أتيح لي حظ قراءة الديوان الرابع ” كل غياب وأنت قريب ” للشاعرة المبدعة زكية المرموق / الصادر مؤخرا – 2018، في لحظة كنت منشغلا فيها بدراسة ظاهرة “الحداثة الشعرية في القصيدة المغربية” / من منظور استقصاء الخرائطية الرمزية لما وصفته بـ (الهويات الشعرية المتغايرة )، وقد كنت في منعطف من الدراسة يصل إلى تأكيد بصمة شمولية لتأسيس المعنى الشعري الحداثي موسومة بوصف (الحداثة في الشعر المغربي والعربي هي حداثة اغترابية)، كما يعكسها المتن الشعري المتحقق في ربوعية الخريطة الإبداعية العربية للشعر ووقتها كنت أيضا على قيد انجاز مشروع نقدي حول الكتابة الشعرية بصيغة المؤنث / حتى لا أقول الأدب الشعري النسائي، فلما فرغت من قراءة ديوان ” كل غياب وأنت قريب” و قد كان لي سبق قراءة ديوانها الشعري الثالث “المشي على الماء وأكثر” وأعدت قراءاته أكثر من مرة تحصل لدي من ارتياد القراءة ما يلي:
أ- دونما شك يتعلق الأمر بتجربة شعرية حققت فيها الشاعرة زكية المرموق ارتقاءا عاليا بالسقف الجمالي لمغامرة الكتابة الشعرية في مسارها الموسوم بنقلات نوعية على مستوى الوعي الشعري، وهذا شأن سنوضحه من خلال مستويات القراءة النقدية المطروحة.
ب- انخراط هذه التجربة الشعرية فيما ذكرناه استهلالا بوصف ( الحداثة الاغترابية )، على اعتبار أن الدلالات السيميائية لتشكل المعنى الشعري في الديوان تتعالق بشكل جوهري مع التعبير عن هذا الاغتراب الوجودي و الاجتماعي والفلسفي والإنساني الذي يطبق على الكينونة الشاعرة في وجودنا الراهن / بدءا من الحمولة الرمزية للعنوان “كل غياب و أنت قريب” التي تتأسس على المفارقة الضدية للواقع و الحلم – الواقع بما هو غياب واغتراب والحلم بما هو حضور وقرب وامتلاء، ووصولا إلى تصاعد هذه البصمة الاغترابية في المنحى الدرامي لبناء القصائد، في مجمل تشكلات أنساقها التعبيرية، ومتخيلها الشعري ، وبلاغة اشتغال الرمز، والصورة الشعرية .. هذه القصائد الهاجسة في جل عنوناتها بقلق الاغتراب الوجودي وحلم التسامي على واقع تحاصر فيه الذات الشاعرة بكل أشكال قيود الغربة وجدانيا وروحيا على المستوى الفردي و الجماعي كما على مستوى الوعي و اللاوعي:
كل غياب و أنت قريب / هذه البئر بخيلة خارج أرضك / أختصرني فيك / كثيرة أنا بك / احتراق أخضر / مسافات على جسر / أنتظر عصافيره على النافذة / هل سيأتي صباح اخر / أمزق جواز السفر.
1 / الغائب – القريب / وتشكلات المفارقات الضدية الاغترابية:
إن “الفقدان” الذي يأخذ شكل ( الغياب المانع لتحقق الذات ككينونة مكتملة ) والذي يعبر تخييليا عن مجازات الاغتراب في شعرية ديوان ” كل غياب و أنت قريب” يتمحور لدى الشاعرة في بعدين دلالين:
– بعد أول مرتبط بثيمة الحب يجعل مختلف المفارقات الضدية للاغتراب تتشخص في دراما شعرية لتصارع الوعي بالفقدان مع النزوع العشقي لحلم الاكتمال، من خلال رمزية لغة حلولية صوفية لذاتين عاشقتين، ومن تجسيدات ذلك الصوغ الشعري التالي:
تجلي الاغتراب في صورة الفقد والاغتراب:
( أيّتها الكأسُ
لك أن تدفني الطلاءَ الأحمرَ
في يتم الصورة
ولكِ أن تعدي العواصفَ على شفاه
القادمين
ولي رتابة الانتظار
وعلبة كبريت مبللة). من قصيدة ” علبة كبريت مبللة “
وهو مقطع لتعارض الصورة الشبقية الاخصابية للجسد بصور الفقد والغياب متمثلة في الانتظار واليتم والانطفاء و خمود العواصف والحرائق.
تجلى الاغتراب في الصورة الحلمية النقيض بما هي تحقق للذات واكتمال لها:
( ولأن الصمت صحو الكلام
ولأن الغياب تأويل الحنين
ولأن البدايات سن حليب الحكايات
كيف أنضج هاهنا
بين قوقعة الضوء
وفصاحة المطر؟
كيف أستعير من الشِعر ضفائرهُ
كي أمسح البداوة عن اللونِ
وهو يصهل خارج عشّ المجازات؟
كيف أُخرجُ العشبَ من سذاجة التلعثم
وبين الرمل والمرأة مساحة كفٍّ ؟
جمرٌ يفتحُ ببلاغةِ الرماد أزرارَ
حمرتي
كيف أنام
وخرائطي فيكَ
غير معبدةٍ باللقاء؟
كؤوسُ فارغة من الطريق
تلوكني على قش الانتظار
كيف أصرف الخريف عن تبن الليل
وهذه الغواية تعتصرُ الموج من الزبد؟) من قصيدة ” أختصرني فيك “
وعلى نسج هذا التواتر الشعري للمفارقات الضدية الاغترابية يتشاكل المعنى الشعري ويصوغ رموزه التعبيرية من العالم الوجداني للأنا الشعري ، ومن الرمز الطبيعي ( رمزية الماء والطين ورمزية النار والريح )، ونسوق هنا استدلالا ثانيا للقارئ الكريم.
– صورة الاغتراب كفقد وغياب على مستوى الواقع:
(لا تخش تسلقَ دمي
وأنا أموءُ على صدرِ الغيابِ بعشقِكَ
ها يوجعني حياد السماء
و أنا أحتطب بالغيابِ الغيمَ
لأقشرني من مساءاتٍ جافة منك
أنا الطاعنةُ بالجمرِ
و هذا الليل بلا نجوم تتوقد بك
يقطعُ أوصالكَ من أوصالي
أتلاشى في العبورِ
نازحة تجمعُ بالاستعارات
فتاتَ وطنٍ بعيد). من قصيدة ” كثيرة أنا بك”.
صورة الاغتراب كصبو لمحو الغياب والفقد وحلم بالاكتمال:
(أنا هنا ورئتاي أنتَ
كل الكؤوس تفيض بك
والشوارعُ تستنسخك في خطوي
في ظلي
في مداي
فكيف لا ألبسكَ
وأنتَ الماءُ
النارُ
وأنا كلُّ هذه المسافة
وكلُّ هذا الشوق .
الميمُ مطرٌ يغسلُ الياسمينَ
من الجرحِ
والراءُ ريشٌ يغطي القصيدةَ
من العريِّ
يكنسُ جثةَ النجومِ من الطريق
إلى الوطن .
في ذاكرتي حلم سنحياهُ
على مائدتي فنجانٌ سنشربهُ .
في دولابي فساتين جديدة تنتظر
الرقص بين يديك
على شفاهي ينام اسمك
يقفز في كل حديث
كومضةِ مطرٍ على خيمةٍ يباب). من قصيدة ” فساتيني تنتظرك “
لعلنا لا نحتاج إلى مزيد من كثرة الإيرادات والشواهد ليتبن بجلاء للقارئ أن قصائد الديوان متجانسة الصوغ في التعبير سيميائيا ورمزيا عن دلالات المفارقات الاغترابية الضدية التي تمنح لهذه الكتابة الشعرية خصوصية مميزة، فلغة الشاعرة بالغة الأناقة والشفافية، منضدة إيقاعيا تنضيدا يعتمد أسلوبية غنائية منصهرة بلاغيا بتشاكل الرموز الذاتية والطبيعية.. هذا إلى جانب فيض الصور الشعرية ذات المنزع الحلولي الصوفي لتماهي ذاتي العاشقين في حلم الاكتمال لرسم أفول صورة واقع رمادي شاحب منطفئ الملامح لا يعرف حرارة الوجود من حب و حياة وشعور الأنا بأنها تحررت من مختلف أشكال غربتها الواقعية و الوجودية وتخلصت من قيود واقع موسوم بالاحباطات والانكسار و فقدان المعنى.
– أما البعد الذاتي فهو المنزاح عن “ثيمة الحب” إلى موضوعة “سقوط الواقع” والتي يجوز أن نعبر عنها بالإخفاق الاجتماعي أو انحطاط الواقع أو الانكسارات الفردية والجماعية في وجودنا العربي .. وفي هذا المستوى أيضا تنهض اللغة الشعرية على اعتماد جماليات المفارقة والتضاد لتجسيد الملمح الاغترابي، لكن هذه المرة نجد أن المفارقات الاغترابية الضدية اتخذت نسقا تعبيريا مخالفا للسابق الذي يقوم على رمزية الحلول الصوفي لمحو مسافات الاغتراب بين الواقع وحلم الذات بالاكتمال .. لا، هنا نجد أنفسنا بصدد توظيف رمزي (أسطورة الفردوس المفقود) فكيف شخصت الشاعرة في رسم علاقة الأنا الشاعرة بواقعها الاجتماعي وعلاقة الكينونة المتكلمة بمحيطها الوجودي.
لكي نقف على ذلك يجب أن نذهب إلى قصيدة مثل “سحابة حب” ونقرأ منها:
( بين الحبِّ والسحبِ
سلطانٌ من الأندلس يبكي
سياسيٌّ يبيعُ التاريخ إلى مومس
سيزيف يرتقُ اللغة بالريحِ
أشباحٌ تحرس الأرضَ من ذاكرةِ المطرِ
مرآةٌ لا عيونَ لها
فرمت مجازها للظلام .
بين الحبِّ والسحبِ
روحُ شاعرٍ على ظلٍّ راكدٍ
يطاردُ جماجمَ ترعى في رأسه
طائرٌ مصابٌ بفوبيا التحليقِ
لهفةٌ عالقةٌ في جيبِ الطريقِ
صخرةٌ تلوكُ قلبها بغدها على صدرِ رصاصةٍ
ليلٌ أصلع يدخن أصابعه
ويحلم بضفائر الشمسِ
قصيدة تأكل أنوثتها).
هو ذا نص يرسم في صور شعرية رمزية مبهرة ومحكمة الصوغ التخييلي عناصر التفكك والانكسار والسقوط في واقع اجتماعي ووجودي ترفضه الذات الشاعرة .. مبرزة مظاهر الفقد والغياب والاغتراب في مناخاته، راسمة تراجيديا سؤال الهنا / الآن في زمن موسوم بالنفي والقهر وغياب القيمة الإنسانية.
ومقابل هذا المستوى تنزاح القصيدة إلى صوغ عالم مفارق وضدي لانتفاء الوجود الواقعي الأول بكل مظاهره السلبية، عالم لردم الشعور بالغربة والاغتراب وهو عالم كما سنرى وعلى نحو رمزي ينزع صوب صورة عالم منظور في اللاوعي الفردي الجماعي، إنه عالم “الفردوس المفقود” كصورة رمزية بديلة للواقع الاجتماعي المتفكك، عالم فردوسي مفقود لا كتبشير ببديل تعويضي أو هروبي، بل كرمز لأطروحة نقيض ووعي بديل محمول على معنى التمرد على اليأس وسقوط الواقع والعودة بالكينونة إلى مأصل تأسيسات وجودها المطلق المكتمل بكل تشخيصاته الرمزية.. ونقرأ من ذلك:
( قالَ ذاتَ شرفةٍ:
لو الزمن غير الزمن
لكان الموقف أجمل
وأطرق ملفوفاً بالضباب.
أقولُ:
لو
محض صبار يخاف الماء
أيها الفارس البعيد
البازغ في سواد النخل
من زهرة ديلمون
امنحني تأشيرة الحياة
أرفعْ عشبَ صدرِكَ
فهناك يغفو حلمي
ونكاية بالورد
دعني من رضابك
أصنعُ عطري .
يا جلجامش القلب
أنا عشبةُ الخلدِ
فلا تترك المسافة تلعقُ من العينِ
قهقهات الألوان ،
ولا تدعِ الصمتَ يمتصُّ الحبرَ
من حقول الزعفران
أيها القريب البعيد )
من قصيدة ” ذات شرفة “
من أي زمن شعري تفجؤنا الشاعرة زكية المرموق بصورة زهرة ديلمون وصورة جلجامش وعشبة الخلود لتعيدنا إلى الأزمنة الأسطورية البدئية، ماحية كما تذكر في النص الطرق والمسافات و الحواجز والأزمنة والأمكنة وصولا مطلق وجودي لا يعرف الفقد والنقص والاغتراب .. مطلق هو من الناحية الرمزية معادل لـ “الفردوس المفقود”.
ليس في هذه القصيدة وحدها، بل في أكثر من سياق و بلغة استعارية مشذبة تصل الشاعرة إلى مسح عتمات صورة الواقع بآخر بديل يستمد عناصر تكوينه من الترميز الدال على أسطورية الفردوس المفقود، كما هو جلي في هذا الاستشهاد الذي نختتم به والذي يعقد توأمة إيحائية مع رمزية الأندلس الضائع:
(يقولُ:
هات جرحك أنام فيه كلما اختنقت
أقولُ :
أنا نورسةٌ خرجتْ عن سربها
دعني أمشي إليكَ
بكل ما للنوافذ من نوافل
بكل ما للأطلسِ من شرفات
بكل ما للأندلسِ من امتدادكَ
فأنت الوطن
وما تلاك منافي)
نعم .. كل الأمكنة في هذا الواقع اغتراب ومنافي، ولا وطن حقيقي إلا هناك في ذلك الأصل المفقود، الأصل والامتداد لهذه الكينونة المجروحة بانشطاراتها لتستعيد كليتها واكتمالها.
> بقلم: محمد علوط