سنة من تدبير جائحة كورونا

لم ينتظر المغرب تفشي جائحة فيروس كورونا المستجد (كوفيد 19)، بل سارع في 20 مارس 2020 لفرض حالة الطوارئ الصحية لكبح جماح الجائحة. ولعل هذه المقاربة الاستباقية التي أطلقها جلالة الملك محمد السادس كانت مفتاح النجاح في مواجهة هذه الأزمة الصحية غير المسبوقة وتدبيرها بطريقة ناجعة، ولاقت اهتماما دوليا واسعا.
مقاربة اعتمدت عدة محاور؛ أبرزها الجانب الصحي من خلال اعتماد تتبع تطور الجائحة وتعزيز البنيات الصحية الأساسية، والجانبان الاجتماعي والاقتصادي عبر تقديم مساعدات للفئات الهشة والمقاولات في وضعية صعبة، ثم الجانب النفسي من خلال توفير خدمات الإنصات وتقديم الدعم لمجابهة تداعيات الحجر والعزل على المواطنين، فضلا عن اعتماد مقاربة ذات حس بيداغوجي للتواصل، من خلال عرض الحصيلة اليومية لتدبير الجائحة ومكافحة الأخبار الزائفة.
وقد تجلت، منذ ظهور الحالات الأولى للوباء عالميا، أولى علامات الاستثناء المغربي في اهتمام جلالة الملك بوضعية المغاربة الموجودين بإقليم ووهان الصيني، وإعطاء جلالته تعليماته السامية لإعادتهم إلى أرض الوطن، مع اتخاذ التدابير اللازمة على مستوى وسائل النقل الجوي، والمطارات الملائمة والبنيات التحتية الصحية الخاصة للاستقبال.
ثم في مرحلة ثانية، تم تنظيم رحلات لفائدة المغاربة المقيمين بالخارج سواء من أو إلى بلدان الاستقبال، بعد أن تعززت السفارات والقنصليات المغربية بخلايا أزمة لتتبع وضعية المغاربة في الخارج وحثهم على الامتثال للتدابير المتخذة من قبل السلطات المحلية.
وبمجرد تسجيل أول إصابة بالفيروس بالمملكة يوم ثاني مارس 2020، اتخذت السلطات المغربية، على نحو تدريجي، تدابير احترازية (إغلاق المجال الجوي للمملكة وحدودها، ومنع التظاهرات الرياضية والثقافية، وإغلاق جميع المدارس والجامعات، وحظر التنقل بين المدن …)، وأخرى تواصلية من قبيل إطلاق خدمة “آلو اليقظة الوبائية” للمساعدة الطبية المستعجلة وتقديم المعلومات حول الفيروس، ثم تطبيق “وقايتنا” لتعزيز نظام تتبع المخالطين والإشعار باحتمال التعرض لعدوى كورونا.
وفي سياق تضافر الجهود بين الدولة ومختلف مكونات المجتمع، تم في 11 مارس 2020 الإعلان عن إنشاء لجنة اليقظة الاقتصادية لتتبع انعكاسات جائحة كورونا والإجراءات المواكبة، وذلك في إطار المجهودات الاستباقية التي تقوم بها الحكومة لمواجهة الانعكاسات الاقتصادية المباشرة وغير المباشرة للوباء على الاقتصاد الوطني.
وتحقيقا لهذه الغاية، أمر صاحب الجلالة باعتماد مقاربة استباقية لمجابهة الوباء، وتعزيز الإجراءات الوقائية والاحترازية غير المسبوقة، التي اتخذتها القطاعات والمؤسسات المعنية، بهدف الحد من انتشاره، ومواجهة تداعياته الصحية والاقتصادية والاجتماعية.
كما وجه جلالة الملك السلطات المختصة للسهر على حسن تطبيق التدابير الناجعة المتخذة في مجال ضمان تزويد الأسواق عبر التراب الوطني، بجميع المواد الغذائية والاستهلاكية، وبمواد التطهير والتعقيم، بصفة منتظمة ومتواصلة، ومحاربة مختلف أشكال الاحتكار والزيادة في الأسعار.
ولعل ما صنع أيضا الاستثناء المغربي في الاستجابة لتداعيات الجائحة، زخم التضامن الوطني الذي أعطى انطلاقته صاحب الجلالة في 15 مارس 2020 من خلال إعطاء تعليماته السامية للحكومة قصد الإحداث الفوري لصندوق خاص لتدبير ومواجهة وباء فيروس كورونا، يخصص للتكفل بالنفقات المتعلقة بتأهيل الآليات والوسائل الصحية، سواء في ما يتعلق بتوفير البنيات التحتية الملائمة أو المعدات والوسائل التي يتعين اقتناؤها بكل استعجال.
كما خصص هذا الصندوق لدعم الاقتصاد الوطني من خلال مجموعة من التدابير المقترحة من طرف الحكومة، لاسيما في ما يخص مواكبة القطاعات الأكثر تأثرا بفعل انتشار فيروس كورونا، كالسياحة، وكذا في مجال الحفاظ على مناصب الشغل والتخفيف من التداعيات الاجتماعية لهذه الأزمة، وتوزيع الدعم على الأشخاص المتضررين من الحجر الصحي.

تعبئة واسعة

وحرصا من جلالة الملك محمد السادس، القائد الأعلى ورئيس أركان الحرب العامة للقوات المسلحة الملكية، على الرفع من قدرات المنظومة الصحية الوطنية في مواجهة هذا الوباء، أعطى جلالته تعليماته السامية بتكليف الطب العسكري بشكل مشترك مع نظيره المدني بالمهمة الحساسة لمكافحة وباء كوفيد 19.
وإضافة إلى ذلك، وبهدف التغلب على بعض أشكال الخصاص الذي تمت معاينته في محاربة هذا الوباء، وتسهيل نقل وتبادل المعلومات بين مختلف المصالح المعنية، أعطى جلالته تعليماته السامية لتعبئة وسائل الطب العسكري لتعزيز الهياكل الطبية المخصصة لتدبير هذا الوباء، من خلال الطاقم الطبي وشبه الطبي للقوات المسلحة الملكية، وذلك ابتداء من يوم الاثنين 23 مارس 2020.من جهة أخرى، وفي إطار العناية الموصولة التي يحيط بها جلالة الملك رعاياه نزلاء المؤسسات السجنية والإصلاحية، تفضل أمير المؤمنين بإصدار عفوه المولوي الكريم في أبريل المنصرم، على 5654 معتقل، وأصدر أوامره باتخاذ جميع التدابير اللازمة لتعزيز حماية نزلاء المؤسسات السجنية، خاصة من انتشار وباء كورونا المستجد.
الطبيعية واستئناف الأنشطة الاقتصادية والاجتماعية بمجموع التراب الوطني، تنزيل مخطط التخفيف من تدابير الحجر الصحي حسب الحالة الوبائية لكل عمالة أو إقليم وبصفة تدريجية عبر عدة مراحل، ابتداء من 11 يونيو 2020.
ومن بين الأمور التي ساعدت كذلك على كسر شوكة الجائحة أن المغرب كان من الدول السباقة إلى اعتماد برتوكول علاجي أثبت نجاعته في مواجهة الوباء، وإلى تحديد اللقاحات المناسبة لظروفه مبكرا (المتعلقة بالتخزين والتبريد)، من خلال اختياره لقاحي “أسترا زينيكا” و”سينوفارم”، وتقديم طلبياته بخصوصهما، قبل صدورهما، في وقت لم تكن دول عديدة قد حسمت خياراتها.
وبفضل هذه الرؤية الاستباقية، تمكنت المملكة من الحصول مبكرا على جرعات مهمة من اللقاحين (بلغت 8,5 ملايين جرعة)، ووضعت من أجل إنجاح حملتها الوطنية إستراتيجية تلقيح على المستوى الوطني والإقليمي والمحلي، حيث تم تهييئ مستودع وطني لتخزين اللقاحات، ووضع خطة الاستقبال وتخزين وتوزيع اللقاح في ظروف آمنة، فضلا عن إحداث محطات للتلقيح، عبارة عن وحدات ملحقة بالمراكز الصحية، تقدم خدماتها عبر نمطين؛ النمط القار باستقبال الساكنة بمحطة التلقيح، والنمط المتنقل حيث تنتقل الفرق الملحقة بمحطة التلقيح، وفقا لبرنامج محدد مسبقا للنقاط المعدة لهذه العملية كالمستشفيات والجامعات.
وعلى الرغم من انكبابه على مجابهة الجائحة وتداعياتها داخل المملكة، لم ينس المغرب أشقاءه الأفارقة، إذ اقترح صاحب الجلالة الملك محمد السادس، في 13 أبريل 2020، إطلاق مبادرة لرؤساء الدول الإفريقية تروم إرساء إطار عملياتي بهدف مواكبة البلدان الإفريقية في مختلف مراحل تدبيرها للجائحة. ويتعلق الأمر بمبادرة واقعية وعملية تسمح بتقاسم التجارب والممارسات الجيدة لمواجهة التأثيرات الصحية والاقتصادية والاجتماعية للجائحة.
كما أعطى جلالة الملك، في 14 يونيو 2020، تعليماته السامية لإرسال مساعدات طبية إلى عدة دول إفريقية شقيقة، تتكون من حوالي ثمانية ملايين كمامة، و900 ألف من الأقنعة الواقية، و600 ألف غطاء للرأس، و60 ألف سترة طبية، و30 ألف لتر من المطهرات الكحولية، وكذا 75 ألف علبة من الكلوروكين، و15 ألف علبة من الأزيتروميسين.

إشادة دولية

وفي هذا الصدد، أشادت منظمة الصحة العالمية بمبادرة جلالة الملك محمد السادس المتعلقة بمنح مساعدات طبية للبلدان الإفريقية، حيث رحبت بهذا العمل الخيري السخي، “الذي يشكل تمظهرا أصيلا وملموسا للتضامن الإقليمي” في مكافحة الجائحة.
إجراءات ذكية وناجعة مثل هذه، وأخرى كثيرة اعتمدتها الحكومة طيلة فترة تدبير الجائحة من أجل التنزيل الأمثل للتوجيهات والتعليمات الملكية السامية، باعتبارها خارطة طريق لمواجهة الجائحة، لاقت تنويه وإشادة العديد من الهيئات الدبلوماسية والمؤسسات والمنظمات الدولية من قبيل البنك الدولي ومنظمة الصحة العالمية، وكذا عدد من الدول، على رأسها تكتل الاتحاد الأوروبي الذي أكد أن المغرب عرف كيف يتصرف بسرعة وفعالية، من خلال الانكباب على معالجة مختلف جوانب محاربة فيروس كورونا بكيفية منسقة على مستويات عدة.
نفس الموقف عبرت عنه العديد من المنابر الإعلامية العالمية المرموقة، التي أشادت بجهود جلالة الملك محمد السادس في تدبير الأزمة الصحية وآثارها السلبية، ثم في إنجاح الحملة الوطنية للتلقيح ضد فيروس كوفيد 19 التي أشرف جلالة الملك على إطلاقها، يوم 28 يناير الماضي، بالقصر الملكي بفاس.فقد برز المغرب كنموذج يحتذى على الصعيد القاري والدولي، من حيث تسارع وتيرة التلقيح، وهو ما سلطت عليه الضوء صحيفة “كورييري ديلا سيرا”، الإيطالية ذائعة الصيت، في مقال مطول بعنوان “المغرب أفضل من فرنسا وإيطاليا”، اعتبرت فيه أن المملكة تتقدم ضمن التصنيف العالمي بثبات في ما يخص التطعيم ضد كورونا، مشيرة إلى أن الحملة غطت نسبة أعلى من السكان، مقارنة بإيطاليا وفرنسا وجل الدول الأوروبية.
وأضافت الصحيفة الإيطالية أنه بالرغم من أن القارة الإفريقية، التي ينتمي إليها المغرب، تعد عرضة للخطر بشكل خاص، إلا أن المملكة كانت “استثناء فريدا في التطعيم ضد الفيروس”.
وبفضل تدبيره المثالي للأزمة الناجمة عن جائحة كوفيد 19 على كافة المستويات، والتي تعد عملية توفير اللقاحات وإطلاق حملة التلقيح أحدث حلقاتها، أصبح المغرب أحد النماذج التي يحتذى بها عالميا بعد أن صنفه المكتب الإقليمي لمنظمة الصحة العالمية ضمن الدول العشر الأوائل “التي أكملت بنجاح تحدي التلقيح ضد كوفيد 19”.
وبعد نحو ستة أسابيع من انطلاق حملة التلقيح، تشير أحدث الأرقام الرسمية إلى أن المغرب تجاوز 4 ملايين و225 ألف و311 جرعة أولى، ومليون و167 ألف و472 جرعة ثانية، ليصل مجموع الجرعات إلى 5 ملايين و992 ألف و783. كما أن مليون و767 ألف و472 مواطن مغربي وأجنبي استكملوا تلقيحهم بتلقيهم جرعتين من اللقاح.
والواقع أن النجاح الذي تشهده حملة التلقيح الوطنية لفائدة المواطنين المغاربة والأجانب المقيمين بالمملكة، ما هو إلا امتداد للنجاحات التي راكمها المغرب منذ ظهور أول حالة إصابة بالوباء. فرغم صعوبة المرحلة ومفاجأة الجائحة لكل دول العالم، إلا أن انخراط المغاربة في هذه المعركة بمختلف شرائحهم وأطيافهم، وبروح عالية من الوطنية والتضحية، استرشادا بالتوجيهات الملكية السديدة والاستباقية، جعل المغرب يتبوأ مكانة متميزة ضمن طليعة الدول على صعيد العالم.

Related posts

Top