كلمة محمد عبد الرحمان برادة في ندوة «السياسة والإعلام.. تجربة علي يعته» *

السلام عليكم جميعا،
عم مساء أيها الكبير دائما أستاذي علي يعته،
في ذلك الزمان البعيد القريب، وفي تلك اللحظات من تاريخ هذا البلد السعيد حيث كان النضال مستمرا، وكنت وآخرون تلقنون الدروس في حب الوطن كما في الوفاء والتضحية والأمل… لم تكن الصحافة وقتها إلا سياسية، عرفتك في تلك الظروف، وكم أشعر بالخجل إذ أتجرأ وأقول عرفتك لأن وحدهم من عايشوك عن قرب وعلى امتداد العقود يمكن أن يحيطوا بموسوعيتك أيها الأستاذ.
أسعدتني الأيام لأحظى بثقتك وعطفك وسعة صدرك. كنت في خندق تلك الصحافة التي لم تكن لتوجد لولا همة رجال من طينتك، الصحافة كانت في صلب الكفاح والتضحية من أجل الغد الأفضل. الصحافة وقتها إما أن تكون سياسية أو لا تكون.
كنت، وآخرون مثلك، مهووسين بالدفاع عن المبادئ والقيم وملتزمين بالعهد الذي قطعتموه من أجل أن يحيا الوطن حرا ومستقلا وديمقراطيا…
أذكر ذلك اللقاء في خريف السبعينات من القرن الماضي حيث اقترحت عليك وعلى ناشري الصحف الوطنية الذين لم يكن عددهم آنذاك يفوق عدد أصابع اليد الواحدة، أرضية مكملة للعمل الصحفي تمتد إلى إيجاد شبكة توزيع في مستوى الطموح.
كنت في كل مرة تذكر بأن انتشار الصحف الوطنية لا يهدف إلى الربح والتجارة ولا لكسب المواقع ولا للنجومية بقدر ما كانت الصحافة الوطنية واجهة للتوعية وتلقين أصول التربية الوطنية.
في تلك الظروف الاستثنائية بكل المقاييس، كنت تقف شخصيا وبانتظام لتكتب المقال وتسهر على إخراجه ورقنه بالرصاص آنذاك، وتصحح لاموراس قبل أن تأذن بانطلاق هدير «الماكينة» التي كانت عبارة عن أطنان من الحديد والفولاذ والصلب، وكانت إحدى أدوات الكفاح ولا تنتج الجريدة إلا باستماتة المناضلين الساهرين على تشغيلها.
هكذا كانت كل الصحف مع فارق بسيط بين هذه وتلك، تظهر وتختفي، وهكذا كان علي يعته الصحفي ومدير النشر ومدير المطبعة والمسؤول عن الورق والمسؤول التجاري والمالي والقانوني، ليس هذا فحسب… كان الزعيم السياسي الذي لا يخرج من المطبعة إلا ليلج مكتبا آخر في زنقة فرحات حشاد لينغمس في أكوام من الرسائل والوثائق والتقارير المبعثرة هنا وهناك، فوق المكتب وبجانب النافذة وفي الرفوف وعلى الأرض، في فوضى منظمة. وحده السي علي كان يعرف فك رموزها وانتقاء ما يبحث عنه.
كانت مواعيدي معه إما في المطبعة أو في المكتب، وحين لا يكون موجودا لا هنا ولا هناك معناه أنه في الحزب وفي الاجتماعات وفي العمل بدون انقطاع.
بتلك الوسائل البسيطة جدا وبإمكانيات ضئيلة وشبه منعدمة كانت تصدر جرائد الحزب، وكل جرائد الأحزاب آنذاك عاشت الشدائد والمحن لتصل، حين يسمح لها الرقيب بذلك، إلى القراء الذين كانوا بدورهم مواظبين وأوفياء ومتفهمين، لا يعيرون للشكل أية أهمية بحيث الجريدة هي مضمونها لا جماليتها ورونقها.
كانت الصحف بالأبيض والأسود وأحيانا لا الأبيض أبيضا ولا الأسود كان أسودا ومع ذلك كانت الصحف تقرأ بنهم ويحتفظ بها وتعاد قراءتها ويتم تداولها خفية في بعض الأحيان.
الأستاذ علي يعته ناضل من أجل الصحافة لقناعته بدورها في التوعية والتثقيف. هكذا كانت الصحافة السياسية الصادرة عن الأحزاب الوطنية. وفي تلك الظروف كان علي يعته أحد رواد الصحافة الملتزمة والهادفة والناطقة باسم الحزب والمناضلة من أجل الوطن دون أي دعم ولا تشجيع.
تطورت الصحافة السياسية وتطورت السياسة الصحفية برمتها وكم أسعدني أن عشت تلك الفترة العسيرة والغنية في ذات الوقت، فترة كانت فيها الصحافة والسياسة وجهين لقضية واحدة: الوطن ولا شيء غير الوطن.
رحم الله من ناضلوا مثل علي يعته من أجل الصحافة السياسية الملتزمة. هم أعلام وشهداء القضية. وأطال الله في عمر من لازال يعمل في الصحافة السياسية في هذا الزمن الجميل الذي لا الصحافة لها نفس المدلول ولا السياسة تمارس دائما من أجل نفس القضية، ومع ذلك يبقى الصحفي السياسي كالعود كلما زاد احتراقا زاد دائما طيبة.
شكر لكم والسلام.
*شهادة ألقاها، في الندوة الفكرية التي نظمتها مؤسسة
علي يعته حول الصحافة والسياسة
محمد عبد الرحمان برادة المدير السابق للشركة الوطنية
لتوزيع الصحف «سابريس»

Related posts

Top