“60 سنة من الإبداع” بين العراقة والحداثة

يطالعنا الفنان التشكيلي عبد الرحمان رحول بأعمال إبداعية استيعادية في رحاب فضاء “أفريكان ٱرتي” بالدار البيضاء ابتداء من يوم الخميس 12 دجنبر الجاري تحت عنوان “60 سنة من الإبداع” بين العراقة والحداثة احتفالا بمسار مدرسة الدار البيضاء من حيث إرثها وتداوله الأجيالي.
نحات، وفنان خزف، مصور صباغي بارع واستثنائي تتفاعل أعماله الجمالية أيما تفاعل مع عشاق الجمال البصري من جيله ومن جيلنا المعاصر على حد سواء. فما يقدمه هذا المبدع سلطة فنية خاصة تكتسي قوة إبلاغية على مستوى الإعداد والإنجاز. إنه يعرف كيف يطور مسار تجربته في كل معرض، وكيف يصوغ لغات نحتية وصباغية معا: لغات تنم عن عمق في التصور، وحساسية في الذوق، ومراس باللغة التشكيلية بتعدد روافدها ومداراتها الأسلوبية التي تتوزع على البنائية الشكلانية والتكعيبية التحليلية.

مفردات بصرية تجريدية بعوالم تفكيكية شذرية

نسافر إلى عوالم لا حدود لهندستها الداخلية، كما ننتشي مع سحر الأشكال المشهدية وهي تتماهى مع عمق التخيل الذي يحيل على هندسة درب السلطان، وعراقة الأمكنة وأصالتها بأسلوب فني جذاب ومقنع، أسلوب مفعم بشعر اللمسات اللونية، وجمال البناءات التركيبية المنسابة بتلقائية وحرية.
جعل عبد الرحمان رحول من لوحته ومنحوتته حيزه البصري الخاص لكي يداعب الذائقة التشكيلية العامة التي ترى إلى الفعل التصويري تأشيرة مرور داخل الفضاء الإنساني الرحب. إنه يشتغل في إطار مشروع جمالي يراهن على البنائية التركيبية التي دعا إليها الفنان الروسي فلاديمير تاتلين إلى جانب النحاتين نعوم غابو وانطوان بفزنر، معمقا مفرداته البصرية التجريدية بعوالم التفكيكية الشذرية على صعيد البناء والتركيبة: فالمنهج بنائي والحصيلة تفكيكية بشكل يذكرنا برواد هذا الصنف الإبداعي في مجال التصميم المعماري (دانيل ليسكيند، فرانك غيري، زها حديد، دانييل ويل…).


عبد الرحمان رحول لا يكرر ما أبدعه سابقا، بل يجدد نفسه الصباغي والنحتي في ضوء وحدات مغايرة تطور أدواته التشكيلية، وتجعله مخلصا للعلاقة القائمة بين المتن الجمالي والعمق الإنساني. إنها علاقة امتداد وتجاوز في الوقت ذاته: امتداد ضمن التجاوز، وتجاوز ضمن الامتداد، وذلك في سياق جمالي واحد. هكذا، تمتلك كل لوحاته ومنحوتاته الفنية نبرات موسيقية داخلية وحاضرة بقوة الألوان والأشكال. فالفنان عبد الرحمان رحول قوة داخلية تنخرط في البحث عن صيغ جديدة لتأمل فوضى مجالاتنا الحضرية وأمكنتنا العامة. فاللوحات هادئة تماما، ونقدية أيضا تجعلنا نعيد النظر في تفاصيل حياتنا اليومية بكل صخبها وضجرها.
داخل هذه العوالم شبه المعمارية، يبحث عبد الرحمان رحول عن قوة الطبيعة الإنسانية كلغة رمزية تواجه سلطة الإسمنت والحجر. فتراه يقيم نوعا من التواطؤ الجميل مع الذات، ومع اللغة التشكيلية، كما تراه يدخل في سلام عميق مع نفسه والكائنات والأشياء المحيطة به. هذا السلام الداخلي هو الذي يرسمه، بدقة وبلاغة، الفنان عبد الرحمان رحول، فهو يستثمر كل الاستعارات والبلاغات التركيبية لكي يستجيب لطموحه الفني والجمالي، أولا، ولكي يلبي انتظارات القارئ البصري ثانيا. فكل لوحة إضافة نوعية إلى سجلاته البصرية التي تبحث عن حياتها الخاصة داخل الحياة العامة: حياة شذرية ومجزأة ومتخيلة. في كل لوحة أو منحوته إيقاع خاص، أقصد بنية حركية تضفي على العمل الفني المعروض مسحة جمالية وبليغة في الآن ذاته. فما أكبر العمل الفني، وما أصغر المجال المكاني! ألم يقل الشاعر الفلسطيني الراحل محمود درويش: كل الأحلام تكون أكبر من شكل تحققها؟
يخرج عبد الرحمان رحول من نمطية الأعمال الفنية المشهدية المعروضة، معمقا البحث الجمالي عن دوائر الفرح بالعلائق الإنسانية، وعن مسارات الابتهاج بالطبيعة والحب، هذا ما يفسر تماهي الكائنات مع البناءات المعمارية في لوحاته ومنحوتاته المعروضة. وكلها فضاءات حنينية إلى زمن الطفولة الملازم لأي كائن بوصفها مرجعيته الوجودية التي يستعيد من خلالها وعبرها عالمه المفقود عله يتغلب على وطأة الراهن الثقيلة.

العمل الفني، إذن، كالطفولة لا تكتب أو ترسم مرة واحدة. فهي تطالعنا من حين لآخر، وتضفي على بنيات اللوحة أو المنحوتة طابعا جماليا وشعريا في الآن ذاته، فكما كانت رغبة الشاعر محمود درويش هي البحث عن الشعر الصافي، كذلك فإن رغبة عبد الرحمان رحول هي البحث عن التشكيل الصافي أو الخالص، هذا التشكيل المتحرر من عبء وضغط الواقع والتاريخ معا. كل البنايات المشهدية دليل واضح على مدى انشغال الفنان بالتقاط الجوهري في الأشياء المرئية، مفتونا بعمقها الذهني المجرد في زمننا المعرفي الاستهلاكي الذي سيد غرائز التسلية واللعب على حساب قضايانا الوجودية والمعرفية الكبرى.
عبد الرحمان رحول من أنصار الإعلان المعنوي والثقافي عن ضرورة الفنون الجميلة، ووجودها الوظيفي في حياتنا العامة، حيث ساهم بشكل كبير في تبادل الخبرات والتجارب في هذا الشأن على مستوى تقاطع وحوار الجماليات البصرية على الصعيدين الوطني والدولي. فالتشكيل كالشعر يعلمنا قيم الديمقراطية والمساواة التي لا تعرف الحدود، والمراكز والأطراف، والقوى العظمى: فهناك عولمة بصرية في التشكيل كما في الشعر، وهي عولمة نبيلة غير مهيمنة. يقول في هذا الصدد: “علمتني كل تجاربي الفنية ذات الأساليب التشكيلية المختلفة بأن الجمال البصري ضروري وممكن في مرحلتنا التاريخية الدقيقة، فشكرا لكل الذين يتفاعلون مع عوالمي الإبداعية. إن الفنون الجميلة لا يمكن لها أن تتطور دون مولعين بأشكالها ومضامينها، فهم الذين يمنحون للتجربة الفنية معانيها الحقيقية”.
عبد الرحمان رحول يصغي بدقة إلى إيقاع الزمن البصري، فهو عميق في تأملاته، وانتقائي في أعماله، هذا هو سر الأبعاد النوعية للوحاته ومنحوتاته التي تراهن على البحث عن متن بصري لم يكتب بعد، أقصد لم يرسم ولم ينحت بعد.

رحول بقلم الأديب محمد زفزاف
عبد الرحمان رحول فنان تشكيلي وتشكيلي بحق:

 1- يجمع بين ما هو موروث حضاري وبين ما هو مولود من الرغبة في التجديد والتطوير… أي بين ما هو علمي يضبط أسس البناء الشكلي في العمل الإبداعي وبين ما هو عملي في رصد معطيات المنظور من الأشياء بواسطة النظرة الثاقبة لمفهوم الجمال والتي تعكس اهتمام الذات ورغبتها في تحريك المتجمد وتحويل المتخيل إلى تراكيب ملموسة وأنماط تجسيدية قابلة لإحداث تحولات جمالية في شكل وباطن الأنماط.
2- يجمع بين الرسم/استغلال ضيق فضاء اللوحة استغلالا تتحكم فيه القدرة على تمثل الحدث وتوظيف الفكرة عبر اللون والظلال وهاجس الحالة الإبداعية، وبين النحت والخزف وتسخير العناصر المهيأة لطبيعة كينونة الأرض والمتوفرة بشكل من أشكال مخاضات التجاذب والتفاعل بين الطبيعة والإنسان لخلق الامتداد المكون لفضاء التجانس الحسي والجمالي والتعايش البيئي من خلال استحضار المقدرات التقنية على إفراز أوجه التعبير المتناغم الذي يعكس في واقع الأمر، قدر سيطرته على نسج نماذج وعينات تشكيلية متفردة بكل دلالاتها وإيحاءاتها وإيماءاتها المستمدة أصلا وبالضرورة من قناعته واختياره لأسلوب ولغة الحوار.
3- كونه أحد هؤلاء القلائل، والقلائل جدا بالمغرب الذين أثبتوا حضورهم وعمقوا مفهوم العمل التشكيلي وجذروا جدواه ممارسة وتطبيقا فربطوه بالمعيش اليومي وعنوا بكل أسباب التواصل الجمالي عبره…
فرحول كسر قيود اللوحة وتجاوز مسافتها المسدودة وطرح بحدة “قضية” الخطاب التشكيلي ووجد لذلك سبيلا واصلا تمثل في العروض المفتوحة بفضاءات لا محدودة خارج إطار اللوحة وجدران القاعة، انطلاقا من تجاربه الشخصية والجماعية بالبيضاء وأصيلة والرباط وفرنسا والولايات المتحدة الأمريكية وسواها، حيث اكتست تجربته الخزفية والنحت الحجري والرسم التجسيدي – على وجه الخصوص – قيمتها المستحقة في إظهار شخصيته الفنية.
4- كونه أيضا أخضع إمكانياته التقنية لمحك التجريب المرحلي قبل أن يستقر على أسلوبه المميز لطبيعة عمله الإبداعي الذي قام على شرط التوفيق بين النهج العلمي والصيغ الجمالية وعلى خلق توازنات بين التعبير عن الشكل والتعبير بواسطة الشكل، بين استنطاق المخبوء وتحرير ما هو بصري من قيد الإحالة على الهامش.
5- كونه فنانا عمليا يقدم الفعل ويتخذه حديثا واضحا جليا يحمل بصمات الذات وهويتها الفنية ويطرح همومها وانشغالاتها بلغة عميقة وصريحة لا تكتنفها ضبابية ولا تسودها فوضى الطلاسيم، لغة تشكيلية ترفض الخضوع لما هو قسري إجباري لحظي ولكنها لا ترفض البساطة من حيث هي أساس تعميق الحوار…
رحول بعد هذا كله، وانطلاقا من هذا كله، طبع الحركة التشكيلية الحديثة بالمغرب وصار معلمة من معالمها ورمزا من رموزها فهو ممن تذكرك بهم أعمالهم وإن كنت لا تبصر ما خلفها من ضروب المعاناة ومراحل التوليد. «

“عبد الرحمان رحول: نحت، تصوير صباغي وخزف”

يتفاعل المتلقي عبر مونوغرافيته الجمالية الموسومة بـ “عبد الرحمان رحول: نحت، تصوير صباغي وخزف” عام 2016 المنشورة بدعم من وزارة الثقافة، مع منجزه البصري الذي يكتسي حضورا لافتاً على مستوى الإعداد والإنجاز بلغاته وتعبيراته النحتية والصباغية والخزفية المداعبة للذائقة التشكيلية العامة التي تعتبر الفعل التصويري تأشيرة مرور داخل الفضاء الإنساني الرحب.
في ضوء سيرورة السجلات البصرية المنتقاة بعناية من لدن الفنان رحول نسافر إلى عوالم لا حدود لهندستها الداخلية، كما ننتشي مع سحر الأشكال المشهدية وهي تتماهى مع عمق التخيل الذي يحيل على هندسة درب السلطان، وعراقة الأمكنة وأصالتها بأسلوب فني جذاب ومقنع: تصوير صباغي (1960 – 1970)، تصوير صباغي (1970 – 2000)، تصوير صباغي (2000 – 2016)، منحوتات، جداريات خزفية، جداريات صباغية، منحوتات هائلة بالدار البيضاء والصين وأصيلة، منحوتات على الثلج بأمريكا وكندا وفرنسا.

داخل هذه العوالم شبه المعمارية، يبحث عبد الرحمان رحول (كما جاء في كتابات مصطفى الشباك، ومحمد علوط…) عن قوة الطبيعة الإنسانية كلغة رمزية تواجه سلطة الإسمنت والحجر. فتراه يقيم نوعا من التواطؤ الجميل مع الذات، كما تراه يدخل في سلام عميق مع نفسه والكائنات والأشياء المحيطة به. فهو يستثمر، كما ورد في محاورة مصطفى النيسابوري، كل الاستعارات والبلاغات التركيبية لكي يستجيب لطموحه الفني والجمالي، أولا، ولكي يلبي انتظارات القارئ البصري ثانيا. فكل لوحة إضافة نوعية إلى سجلاته البصرية التي تبحث عن حياتها الخاصة داخل الحياة العامة: حياة شذرية ومجزأة ومتخيلة.
إضافة إلى فصل خاص بشهادات متابعي تجربته (محمد السجلماسي، وعزيز داكي، ومحمد أديب السلاوي، وادريس الخوري، ومحمد زفزاف، وموليم العروسي، وعادل مغادش، وج. أوستين)، فضلا عن نبذة مفصلة حول مسار رحول التكويني داخل المغرب وخارجه (تكوينه الفني بمدرسة الفنون الجميلة بالدار البيضاء سنة 1962 قبل أن يلتحق على التوالي بالمدرسة الوطنية العليا للفنون الصناعية والمهن الفنية وبالأكاديمية الشعبية للفنون التشكيلية بباريس إلى غاية 1972)، ومعارضه الفردية والجماعية في مختلف الأوساط الدولية (1967 – 2016)، وصوره الفوتوغرافية الشاهدة على أحداثه الفنية والثقافية..

 إعداد: د. عبد الله الشيخ 

ناقد فني وباحث جمالي

Top