«حرب بين اللغات في المغرب» عبارة تتردد على مسامعنا كثيرا في الآونة الأخيرة، حيث بدأ الجدل ولم ينته بعد حول موضوع لغات التدريس بالموازاة مع مناقشة مشروع قانون الإطار رقم 51.17 المتعلق بمنظومة التربية والتعليم والتكوين والبحث العلمي، مشروع طال انتظاره منذ سنوات ولم يزده دخوله إلى قبة البرلمان مع بداية العام الحالي سوى تعقيدا، حيث قاد السجال بين المكونات السياسية للغرفة التشريعية وحتى بين مكونات بعض الفرق البرلمانية نفسها إلى دخول مناقشة المشروع مرحلة «بلوكاج» لا يعرف مداها.
الموضوع شكل منذ فترة مادة دسمة للتصريحات والتصريحات المضادة، ومناسبة لتجديد المواقف الثابتة بالنسبة للبعض ومراجعتها بالنسبة للبعض الآخر، والتعبير عن هذه المواقف المختلفة ضمن بلاغات وبيانات ومقالات.. بل إن النقاش الجاري حول لغات التدريس أغرى عددا من الباحثين والمثقفين بالغوص مجددا في إشكال اللغة والهوية، وذلك ضمن كتابات تحاول تلمس رؤية واضحة للهوية اللغوية لمغرب يعيش لحظة تعطش لنموذج تنموي جديد.
بيان اليوم تحاول من خلال هذه الفسحة الرمضانية تجميع شتات المواقف والأفكار، وهي المحاولة التي شكل الاطلاع على كتاب «المغرب.. حرب اللغات؟» – باللغة الفرنسية- الصادر عن دار النشر «بكل الحروف» (En Toutes Lettres) حافزا لها من حيث أن الكتاب جاء كمبادرة لرصد وجهات نظر عدد من المثقفين واللغويين المغاربة إزاء السؤال اللغوي ببلادنا. ولذلك فسنعمل على تقديم الآراء والتجارب التي يحفل بها الكتاب، فضلا عن تجميع باقي المساهمات في هذا النقاش الوطني، والتي ستتوفر لدينا من مختلف المشارب، إذ يشكل هذا الموضوع مجالا خصبا لتعبيرات كثيرة عن مجتمع مغربي يبحث عن بصيص نور يضيء الطريق، وهذا هو هدف هذه المحاولة، نحو رؤية أفضل لمغرب يبقى فوق كل شيء وفيا لسمته كمغرب للتعدد والتنوع.
“قبل البحث عن الوسائل، يجب التوافق حول الهدف”. وانا أقرأ هذا الصباح الأفكار المركزة لفصل “تكييف المؤسسات” لتزيفيطان طودوروف، عادت إلى واجهة تفكيري مسألة اللغة أو اللغات المطروحة اليوم للنقاش.
أولا لأن هناك من المثقفين من عبروا عن رأي في الموضوع وهناك هيآت سياسية عبرت عن موقف، كما أن هناك نقاشات تدور في أفلاك عدة لا يصل موقفها ولكن يصل صداها، والجميع مدعوون إلى المساهمة في بلورة نقاشات وصياغة مواقف في هذا الباب.
لنكن قريبين من المنطق، منطق العصر ومنطق السياق المغربي. فالمنطق الأول يدعو العالم اليوم إلى تكسير الحدود والتسلح بمعرفة العالم عبر لغاته التي هي مفتاح فكره وحضاراته؛ ويسير المنطق الثاني في اتجاه دعم مبدإ مغرب متعدد وارف الظلال، يغترف من هويته ويرتكز على تعدده.
وإذا اعتبرنا الدستور أسمى التعبيرات عن توافق الأمة، يجب أن نحتكم إليه. ففي الدستور، بما لا يدع لا مجالا للشك ولا هوامش للمزايدة، ما يكفي لرسم الطريق.
اللغات الوطنية هي الأسمى، وعمادها التعدد الثقافي، إذ “تظل العربية اللغة الرسمية للدولة. وتعمل الدولة على حمايتها وتطويرها، وتنمية استعمالها. […] تعد الأمازيغية أيضا لغة رسمية للدولة، باعتبارها رصيدا مشتركا لجميع المغاربة بدون استثناء.
[ثم] تعمل الدولة على صيانة الحسانية، باعتبارها جزءا لا يتجزأ من الهوية الثقافية المغربية الموحدة، وعلى حماية اللهجات والتعبيرات الثقافية المستعملة في المغرب، وتسهر على انسجام السياسة اللغوية والثقافية الوطنية، وعلى تعلم وإتقان اللغات الأجنبية الأكثر تداولا في العالم؛ باعتبارها وسائل للتواصل، والانخراط والتفاعل مع مجتمع المعرفة، والانفتاح على مختلف الثقافات، وعلى حضارة العصر”.
فهناك اللغات الرسمية وهناك الهوية الثقافية المغربية الموحدة التي تقتضي مباشرة حديثا عن الحماية وعن التطوير وعن تنمية الاستعمال والصيانة. ولكن هناك تعلم اللغات الأجنبية وإتقانها.
وقد حدد الدستور التداول والشيوع مبادئ لاختيار تلك اللغات الأجنبية لما لها من صلة بالتواصل أولا وبالمعرفة ثانيا.
هذه مبادئ عامة لا يجب أن نحيد عنها لنستبدل النقاش الصحي بلغو لا يفيد تقدمنا ورغبتنا في تجاوز المعيقات.
فإذا عرجنا على النقاش الدائر اليوم حول موضوع اللغات، سوف نلاحظ أن بعضه ينزع نزوعا إلى خلق ثنائية قائمة على التضاد بين اللغات الوطنية واللغات الأجنبية. الشيء الذي يبدو – لي شخصيا -مجانبا للصواب، لأن مثل هذا التعارض يوهم بوجود مغرب منغلق على نفسه مكتف بذاته، وفي غير حاجة إلى النوافذ التي فتحها على مر العصور والأزمنة وما يزال يسعى إلى فتحها. ثم لأن هذا التعارض يوقعنا في حرب إيديولوجية تربك الفكر الحر بدل أن تغذيه، بل تسقط الحديث عن اللغة/اللغات في بركة آسنة قوامها الهلع والخوف على أمة من مساس بهويتها [كذا] إن هي تجرأت على انفتاح برامجها التعليمية على اللغات الأجنبية.
ثم لا أدري كيف يصبح الحديث عن اللغات الأجنبية مقترنا باللغة الفرنسية وحدها، ليقود إلى مجابهة إيديولوجية أخرى بين العربية والفرنكوفونية دونهما.
فليس من مصلحة فكرنا اليوم، ومصلحة مدارسنا التي يعول عليها في “صيانة” هذا الفكر، أن نسقط من مقارباتنا مسألتين:
> تتعلق الأولى بالإضافة النوعية التي حملها الاعتراف الرسمي بالأمازيغية، مع ما ينتظر من استكمال لترسيخ العمل بها. فقد ساهم ترسيخ الأمازيغية والنضالات من أجلها في إعادة الاعتبار للهوية المغربية والعمل على إبرازها مقوما لم يعد من الممكن المساس به؛ كما ساهمت إعادة الاعتبار هذه في تقوية صروح الهوية المغربية، وترتب عنها تعبيد طريق لا رجعة فيه هو طريق التعدد اللغوي والفكري.
>وترتبط الثانية بفرص لا يجب تفويتها لاستعادة الإشراقات التي حملها الماضي القريب في المدرسة، كما في الحياة الفكرية والأدبية: إشراقات المغاربة الذين ألفوا وبرعوا في نشر فكر متوقد رصين في مختلف المجالات باعتماد اللغة العربية واللغات الأجنبية التي هيمنت عليها الفرنسية. غير أنها لم تكن اللغة الوحيدة التي اغترف منها ذلك الفكر. وليعد من يريد التأكد من ذلك إلى مصادر المفكرين المغاربة من مختلف المشارب وفي مختلف المجالات ليتأكد من الأمر. لنعد إلى كتابات العروي والجابري وطه عبد الرحمن والمهدي المنجرة ولنعد الى كتابات النقاد والأدباء وإلى أعمال علماء الاجتماع والمؤرخين والجغرافيين. بل أكاد أجزم بأن ما ميز أهل الفكر المغاربة هو ذلك التمازج اللغوي وذلك الاغتراف اللغوي من متون التراث العربي الاسلامي ومن مضان الفكر العلمي العالمي بالفرنسية وبالإنجليزية والإسبانية. ويوم كانت للعديد من الدول نافذة واحدة يطل منها على اللغات الاجنبية، كان في المغرب توقد فكري وانفتاح على اللغات سمح دائما بهامش من التميز.
واذا عدنا في الأخير لهيمنة الفرنسية على سواها من اللغات الأجنبية. يجب أن نذكر بأن هذه الهيمنة اقترنت بالظرفية السياسية (الاستعمار) وترسخت لكون اللغة الفرنسية نفسها كانت تسمح بالاطلاع على الأعمال العلمية والفكرية بفعل حركية الترجمة إليها والقفزة التي عرفها النشر بعد اليقظة التي أحدثتها رجة ماي 68 وما أتاحته من تحرر من الفكر الكلاسيكي المهيمن قبلها.
ولكن، هل يمنعنا أحد اليوم من توسيع العمل على الانفتاح على اللغات الأجنبية “الأكثر تداولا” وعلى رأسها الإنجليزية ثم الإسبانية، ولغات أخرى تفرض نفسها بحكم القوة الاقتصادية لدولها وتوسع رقعة الاهتمام بها؟!
ولكي أجمل الحديث في الموضوع، أقترح أن يقترن الحديث عن اللغات الوطنية بالتعدد وبالتخلص من خوف من المساس بهويتنا التي إن أردنا صونها عملنا على إبراز مقومات الثقافة المغربية بتعدد مشاربها.
وليعلم الخائفون أن العامل الديني يساهم في حماية اللغة العربية والتداول يقوي حضورها، تماما مثل الأمازيغية التي لا يمكن لعاقل أن يتصور امحاءها لأنها لغة التواصل اليومي والإبداع والوجدان. وما علينا إلا أن نشمر على السواعد لتهيئة تصور عملي يخدم الفتيان والفتيات ويعبد الطريق أمام الشباب ليكون صلب الهوية متوقد الفكر، قادرا على المنافسة على الإبداع والابتكار بمختلف اللغات التي تفرض نفسها اليوم في مجال الفكر العلمي وفي ظل مجتمع المعرفة الذي نؤمن به ونعمل من أجله.
(*) مقالة للدكتور عمر حلي، عميد رئيس جامعة ابن زهر وعضو المجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي، كتبها في مارس 2019.
> إعداد: سميرة الشناوي