقافية عبر توثيقها بالصوت والصورة، وهذه الأفلام هي “الحال” و”حادة” و”الزفت”. كما ساهمت أيضا، بفضل التكنولوجيات الرقمية الجديدة، في التعريف بألواننا الموسيقية العديدة من قبيل العيطة المرسوية والملحون وأحواش وأحيدوس والدقة والآلة والمطروز والليلة وكناوة والغيوان وغيرها، ونشرها على نطاق واسع عبر الأقراص المدمجة والقنوات التلفزيونية والمواقع الإلكترونية وغيرها من الوسائط. وليس غريبا أن يتم تكريم يزة جينيني والاحتفاء بأفلامها عدة مرات في مناسبات فنية وثقافية بمختلف جهات المملكة، لأن ما قامت به عمل توثيقي جبار من اختصاص المؤسسات وليس الأفراد وحدهم. ورغم أنها لم تكن تملك معرفة تقنية بالسينما ولا معرفة أكاديمية بالموسيقى، فإن حدسها وعشقها لهذين المجالين هما اللذان شكلا محركها الأساسي لإنجاز أعمالها، التي ساهمت وتساهم في نشر قيم السلم والتسامح والعيش المشترك، بالاستعانة بخبراء في الميدانين معا.
تجدر الإشارة إلى أن يزة جينيني نظمت على هامش مهرجان “كان” سنة 1981 عرضا لفيلم “الحال”، الذي أنتجته في فرنسا، حيث شاهده الكثيرون ولفت انتباه مهرجان نيويورك وتم اختياره للعرض من طرف إدارته، كما عرض في قناة نيويوركية محلية خاصة واكتشفه بالصدفة المخرج الكبير مارتن سكورسيزي وأعجب به وبموسيقى الغيوان، الشيء الذي جعله يستحضر هذه الموسيقى في فيلمه “الإغراء الأخير للسيد المسيح” (1988) ويوظف جزءا من تجلياتها في فيلمه “كوندون” (1995)، وهما الفيلمان اللذان صورهما جزئيا باستوديوهات أطلس بورزازات. التقى سكورسيزي في المغرب بمنتجة “الحال” وبأعضاء من فرقة “ناس الغيوان” واختار هذا الفيلم المغربي ليفتتح به سنة 2007 مؤسسة السينما العالمية التي يرأسها بعد ترميمها له وتجديدها صوتا وصورة. كما عرض هذا الفيلم بحضور عمر السيد رفقة هذا المخرج الكبير بساحة جامع الفنا في إطار أنشطة مهرجان مراكش الدولي السابع للفيلم.

< بقلم: أحمد سيجلماسي 

Related posts

Top