إذا توقفنا عند مجمل الخطابات التي أثيرت حول الحراك الشعبي الذي تعرفه منطقة الريف بشمال المغرب مند بداياته، وخاصة بعد أشكال التصعيد وتغير مقاربة الدولة في التعاطي مع المظاهرات والاحتجاجات خلال الأيام الأخيرة، يتضح أن هذه الخطابات تنقسم من حيث الشكل والمضمون إلى ثلاثة أنواع يمكن استجلاء خصائصها وعناصرها كالآتي:
1 – خطاب التخوين والعنف الشعبوي
من خلال تتبع النقاش الدائر حول أحداث الحسيمة وحول بعض أشكال ووقفات التظاهر التي تعرفها بعض المدن، وبغض النظر عن اختلاف الآراء حول الحراك، يتضح أن النوع الأول من الخطابات التي أفرزها هذا الوضع وتداعياته هو تلك التصريحات التي يدلي بها بعض المواطنين الذين لهم مواقف وردود مضادة من الحراك وأشكال التضامن معه والدعوة للاستجابة لمطالبه، خاصة التي تصدر خلال الاحتكاكات والوقفات المضادة، وخلال النقاش ببعض الإذاعات والقنوات التلفزية وخاصة شبكات التواصل الاجتماعي.
نتوقف عند مثالين دالين يختزلان هذا الخطاب.
– المثال الأول والذي أثار النقاش بل والاستنكار من طرف فئة من المواطنين والحقوقيين، هو قول مومن الدريبي خلال البرنامج الذي يستضيفه بإحدى الإذاعات: «نحشم نجمع أولاد عمامي نطلعو نقطعوك…».
– المثال الثاني هو التصريحات الصادرة عن بعض المشاركين، رجال ونساء، في وقفة للمجتمع المدني ضد وقفة لجمعيات حقوقية وإطارات وأفراد تضامنا مع مطالب حراك الريف، حيث كرروا خلال الاحتكاك بالمتظاهرين ومن خلال تسجيلات بالصوت والصورة ما يلي:
«حنا كانطلبو من الأمن اتساخر للور ويخليونا حنا معهم منا ليهم»،
«حنا كنطلبو السلطة تمشي فحالها وتخلينا منا ليهم، حنا هاد الناس كادين بهم، نعطيو دمنا، وعارفين أش غانديرو معهم»…
لنحاول فهم مضمون وأبعاد هذين المقتطفين من خطاب عام صار يجتاح فضاء المجتمع ووسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي..
ونبدأ بكلام الدريبي، فإضافة إلى أن في هذا القول تعنيفا وتهديدا واضحين، فإنه ينضاف إلى ذلك الطابع والنبرة القبلية التي تحدث بها المنشط الإذاعي للتعبير عن موقفه من حراك الحسيمة، حيث استعان بلغة القرابة القبلية و»العمومة» وبشحنة وجدانية عرقية للتعبير عن «وطنيته» وعن الرفض وإمكانية الذهاب، أي الغزو، لمواجهة أغيار الريف لتأديبهم وفض حراكهم!
وهنا يتضح جانب من المتخيل القبلي الذي يطبع نمط التفكير لدى فئة واسعة من المغاربة، مهما كان مستواهم التعليمي، والذي يطفو ليعبر عن حضور الانتماءات والأصول والتمايزات الاجتماعية في نظر المواطنين لبعضهم البعض، وفي تقديرهم لمستوى العلاقة بالوطن والغيرة على مصالحه، واعتبار الآخر المخالف، سواء على مستوى الانتماء أو الفعل الاجتماعي والحقوقي أو الخطاب، مدانا ومشكوكا في نواياه وممارساته.
من خلال المثال الثاني تتضح لغة العنف والمواجهة التي تطبع ردود وسلوكات بعض المواطنين اتجاه المتعاطفين مع الحراك الشعبي بالحسيمة، ويستندون في ذلك على استعدادهم للدفاع عن الوطن ضد الأعداء والمتربصين بوحدته حيث يعتبرون هذه الوقفات والحراك في ذاته مثيرة للفتنة وهلاك الأمة، على حد تعبيرهم.
وما يهمنا في تحليل هذا الموقف والسلوك الذي كان بارزا خلال وقفات التضامن بعدة مدن، وكان حاضرا بقوة أيضا من خلال مضمون آراء وتعاليق المواطنين بشبكات التواصل الاجتماعي، هو طابعه التهديدي وميوله إلى العنف اللفظي والجسدي، والرغبة في القيام محل الأمن وأجهزة الدولة، والتصدي والمواجهة المباشرة بين المواطنين في الفضاء العام، مما يشكل سابقة في تطورات السلوك الاحتجاجي والاجتماعي في المغرب، ويفصح عن تمثلات فئوية متضاربة اتجاه القضايا المطروحة، وعن انقسامية صراعية في فضاء المجتمع، ويندر بإمكانية تفاقم وانفلات هذه الردود والممارسات في المستقبل، خاصة أنها ليست فردية ومعزولة بل صارت تنتظم في خطابات وإطارات واضحة.
ويبقى أن نخلص إلى أن المثير في أشكال هذا الخطاب أنه يغذي ثقافة العنف وصراع الانتماءات المجالية والإثنية والفئوية في المجتمع وفي التعاطي مع قضاياه، ويكرس انقسامية المجتمع وصراعاته الداخلية والتقليدية المبطنة، ولا شك أن اتساع هذه السلوكيات والصراعات ستشكل عائقا كبيرا في المستقبل أمام مسار تحديث المجتمع وبناء الحياة الديمقراطية والمدنية، وتوطيد قيم المواطنة والعيش المشترك.
2 – خطاب التشكيك والمبالغة
نقصد بهذا الخطاب تلك التحاليل والآراء التي يقدمها بعض الباحثين والسياسيين وكذا الإعلاميين وتركز على التشكيك في أهداف الحراك الذي تعرفه الحسيمة والدوافع الحقيقية للنشطاء، حيث يغلب على هذا الخطاب طابع التخوين وربط ما يجري بأجندة أجنبية، وخاصة العلاقة بالجماعات الإسلامية بأوروبا، ويؤكد على خطورته وضرورة وقفه.
ولتوضيح عناصر هذا الخطاب يمكن أن نتوقف عند مثالين: إفادات محمد ضريف ومنار السليمي. فالأول يوضح خلفيات تعاطي السلطة مع الحراك، حيث يرجع ذلك إلى الخوف من الانزلاق نحو الفوضى ومن توظيف بعض نشطاء الحراك من طرف أطراف معينة، خاصة أنهم بسطاء وذوي تكوين محدود ويتصرفون بعفوية على حد تعبيره، إضافة إلى تركيزه على استعمال الخطاب الديني من طرف نشطاء الحراك لتهييج السكان مما جعله يثير إمكانية ضلوع جماعات سلفية جهادية في اختراق الحراك. وفي هذه النقطة يلتقي مع منار السليمي الذي يشك بدوره في علاقة بعض النشطاء بجماعات شيعية، ويستند في ذلك إلى حضور القاموس الديني في خطابهم الاحتجاجي والتواصلي.
من خلال عناصر هذا الخطاب التي توقفنا عندها، يتضح أنه بدوره يتسم بالاختزالية والمبالغة في إسقاط أحكام غير مبررة، ولعل أكبر أخطائه هو كونه يستحضر الوضع الجيواستراتيجي وما يحدث في الجوار الإقليمي لتحليل حراك الريف وإبداء الرأي حوله، حيث سرعان ما يقفز على خصوصية التظاهرات السلمية والمطالب الاجتماعية والاقتصادية المعلنة، ليزكي احتمال وشبهة المؤامرة والاختراق والعلاقة بالجماعات الإسلامية.
ولا شك أن سلبية هذه التحاليل والآراء المبالغ فيها، ومهما كانت درجة احتمالها بالنسبة للتحليل، تتمثل في كونها بدأت تتحول إلى «بريدكم» جاهز في تناول كل الأحداث والوقائع السياسية والاجتماعية بدون معطيات ملموسة وبغض النظر عن خصوصيتها المحلية وطبيعته المطلبية المعلنة. وعلى مستوى المقاربة الديمقراطية لتدبير الديناميات الاجتماعية والاحتجاجية في فضاء المجتمع، خاصة بالنسبة لمجتمعات ودول في مرحلة انتقالية من مسارها، فمثل هذه الآراء والإفادات والتحاليل تزيد من تعقد والتباس الحقيقة والوضع ومخارجه، خاصة أنها من المفروض أن تتحلى بقدر من النزاهة الفكرية والعلمية لأنها تصدر عن باحثين وفاعلي الرأي وعبر وسائط ومنابر أكثر تأثيرا وحساسية.
3 – خطاب التضامن والتهدئة الديمقراطي والحقوقي
تتمثل عناصر هذا الخطاب في سندين وشكلين تواصليين، من جهة البيانات الصادرة عن مجموعة من الإطارات المدنية والحقوقية حول تطورات الوضع الاحتجاجي والأمني بالحسيمة، ومن جهة أخرى الآراء التي يعبر عنها بعض الفاعلين في النقاش العمومي حول يجري.
فإذا توقفنا عند عدة بيانات التي أصدرتها الإطارات المدنية والحقوقية حول أحداث الحسيمة وكيفية تعاطي الحكومة مع مطالب المتظاهرين، خاصة بعد تصاعد الاحتقان واللجوء إلى الاعتقالات، وأهمها: بيان مشترك لعدة إطارات (حوالي 400 هيئة) منها التنسيق الوطني الأمازيغي وكونفدراليتي الجمعيات الأمازيغية بالشمال وبالجنوب ومنظمة تماينوت وفدرالية جمعيات وجدة ورابطة تيرا وتنسيق جمعيات لاخصاص..، وبيان الائتلاف المغربي لهيئات حقوق الإنسان، وبيان الشبكة الأمازيغية من أجل المواطنة، وبيان فدرالية الجمعيات الأمازيغية، وبيان التجمع العالمي الأمازيغي، وبيان الكونغريس العالمي الأمازيغي… نجد أنها تلتقي في عدة عناصر خطابية على مستوى مضمونها ويمكن تلخيصها في رفضها واستنكارها لأشكال التصعيد بمنطقة الريف، والدعوة إلى التعقل والتحلي بالحكمة والسلمية والتراجع عن المقاربة الأمنية في التعاطي مع الحراك، ورفض الزج بالدين والمساجد في الصراع السياسي، ورفض اتهامات التخوين والعمالة للخارج التي وجهت للمتظاهرين، مستحضرة واقع التهميش وفشل السياسات العمومية بالمنطقة، وتاريخها المشحون سياسيا واجتماعيا وجراحها التي لم تندمل.
كما تلتقي في مطالبتها بإطلاق سراح المعتقلين ووقف المتابعات ورفع المحاصرة الأمنية على الساكنة، لتوفير جو الثقة والشروع في حوار حكومي مسؤول مع ممثلي الحراك، والإسراع في الاستجابة لمطالب الساكنة التي تعتبرها مشروعة، وفي تنفيذ مشاريع تنمية المنطقة في مختلف القطاعات، كما تحمل الإطارات المدنية الدولة مسؤولية صيانة الخيار الديمقراطي واحترام حقوق الإنسان.
وبالنسبة للشكل الثاني الذي يتجلى من خلاله هذا الخطاب أي إبداء الفاعلين للرأي في النقاش العمومي، والذي يتكامل مع سابقه، يمكن أن نقتصر على ما جاء في مقال لحسن أوريد نبه من خلاله إلى خطورة هذا الوضع في ظرفية مشحونة ومضطربة، منتقدا بدوره تحول المساجد إلى صدى سياسي لطيف دون طيف، مؤكدا على الطابع الاجتماعي لمطالب الحراك وعلى أن المطلوب الآن هو إيجاد مخرج، والحكمة هي في مسايرة هذا المد وإطلاق سراح الموقوفين لتهدئة الوضع وإجراء حوار جاد مع الساكنة.
من خلال عناصر هذا الخطاب، سواء في شقه المرتبط ببعض بيانات الإطارات المدنية والحقوقية أو في شق الرأي والنقاش العمومي، يتضح أنه خطاب موسوم بصفة عامة بالطابع الحقوقي، وبمستوى عال من النضج والتعقل والغيرة على مسار البناء الديمقراطي والتنموي، حيث يمكن اعتباره «ضمير النخبة المواطنة» الذي نبه إلى خطورة الوضع وأشكال التصعيد التي تهدد استقرار المنطقة،، منحازا في نفس الوقت لآليات الحوار وممكنات المعالجة الديمقراطية عبر التشديد على مشروعية المطالب الاجتماعية والاقتصادية التي عبرت عنها ساكنة الحسيمة، واستعجال الاستجابة لها وسن سياسات عمومية ومشروع تنموي فعلي وجاد في المنطقة.
بهذا المعنى يعتبر هذا الخطاب الحقوقي والديمقراطي، والفاعلين المنتجين له، وإضافة إلى طابعه التضامني، طرف وساطي في تدبير الصراع والاحتقان الحاصل بين الحراك وممثليه من جهة، وبين الحكومة والدولة من جهة أخرى، حيث يمكن أن تتبلور الوظيفة الوساطية لهذا الخطاب والفاعلين، إذا اقتنع الطرفين وساعدا على ذلك، عبر آليات عملية وميدانية للحوار المسؤول وتهدئة الاحتقان وضمان تحقيق مطالب الحراك بدء بالإفراج عن المعتقلين، وذلك في إطار إمكانيات الممارسة الديمقراطية والحقوقية الناضجة والفضلى.
وبتحليل مختلف الخطابات التي تروج في فضاء المجتمع وعلى مستوى النقاش السياسي والعمومي، يتضح أن المغرب في حاجة ماسة اليوم إلى تنامي الخطاب المتزن ذي الطابع الديمقراطي والحقوقي، لاحتواء خطابات العنف والرفض والإقصاء والازدراء التي صارت تكتسح الفضاء والنقاش العموميين وشبكات التواصل الاجتماعي، خاصة أمام واقع الكساد وفقدان الثقة الذي تعرفه الحياة السياسية والحزبية والثقافية، وضعف بل انعدام المؤسسات الوسيطة التي تعتبر آلية مركزية في إرساء البناء الديمقراطي والحقوقي، وتطوير الوعي العام ونمط وقيمة العلاقات والوظائف والمواقف الفردية والجماعية، في الحياة العامة وفضاء المجتمع.
> رشيد الحاحي *